يُعد غطاء تابوت الكاهن عنخ ماات أحد القطع الأثرية الفريدة التي تحمل في تصميمها وألوانها رموزًا دينية عميقة تعكس المعتقدات الجنائزية للمصريين القدماء. يتميز الغطاء بوجهه الأخضر، مما أكسبه اسم "التابوت الأخضر"، بينما يتخذ باقي جسده اللون الأسود الذي يرمز إلى أوزيريس، إله البعث والحياة الآخرة. على مدى سنوات، مرّ الغطاء برحلة غير مشروعة عبر عدة دول، قبل أن يعود إلى موطنه الأصلي بعد تحقيقات دولية مكثفة أسفرت عن استعادته من الولاياتالمتحدةالأمريكية في عام 2022. في هذا التقرير، نسلط الضوء على أهمية هذا التابوت، وقيمته التاريخية والدينية، والرحلة التي خاضها حتى عاد إلى أرض مصر. غطاء تابوت الكاهن عنخ ماات: رمز ديني وجمالي فريد تصميم التابوت ومعانيه الرمزية: يتميز غطاء تابوت الكاهن عنخ ماات بتصميمه الفريد الذي يعكس المفاهيم الدينية للمصريين القدماء حول الحياة والموت والبعث. الوجه الأخضر يرمز إلى التجدد والحياة الأبدية، حيث كان اللون الأخضر مرتبطًا بالإله أوزيريس، الذي يمثل مفهوم البعث بعد الموت. أما اللون الأسود الذي يغطي باقي التابوت، فهو إشارة إلى التربة الخصبة لنهر النيل، التي كانت تُعتبر رمزًا للخصوبة والتجدد. يحيط بالوجه شعر مستعار طويل وقلادة مزخرفة، وهي عناصر تُظهر المكانة الرفيعة للمتوفى. كما تتزين العينان المبطنتان بالكحل، وهو أسلوب فني كان شائعًا في تصوير المومياوات لحمايتها من الأرواح الشريرة وضمان الرؤية في العالم الآخر. بالإضافة إلى ذلك، تزين الغطاء تعاويذ من "كتاب الموتى" منقوشة بخط هيروغليفي ذهبي، موزعة في خمسة أعمدة عمودية، وتهدف هذه التعاويذ إلى حماية روح المتوفى وإرشاده خلال رحلته في العالم الآخر. الحقبة التاريخية وأصل التابوت: يعود هذا الغطاء إلى الفترة المتأخرة من التاريخ المصري، وهي فترة شهدت تزايد الاهتمام بالتقاليد الجنائزية والرموز الدينية. وقد عُثر عليه في موقع أبو صير، وهو أحد أهم المواقع الأثرية في مصر، ويضم مقابر ومعابد تعود إلى عصر الدولة القديمة والفترة المتأخرة. اقرأ أيضًا| أعماق مكتبة المتحف.. «واحة سيوة» مخطوطات نادرة ب«خط اليد» رحلة تهريب التابوت عبر الحدود شبكة التهريب العالمية: مثل العديد من القطع الأثرية المصرية، لم يسلم غطاء تابوت عنخ ماات من عمليات النهب والتهريب. في عام 2008، قامت شبكة تهريب آثار بتهريب هذه القطعة عبر ألمانيا إلى الولاياتالمتحدة، حيث وصلت إلى أيدي أحد جامعي التحف. لم تكن هذه الحادثة الأولى من نوعها، إذ شهدت العقود الأخيرة تصاعدًا في عمليات تهريب الآثار المصرية إلى الأسواق العالمية، حيث تلقى هذه القطع اهتمامًا واسعًا من المتاحف والمقتنين الخاصين. عرض التابوت في متحف هيوستن للعلوم الطبيعية: بعد أن استقر التابوت في أيدي جامع التحف، قام بإعارته إلى متحف هيوستن للعلوم الطبيعية عام 2013. عُرض الغطاء في المتحف دون التحقق من مصادره الأصلية، وهو ما أثار تساؤلات حول شرعية حيازته. ظلت القطعة معروضة لعدة سنوات، إلى أن بدأت السلطات المصرية والدولية تحقيقات موسعة للكشف عن ملابسات وصولها إلى الولاياتالمتحدة. التحقيقات واستعادة التابوت: استغرقت التحقيقات عدة سنوات، بمشاركة السلطات المصرية والجهات المعنية في الولاياتالمتحدة، بما في ذلك مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) وإدارة الأمن الداخلي الأمريكية. أسفرت هذه الجهود عن التوصل إلى أدلة تثبت أن التابوت قد تم تهريبه بطرق غير قانونية. على إثر ذلك، قررت السلطات الأمريكية مصادرة الغطاء وإعادته إلى مصر. في عام 2022، تم تسليم التابوت رسميًا إلى السفارة المصرية في واشنطن، حيث تم نقله إلى القاهرة بحضور دبلوماسيين ومسؤولين من وزارة السياحة والآثار المصرية. اقرأ أيضًا| أصل الحكاية | «سيف التتويج» تحفة نادرة في متحف السلاح بقصر عابدين أهمية استعادة الآثار المصرية المنهوبة الجهود المصرية في استعادة