القضاء على الاستعمار كان ثاني أهداف الثورة، لكن يبدو أن ذلك المبدأ لم يقتصر على طرد المستعمر البريطاني من مصر، بل امتد إلى دبلوماسية تنشر ثقافة التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية في عصر كان أكثر من نصف العالم يرزح تحت وطأة الاحتلال وتغول السياسات الرأسمالية. مع نجاح الثورة وتطبيق إصلاحات اقتصادية وسياسية التفت العالم إلى ما يجرى فى مصر باعتباره نموذجًا يمكن محاكاته وانتبهت الدول الكبرى إلى عدو جديد، كما خرج الزعيم جمال عبد الناصر من العدوان الثلاثى كبطل ضد قوى الاستعمار يتحدث عنه العالم، لذلك عملت مصر على دعم الحركات الثورية المتأثرة بثورة 23 يوليو، خاصة فى الدول الإفريقية، ولازال قاموس أكسفورد يعرف كلمة «الناصرية» بأنها حركة سياسية لتحرير الدول العربية والإفريقية والآسيوية من احتلال الدول الغربية. ◄ اقرأ أيضًا | ثورة 23 يوليو| الحصن من ناصر إلى السيسي.. القوات المسلحة مشروع وطن لا ينكسر ◄ حركة عدم الانحياز أحد أبرز إنجازات مصر الدبلوماسية كان دورها فى تأسيس حركة عدم الانحياز عام 1961، التى وضع عبد الناصر مبادئها فى مؤتمر باندونج 1955 بالشراكة مع الزعيمين الهندى جواهر لال نهرو واليوغوسلافى جوزيف تيتو، فى تحرك سعى إلى خلق تكتل دولى يتجنب الانحياز للمعسكرين الشرقى (الاتحاد السوفيتي) أو الغربى (الولاياتالمتحدة) خلال الحرب الباردة. كان قرار تأميم قناة السويس عام 1956 نقطة تحول فى الدبلوماسية المصرية، أظهر القرار، الذى جاء ردًا على رفض الغرب تمويل السد العالي، قدرة مصر على تحدى القوى الاستعمارية الكبرى، بريطانياوفرنسا، فعلى الرغم من العدوان الثلاثى الذى تلاه، نجحت مصر دبلوماسيًا فى حشد الدعم الدولي، خاصة من الاتحاد السوفيتى والدول النامية، وأجبرت القوى الغربية على الانسحاب، وعززت الحرب صورة مصر كدولة مستقلة قادرة على الدفاع عن سيادتها. الدعم المصرى لحركات التحرر الإفريقية، خاصة فى الجزائر، كان أحد دوافع فرنسا للعدوان على مصر عام 1956، إذ ارتبطت ثورة الجزائر ارتباطًا وثيقًا بالثورة المصرية، ففى أوائل الخمسينيات صارت القاهرة المأوى لكل الثوريين الجزائريين. وعندما قامت الثورة الجزائرية فى أول نوفمبر 1954 أمر الرئيس جمال عبد الناصر بصرف كميات من الأسلحة الخفيفة للثوار الجزائريين، كما قدمت الدعم الإعلامى القوى من خلال إذاعة صوت العرب وغيرها، وعلى الصعيد السياسى ساعدت مصر فى تدويل القضية الجزائرية عبر مشاركة وفد من منظمة التحرير فى مؤتمر باندونج 1955. لم تكتف مصر بإمداد الثورة الجزائرية بالسلاح من الجيش المصرى، بل إن الرئيس الجزائرى الراحل أحمد بن بلة أكد أن الرئيس جمال عبد الناصر توسط لدى الزعيم الهندى «نهرو» حتى تحصل الجزائر على صفقة أسلحة هندية لمساعدتها فى التصدى لقوات الاحتلال الفرنسي، ووافق «نهرو» بالفعل وتم إرسال السلاح للجزائر. ◄ اقرأ أيضًا | ثورة 23 يوليو| «النجيب».. اختاره «الأحرار» للقيادة وتحمّل المسئولية بأمانة ◄ مانديلا يهرب إلى مصر الزعيم الجنوب إفريقى نيلسون مانديلا رأى فى نموذج ثورة 23 يوليو والإصلاحات السياسية والاقتصادية للرئيس عبد الناصر فرصة لإثبات أن الأفارقة قادرون على قيادة وطنهم، لذلك هرب من بلاده ليصل إلى مصر فى عام 1962 بعد جولة فى عدة دول إفريقية، حيث قابل عبد الناصر بصحبة عدد من رفاقه، وتعرف على ملامح النظام السياسى والاقتصادى المصري، كما كانت مصر أول دولة يزورها مانديلا بعد إطلاق سراحه عام 1990، ضمن جولة قام بها فى الدول التى ساندت إنهاء 27 عامًا من سجنه تحت نظام حكم الفصل العنصرى، حيث وضع الورود على قبر عبد الناصر وأكد خلال استقباله من جانب الرئيس حسنى مبارك على تأثره فى مسيرته الثورية بأفكار جمال عبد الناصر. ◄ ثورة الماو ماو الكينية كما ساندت مصر ثورة الماو ماو الكينية فى خمسينات القرن الماضي، عبر الدعم الإعلامى بإنشاء إذاعة موجهة باللغة السواحيلية باسم صوت إفريقيا التى بدأت كإذاعة سرية مقرها بإحدى الثكنات العسكرية بمنشية البكرى تتبع رئاسة الجمهورية مباشرة وفق كتاب «عبد الناصر والثورة الإفريقية» لمحمد فايق مسئول العلاقات الإفريقية فى عهد عبد الناصر، كما فتحت القاهرة أبوابها للزعماء السياسيين الكينيين لإيصال صوتهم للعالم، وكانت أول مقر خارج كينيا للأحزاب السياسية الكينية. ولم يقتصر الدور المصرى على حدود الإقليم العربى والقارة الإفريقية، بل امتد إشعاع النجاح المصرى إلى أقصى بقاع العالم، فبعد عام من الثورة الكوبية زار تشى جيفارا القاهرة عام 1959 لينقل للرئيس عبد الناصر أنه وفيديل كاسترو استمدا الشجاعة خلال الثورة من مقاومة مصر للعدوان الثلاثي، كما تعرف على نظام الإصلاح الزراعى الذى أعجب به كثيرًا، وفى زيارته الثانية 1965، تابع جيفارا مع ناصر افتتاح أحد المصانع بالمنوفية وناقش تحول الثورة إلى مشروعات لخدمة المواطنين. وفى أقصى غرب العالم، كانت بنما الدولة الصغيرة فى أمريكا الوسطى والتى لم تحتك يومًا بمصر تتابع بحماس تجربتها بعد تأميم قناة السويس، لاستخدامها كورقة ضغط على أمريكا للخروج من إدارة قناة بنما المورد الرئيسى للبلاد. ووفق تصريحات سابقة ل «جان بورسولو»، مدير قسم الأبحاث التاريخية فى متحف قناة بنما، إن نضال المصريين من أجل استعادة قناة السويس ألهم الكثير من البنميين، واعتبروه مثالاً يحتذون به من أجل استعادة حقوقهم وسيادتهم على قناة بنما. وأضاف «ما قام به الزعيم المصرى جمال عبد الناصر من تأميم قناة السويس والسيطرة عليها، كان له صدى كبير وحقيقى فى بنما، وكان سبباً فى بدء الحراك الشعبي» الذى بلغ ذروته فى عام 1964. وفى غضون سنوات قليلة من الثورة استطاعت الدبلوماسية المصرية النشطة أن تكسب ثقة الدول النامية وأن تصبح رمزًا للاستقلال والسيادة. هذه التحركات لم تعزز مكانة مصر فحسب، بل ساهمت فى تشكيل النظام العالمى فى منتصف القرن العشرين.