حوار: حسن عبد الموجود اللغة العربية هي الهاجس الأول للكاتب الإماراتي الدكتور علي بن تميم، إذ يرأس مركز أبوظبي للغة العربية التابع لدائرة الثقافة والسياحة، أحد حراس «لغة الضاد». تبدو مهمة المركز صعبة للغاية، فوسائل التواصل الاجتماعي تسببت في ركام من المعلومات المبتورة والمغلوطة، مع تشويه اللغة بشكل غير مسبوق، لكن المركز يسعى جاهداً لإثراء المحتوى الرقمي بمواد منضبطة في صيغ سهلة مناسبة للشباب، ترفع وعيهم وتجعلهم أكثر قدرة على الفهم، وتحسن من قدراتهم اللغوية. ليس هذا هو الموضوع الأوحد للحوار فالدكتور علي بن تميم يشغل منصب الأمين العام لجائزة الشيخ زايد للكتاب، ورئيس تحرير مجلة المركز للدراسات العربية (المجلّة المحكّمة الأولى التي تصدر كاملًا باللغة العربية عن مؤسسة بريل أحد أهم دور النشر الأوروبية المرموقة)، بالإضافة إلى المنصة الإخبارية الرائدة موقع 24 الإخباري، كما شغل بن تميم منصب رئيس مركز جامع الشيخ زايد الكبير، وكان عضوًا في مجلس إدارة الأرشيف الوطني. كما تم اختيار بن تميم كعضو لجنة تحكيم للعديد من الجوائز الثقافية البارزة في الإمارات، منها برنامج أمير الشعراء، وجائزة دبي الثقافية، وجائزة خليفة التربوية، كما شغل منصب عضو اللجنة العليا لجائزة الدولة التقديرية. هنا نص الحوار معه. كيف تساهم إستراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والعربية؟ اللغة العربية هي الوعاء الحضاري للتراث والثقافة والفكر العربي بكافة أبعاده وجوانبه، وهي من هذا المنطلق إحدى أبرز ركائز الهوية، التي تشمل الانتماء القائم على معرفة ووعي إلى هذا الإرث الفريد الذي ترك آثاره على الحضارة الإنسانية كلها، والاعتزاز به والتمكن من استخدامه في الحياة والإضافة إليه والمشاركة من خلاله في الحوار بين الحضارات. وتأتي اللغة العربية في مقدِّمة مكوِّنات الهوية الثقافية للإنسان في دولة الإمارات، تمسُّكاً بما في هذه اللغة من ثراء قيمي وعلمي ومعرفي وإبداعي. وإستراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية هي تجسيد للدور الحضاري الذي تقوم به أبوظبي عاصمة دولة الإمارات التي تقود مسيرة استئناف الحضارة انطلاقاً من احترام الإرث الأصيل والتقاليد العريقة والبناء عليها؛ فالمركز معني بترسيخ مكانة اللغة العربية وتعزيز حضورها بين لغات العالم، والإسهام في النهوض بها وتكريس الاهتمام بتبنّيها في مختلف مجالات الحياة وأنشطتها، وتمكين إنتاج المحتوى العربي واستخدام معطيات العصر من تكنولوجيا وذكاء اصطناعي وتطوير التقنيات الرقمية المعنيَّة باللغة العربية. لهذا انصَبَّت جهود المركز منذ تأسيسه، على إدارة وابتكار وتطوير منظومة من الفعاليات والمبادرات النوعية المتكاملة، من معارض ومهرجانات الكتاب الدولية والمحلية، والجوائز والمنح المعنية بشتى مجالات الإبداع الأدبي والفكري، والنشر والترجمة، وغيرها من مبادرات تستهدف توثيق روابط المجتمع باللغة العربية، باعتبارها لغة فكر وإبداع وعلم، مع التركيز على الأجيال الجديدة. ما أبرز العقبات التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة؟ وكيف صار عنواناً للثقة بين المتخصِّصين؟ يحظى مشروع كلمة للترجمة، منذ انطلاقته، بدعم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيّان رئيس الدولة، وهذا يثبت المكانة المميزة التي تمثلها الترجمة باعتبارها جسراً لتلاقي الثقافات والحضارات في رؤية القيادة الحكيمة، وهذا ما جعل المشروع يضاعف من جهوده، في إطار من الالتزام بأعلى المعايير العالمية المتبعة في هذا المجال، بدءاً باحترام حقوق الملكية الفردية، وعقد الشراكات مع أكبر وأهم دور النشر العالمية، وقد بلغ عددهم حوالي 300 ناشر، من أبرزهم: كامبريدج، وهارفارد، وأكسفورد، وبنجوين، وجاليمار، وغيرها، تأكيداً لثقة الناشرين العالميين في هذا المشروع المهم. كذلك يدير المشروع عدداً من اتفاقيات التعاون مع مؤسسات ثقافية، وجامعات بارزة، ومراكز بحث عالمية متخصصة، تتضمن الاتفاقيات برامج تبادل للزيارات والخبرات. ينظم مشروع كلمة للترجمة مؤتمره السنوي بهدف مناقشة قضايا الترجمة وتحدياتها، وسبل بناء مجتمعات المعرفة، فضلاً عن تنظيم ورشات عمل للمترجمين، والاستماع إلى اقتراحاتهم، انطلاقاً من الإيمان بأن الترجمة ليست مجرد مهنة نقل كتاب من لغة إلى أخرى ولكنها مشروع حضاري ثقافي معرفي يعمل كحلقة وصل بين الشعوب، تنشر- إلى جانب الثقافة والمعرفة- قيم التسامح والإخاء. دَعوت إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي.. هل هناك إمكانية لذلك دون أن تتأثر الهوية الثقافية؟ تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة في التحوُّل الرقمي الشامل، تجربة استثنائية؛ إذ تتعامل مع الأمر بوصفه نهجاً لتسهيل حياة الناس وتقديم أفضل الممارسات والخدمات لهم، ضمن إطار مفهوم السعادة الذي تضعه القيادة الحكيمة هدفاً أسمى. وتحظى الثقافة واللغة العربية بمكانة كبيرة في منظومة التحوُّل الرقمي المتقدِّمة بدولة الإمارات، ورؤية القيادة الحكيمة لأهمية استدامة القطاع الثقافي والإبداعي، والارتقاء به إلى أفضل المستويات وتعزيز دوره في خطط الاستثمار في الإنسان، الذي تعمل من أجله كل خطط التنمية في الدولة. وعلينا واجب تجاه اللغة العربية لتمكينها من الإفادة من التطوُّرات المتسارعة للتكنولوجيا الحديثة، والتقدُّم العلمي في مجالات الذكاء الاصطناعي، وتغيُّر وسائل تلقّي المعرفة والعلوم، علينا أن نبذل كل جهد ممكن من أجل تحويل هذه التحدِّيات إلى فرص تخدم اللغة العربية والهوية الثقافية. إن العربية في حاجة إلى إجادة استخدام لغة هذا الزمن الرقمي، كما أن هذا الزمن الرقمي في حاجة إلى ثراء اللغة العربية، وداخل هذه المساحة فليتنافس المتنافسون في الخبرات. اللغة العربية لغة ثرية بالعلوم والمعارف والفنون والآداب، إلا أن هذه الكنوز غير حاضرة بالشكل الذي يليق بها في «الزمن الرقمي»، وهذا ما دعانا في مركز أبوظبي للغة العربية في إطار سعينا لتعزيز حضور اللغة والثقافة العربيتين في الزمن الرقمي إلى إطلاق عدد من المبادرات، أبرزها: الموسوعة الشعرية، وموسوعة كنز الجيل، ومبادرة التحوُّل الرقمي، وأضواء على حقوق النشر، ومشروع بارق للانقرائية، ومعجم دليل المعاني الإلكتروني، ومختبر الذكاء الشعري... وغيرها من المشاريع، كلها تعمل وفق معادلة إثراء العربية بالتكنولوجيا، وإثراء التكنولوجيا بالعربية. كما ينظّم المركز دورياً «كونجرس العربية والصناعات الإبداعية»؛ بهدف التواصل مع أقطاب صناعة النشر والصناعات الإبداعية، لتبادل المعلومات والخبرات حول كيفية الإفادة من إثراء العلاقة بين الذكاء الاصطناعي واللغة العربية. كيف يمكن أن تكون المبادرات الثقافية جاذبة للشباب؟ هل من خلال تقديمها بلغتهم؟ أو بوجوهٍ محببة إليهم؟ بالطريقتين، الأجيال الجديدة هي روح المجتمع وركيزته في الحاضر نحو المستقبل، وعلينا لكي نصل إليهم أن نضعهم في قمة أولويات العمل. أن نفكر دوماً في كيفية التواصل مع الأجيال الجديدة وتعزيز علاقتهم بهذه الحمولة الثقافية والمعرفية الهائلة التي تمثلها اللغة العربية. الأمر مرهون بقدرة العاملين في المبادرات الثقافية على فهم الشباب من ناحية، وعلى إجادة التعامل مع أدوات العصر التي تتطور في كل لحظة، وفهم واستيعاب معطيات العصر من تكنولوجيا وذكاء اصطناعي، لإجادة استثمارها وتحويل التحديات إلى فرص تعزز حضور اللغة العربية بين الشباب بطرق تلقيهم وذائقتهم وبالطريقة التي ينظرون بها إلى الحياة، ليدركوا أن اللغة العربية حية متطورة نابضة، لغة تفكير وابتكار؛ من هنا يبدأ النجاح في ترك الأثر والقيمة. كذلك على المبادرات التي تخاطب الشباب أن تتيح لهم -ليس فقط فرص تلقي المعرفة- بل فرص المشاركة الحقيقية بالإنتاج والتفاعل والإبداع. باتت الثقافة العربية تعاني من كابوس المحتوى المضلِّل.. كيف تنظرون في مركز أبوظبي للغة العربية إلى هذا التحدي؟ كيف يمكن التصدي لظاهرة تشويه اللغة العربية، على مواقع التواصل الاجتماعي؟ كثرة وسائل التواصل الاجتماعي فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم لمختلف الشئون التي يعبرون بها في حياتهم، وجعلتهم يتعرضون إلى معلومات مبتورة، ويبتعدون عن القراءة المنهجية التي تتيح لهم معرفة منضبطة وقدرة على تكوين وجهات نظر وآراء ذات أسس سليمة. السبب الرئيسي في ذلك هو تلك الفجوة بين حقيقة الثقافة والفكر العربيين، وبين المحتوى المتداول على تلك الوسائل، من هنا تنبع أهمية جهود مركز أبوظبي للغة العربية في محاولة تضييق هذه الفجوة من خلال إثراء المحتوى الرقمي باللغة العربية بمواد منضبطة في صيغ يسهل على الشباب التواصل معها من جهة، ومن جهة أخرى من خلال دعم وتعزيز ثقافة القراءة من خلال المبادرات السنوية التي تعزز القراءة المستدامة، وجلسات نوادي كلمة الموجهة لفئات المجتمع المختلفة، ومن خلال عشرات الفعاليات السنوية، التي تهدف إلى جعل القراءة عادة تساهم في بناء الوعي المستنير لدى الأجيال الجديدة وتحصينها بمكتسبات من الإرث العريق للغة والثقافة العربية، يمكنها من التمييزوفرز الغث من السمين، وكيفية تحصيل المعلومة الصحيحة والمحتوى الصائب. ما الكلمة التي تحرص على توجيهها للشباب العربي والإماراتي دائماً؟ الشباب فئة محورية تمثل المستقبل وحيويته، والعنصر الفاعل في التغيير الإيجابي، وعلينا أن نعدهم بكل ما يساعدهم في بناء غد أجمل. دولة الإمارت دولة تأسست في ضوء الرؤية الفريدة للأب المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، الذي اهتم بالتعليم كركيزة أساسية في بناء الإنسان واعتبر الشباب الثروة الحقيقية التي يقوم عليها مستقبل الوطن، وهي الرؤية التي تجذرت وصارت نبراساً لمسيرة التنمية الفذة التي يقودها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله. لذا فإنني أخاطب الشباب بما خاطبهم به الأب المؤسس الشيخ زايد شعراً، يقول: يا ذا الشباب اللي غِطاريف/ هبّوا لوقْت السّعْد لي زانْ/ هبّوا بعَقْل وحِسن تَصريف/ مَعْكُم ثقافه وعِلْم واتقان. يخاطب الشيخ زايد الشباب بوصف الغطاريف، والغطريف في اللغة هو الشخص الشريف، الكريم، السخي، ويرشدهم إلى ما يمكنهم من تحقيق السعادة والنجاح وهي «الثقافة، والعلم والإتقان» .. فماذا بعد ذلك يحتاج الإنسان من ذخيرة لكي ينجح؟ وفي قصيدة أخرى يقول رحمه الله: ما يِحْتَرَم لاِنسانِ إلّا بْخصال الجود. لقد لخص الشيخ زايد الجانبين الأخلاقي والعملي لمعادلة النجاح: التحلي بخصال الجود والأخلاق الكريمة، والتحصن بالثقافة والعلم، والعمل المتقن. وهذه أبلغ كلمة يمكن أن نخاطب بها الشباب.