في كل تفصيلة من تفاصيله، يروي "التابوت الأخضر" حكاية مصرية ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ... حكاية حياة ما بعد الموت، والإيمان الأبدي بالبعث والخلود، وحكاية أخرى معاصرة لا تقل أهمية، عن جهود مصر في حماية إرثها الثقافي واستعادة آثارها المهربة. غطاء تابوت الكاهن عنخ ماعت، الذي يعود إلى العصر المتأخر، يُعرض اليوم في بهاء لافت بالمتحف المصري بالقاهرة، بعد أن قطع رحلة طويلة من التهريب والاستغلال إلى التكريم والاسترجاع. ** هوية التابوت الأخضر وأبعاده الرمزية غطاء التابوت الأخضر هو قطعة فنية جنائزية تنتمي للعصر المتأخر في مصر القديمة، ويعود للكاهن "عنخ ماعت". يتميز التابوت بهيئته الآدمية المصبوغة بألوان رمزية: وجه أخضر يرمز إلى الإله أوزوريس، سيد الموتى، ودلالة على البعث والنماء، في حين أن بقية الجسد مطلية باللون الأسود الذي يُشير إلى التربة الخصبة ودوام الحياة بعد الموت. يتزين الغطاء بباروكة شعر وقلادة وأعين مطعمة، إلى جانب خمسة أعمدة عمودية من التعاويذ الهيروغليفية المقتبسة من "كتاب الموتى"، وهي تعاويذ وُضعت خصيصًا لحماية المتوفى ومساعدته في اجتياز العقبات خلال رحلته إلى العالم الآخر. ** رحلة الغطاء من التهريب إلى المتحف تم تهريب الغطاء، المصنوع بدقة من الخشب والجص الملوَّن، إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية عام 2008 بطريقة غير مشروعة. ثم وُضع في متحف هيوستن للعلوم الطبيعية عام 2013 على سبيل الإعارة من أحد جامعي المقتنيات، دون توفر الوثائق القانونية التي تثبت مصدره الأصلي. لاحقًا، كشفت التحقيقات التي قادتها جهات أمريكية ومصرية متخصصة في مكافحة تهريب الآثار، عن تاريخ القطعة ومصدرها المصري. وبعد جهود دبلوماسية وتنسيق عالي المستوى بين وزارة الخارجية المصرية والنيابة العامة والجهات الأمريكية، تم استرداد التابوت رسميًا وإعادته إلى موطنه الأصلي في عام 2022. ** معروض في المتحف المصري بالقاهرة اليوم، يستقر غطاء التابوت الأخضر في مكانه الطبيعي داخل الطابق العلوي بالمتحف المصري بالتحرير، ليكون شاهدًا حيًا على حضارة لم تفقد قدرتها على الإدهاش، وعلى وطن لا يتوانى عن استعادة تاريخه مهما بعدت المسافات. الزائرون للمتحف يمكنهم تأمل التفاصيل الدقيقة لهذا الغطاء، من التعويذات إلى العناصر الزخرفية، والغوص في رمزية الألوان، وفهم كيف عبّرت مصر القديمة عن الحياة والموت والبعث من خلال الفنون الجنائزية. ** الرمزية الثقافية والإنسانية لا يُعد التابوت الأخضر مجرد قطعة أثرية، بل هو مثال صارخ على الصراع بين حماية التراث واستغلاله، وعلى الانتصار الذي يمكن تحقيقه عندما تتكاتف الدول والمؤسسات لاسترداد ما تم نهبه. كما يعكس روح مصر القديمة التي لم تتوقف عن تذكيرنا بقيمة الحياة، واستمرارية الروح، وسر الخلود. في زاوية هادئة من المتحف المصري، يقف التابوت الأخضر شامخًا، بعد أن عاد من الغربة، ليروي قصتين: قصة عنخ ماعت في رحلته للعالم الآخر، وقصة أخرى حديثة عن مصر التي لا تنام عن حقها. وبين هاتين الرحلتين، تظل هذه القطعة دعوة مفتوحة لكل زائر لتأمل الجمال، واستلهام الإرادة، وفهم التاريخ من قلبه النابض.