القطع الأثرية تُعد استعادة غطاء تابوت عنخ ماات جزءًا من الجهود المستمرة التي تبذلها الحكومة المصرية لحماية تراثها الثقافي واستعادة القطع الأثرية المنهوبة. خلال السنوات الأخيرة، تمكنت مصر من استرداد آلاف القطع الأثرية المهربة من مختلف الدول، من خلال التعاون مع السلطات الدولية والمتاحف العالمية. اقرأ أيضًا| زاهي حواس يكشف كواليس فيديوهات مستر بيست في ندوة ب«فن القاهرة» التحديات التي تواجه مصر في استعادة آثارها: على الرغم من النجاح المتزايد في استعادة الآثار، تواجه مصر العديد من التحديات، من بينها: 1. تعقب القطع الأثرية المهربة: حيث تُباع بعض القطع في الأسواق السوداء أو يتم تهريبها عبر عدة دول قبل وصولها إلى وجهتها النهائية. 2. الصعوبات القانونية: بعض الدول تمتلك قوانين تسمح بحيازة الآثار إذا لم تكن هناك وثائق رسمية تثبت سرقتها، مما يعقد عملية الاسترداد. 3. المزادات العالمية: تعرض بعض القطع المصرية للبيع في دور المزادات الكبرى، مما يتطلب جهودًا دبلوماسية وقانونية لاستعادتها. إعادة التابوت إلى موطنه الأصلي نقل الغطاء إلى المتحف المصري: بعد عودته إلى مصر، تم إيداع غطاء تابوت عنخ ماات في المتحف المصري، حيث خضع لعمليات فحص دقيقة من قبل خبراء الترميم. تم التأكد من حالته وإجراء بعض أعمال الصيانة للحفاظ عليه. أهمية عرض التابوت في مصر: تمثل إعادة عرض غطاء تابوت عنخ ماات داخل المتحف المصري رسالة واضحة حول أهمية استعادة التراث الوطني وحمايته. يعكس وجوده في المتحف جزءًا من جهود الدولة في الحفاظ على الآثار المصرية من التهريب والسرقة، كما يتيح للزوار فرصة التعرف على هذه القطعة الفريدة وقيمتها التاريخية والدينية. اقرأ أيضًا| أصل الحكاية| «تمثال الملك خفرع» تحفة نحتية خالدة بالمتحف المصري يُعد عرض التابوت داخل المتحف فرصة لتعزيز الوعي الثقافي لدى الجمهور حول أهمية التراث المصري، وضرورة احترام القوانين التي تحميه من التهريب. كما أنه يساهم في إثراء التجربة السياحية لملايين الزوار الذين يأتون لمشاهدة الكنوز المصرية الأصلية التي تعود إلى أرضها بعد سنوات من الاغتراب. الدروس المستفادة من استعادة التابوت: 1. أهمية التعاون الدولي في حماية الآثار أكدت هذه القضية مجددًا على أهمية التعاون بين الدول في مكافحة تهريب الآثار. فقد لعبت الجهات المعنية في كل من مصر والولاياتالمتحدة دورًا رئيسيًا في تتبع مسار التابوت واستعادته، مما يعزز أهمية الاتفاقيات الدولية التي تحمي التراث الثقافي. 2. تعزيز القوانين والرقابة على تجارة الآثار تسليط الضوء على مثل هذه القضايا يدفع الدول إلى تشديد الرقابة على تجارة الآثار، سواء في المزادات العلنية أو داخل المتاحف. كما أن الجهود المستمرة لاستعادة القطع المنهوبة تساعد في الضغط على المؤسسات الدولية لتبني سياسات أكثر صرامة في مجال حيازة وعرض الآثار ذات المصادر غير المشروعة. 3. دور الإعلام في كشف قضايا التهريب أثبتت هذه الواقعة أهمية الإعلام في تسليط الضوء على قضايا تهريب الآثار، حيث لعبت التغطية الإعلامية المكثفة دورًا في جذب الانتباه إلى مصير غطاء تابوت عنخ ماات، مما ساعد في دفع الجهات المختصة إلى تكثيف جهودها لاستعادته. تُعد إعادة غطاء تابوت الكاهن عنخ ماات إلى مصر انتصارًا جديدًا في معركة استعادة التراث الثقافي المنهوب، وهي شهادة على الجهود الحثيثة التي تبذلها الدولة المصرية لحماية آثارها وإعادتها من مختلف أنحاء العالم. تعكس هذه القضية كيف يمكن للعمل المشترك بين الجهات الرسمية والدولية أن يسهم في حفظ التراث الإنساني، وتعزز من وعي المجتمع بأهمية الحفاظ على كنوز الماضي للأجيال القادمة. إن عودة هذه القطعة الأثرية إلى موطنها الأصلي لا تمثل مجرد استعادة لمجسم تاريخي، بل هي استرجاع لجزء من هوية مصر الثقافية والحضارية، وإشارة واضحة إلى أن التاريخ لا يمكن أن يُسرق، بل سيعود دائمًا إلى أصحابه الحقيقيين.