قانون الإيجار الجديد لا يهدف إلى الإضرار بالمستأجرين، بل يسعى إلى إعادة التوازن تدريجيًا، من خلال آليات انتقالية تضمن عدم تشريد أحد. بعد الموافقة النهائية على قانون الإيجار القديم تصاعدت موجات الانتقاد والهجوم على التشريع الجديد، دون الالتفات إلى حقيقة أساسية غابت طويلًا عن المشهد، وهى معاناة الملاك الذين تحمَّلوا وحدهم عبء قوانين استثنائية جمَّدت حقوقهم لعقود، وحوَّلتهم إلى الطرف الأضعف فى علاقة يُفترض أن تقوم على التوازن والعدل.. يغفل الكثيرون حقيقة أساسية لا يمكن تجاوزها، وهى أن هناك ملاكًا يعيشون معاناة حقيقية منذ عشرات السنين، يحصلون على «بضعة جنيهات» فقط كقيمة إيجارية لعقارات تصل قيمتها السوقية اليوم إلى ملايين الجنيهات. الواقع الاقتصادى والاجتماعى الذى نعيشه الآن لا يحتمل مزيدًا من التجميد لحقوق الملاك.. تخيل أن يكون لديك شقة فى قلب القاهرة أو الإسكندرية، لا تتجاوز القيمة الإيجارية لها اليوم عشرين جنيهًا شهريًا، بينما المستأجر يورثها لأبنائه وأحفاده، ويؤجرها من الباطن، أو يتركها مغلقة لعقود. قانون الإيجارات القديمة، الذى صدر فى ظروف استثنائية تعود لعقود مضت، قد يكون أدى فى بدايته دورًا اجتماعيًا مهمًا لحماية محدودى الدخل، لكنه بمرور الزمن تحوّل إلى عبء على العدالة الاجتماعية نفسها، وأدى إلى غبن واضح فى حقوق آلاف الملاك، الذين لا يملكون حتى حق الانتفاع الحقيقى بممتلكاتهم. نحن لا ندعو إلى طرد المستأجرين أو تجاهل البعد الاجتماعي، ولكن لا بد من الاعتراف بأن استمرار هذا الوضع فيه ظلم فادح لطرف أصيل فى العلاقة. فكما أن الدولة تسعى لحماية المواطن محدود الدخل، فإن العدالة تتطلب أيضًا حماية المواطن الذى أُجبر على تأجير أملاكه بقوانين استثنائية، ومنع من إعادة استغلالها حتى بعد مرور عشرات السنين. الأغرب أن كل محاولة لفتح هذا الملف الشائك تُقابل بحملة تشويه ورفض جماعي، وكأن المالك هو الطرف الأقوى الذى يملك رفاهية الاختيار، بينما الحقيقة على الأرض تقول عكس ذلك. فكثير من هؤلاء الملاك لا يملكون مصدر دخل آخر، وبعضهم ورثة لأملاك أصبحت عبئًا لا مصدرًا للدخل. مشروع القانون الجديد لا يهدف إلى الإضرار بالمستأجرين، بل يسعى إلى إعادة التوازن تدريجيًا، من خلال آليات انتقالية تضمن عدم تشريد أحد، وتمنح الجميع الوقت الكافى لتوفيق الأوضاع، بما يحفظ كرامة السكن، وحق الملكية معًا. هذا ليس قانونًا للعقاب أو الانتقام، بل محاولة لرد الحقوق لأصحابها، وتحقيق العدالة الغائبة منذ أكثر من 60 عامًا، دون المساس بالبعد الإنسانى والاجتماعي. ليس من المنطق أن يُترك المالك يدفع فاتورة التضخم والغلاء وحده، بينما يستمر المستأجر فى دفع نفس القيمة الهزيلة التى تم الاتفاق عليها فى خمسينيات القرن الماضي! إذا كنا نتحدث عن دولة قانون وعدالة اجتماعية، فالمساواة يجب أن تشمل الجميع، لا أن تكون لصالح طرف على حساب آخر. الحكومة الحالية، فى مشروع القانون تحاول التوفيق بين الطرفين من خلال رؤية متوازنة: لا طرد ولا إخلاء قسري، بل فترة انتقالية مدروسة لتحرير العلاقة الإيجارية تدريجيًا، تتيح الوقت لتوفيق الأوضاع وتوفير سكن بديل للحالات المستحقة، عبر برامج الإسكان الاجتماعي. إن فتح هذا الملف لا يجب أن يُقابل بالتخوين أو التهويل، بل بالحوار الهادئ والعقلاني، وإدراك أن أى تسوية عادلة لا بد أن تعنى حقوقًا متساوية للمالك كما للمستأجر. ومن هنا فإن مشروع القانون الجديد، إذا طُبق كما أعلن، سيكون خطوة نحو إصلاح منظومة سكنية مختلة منذ عقود، وعودة حق ضائع باسم «الاستقرار». الخلاصة .. إذا كنا نبحث عن الاستقرار المجتمعى الحقيقي، فلا بد أن يُبنى على العدالة، لا على الظلم الموروث. ولا يمكن أن نتحدث عن دولة قانون، بينما نصف المجتمع لا يزال يرزح تحت قوانين «استثنائية» تحرمه من أبسط حقوقه فى إدارة ملكه. القانون الجديد ليس ترفًا.. بل ضرورة تأخرت كثيرًا، لإنصاف المالك، وتحقيق التوازن، وبناء مجتمع قائم على العدل والكرامة للجميع.