حين كتب النبي محمد وثيقته الشهيرة، بعد الهجرة من مكة إلى المدينةالمنورة، لم يكن ينظم مجتمعًا دينيًا مغلقًا، بل كان يؤسس لأول «عقد اجتماعي» فى التاريخ، يقوم على أسس مدنية وأخلاقية فى مجتمع متعدد الديانات والأعراق. وثيقة المدينة - أو الصحيفة - سبقت أفكار العقد الاجتماعى لدى فلاسفة الغرب، مثل روسو ولوك، وسبقت الدساتير الحديثة فى إقرارها لمبادئ المواطنة والحقوق والواجبات، والتضامن بين مكونات الأمة. وما يجعلها سابقة لعصرها، هو مبدأ المواطنة المتساوية، فقد نصت على أن «اليهود أمة مع المؤمنين»، مع احتفاظ كل طرف بدينه وماله ونفسه. هذا يشبه مبدأ «المواطنة دون تمييز»، الذى لم يُقرّ فى الدساتير الغربية إلا بعد 11 قرنًا. ومرجعية قانونية موحدة، جاء فيها: «المرجع فى كل أمر إلى الله ورسوله »، أي الاحتكام إلى مرجعية متفق عليها، تمامًا كما تفعل الدول اليوم بالرجوع إلى القضاء والدستور. وتضمنت الوثيقة باتفاقية الدفاع المشترك، فقد ألزمت الوثيقة كل سكان المدينة بالدفاع عنها، بغض النظر عن دياناتهم، فى نموذج مبكر لفكرة «الخدمة الوطنية» والدفاع الجماعي. لماذا نحتاج «روح الوثيقة» اليوم؟ لأن العالم يغرق فى الانقسام. فلا يكفى أن نكتب نصوصًا قانونية؛ بل نحتاج إلى روحها، ففى عالم يزداد انقسامًا، لا تنقذنا مجرد نصوص قانونية، بل الروح التى كُتبت بها هذه الوثيقة: روح التعايش رغم الخلاف، وروح التعدد فى ظل الوحدة، وروح الدولة التى تحمى الحقوق، لا تستعبد المختلف، فالدولة التى تحمى لا تقمع. إن وثيقة المدينة ليست تراثًا إسلاميًا فحسب، بل هدية حضارية للبشرية جمعاء.