يوم 18 يونيو هو يوم لا أنساه أبداً، ليس فقط لأننى مصري، بل لأنه محفور فى ذاكرتى منذ طفولتي، التى قضيتها سعيداً، فى مدينتى الحبيبة بورسعيد. فقبل ذلك اليوم، بأيام قليلة، كانت المدينة كلها تستعد لاستقبال الرئيس جمال عبد الناصر، الذى كان مقرراً زيارته للمدينة، يوم 18 يونيو عام 1956، لرفع علم مصر على مبنى القوات البحرية فى مدخل بورسعيد. كانت السعادة تغمر شعب مصر عامة، وأهالى بورسعيد خاصة، تطلعاً لخروج الإنجليز، أخيراً، من مصر، بعدما ظلوا جاثمين على أرضنا لسنوات طويلة. فى ذلك الحين، كان والدى يعمل وكيلاً للجمارك ببورسعيد، ومن المدعوين لحضور الاحتفال فى مبنى البحرية، الواقع داخل نطاق جمرك بورسعيد. ولما عرفت بذلك، سألته عن إمكانية حضور الاحتفال معه، وسألته والدتى عن إمكانية استصدار تصريح لحضوري، ووعدنى والدى بالمحاولة. وفى اليوم التالي، أثناء عمله، جاءنى صوت والدي، على الهاتف، قائلاً، «انبسط يا عم، جبتلك تصريح تحضر معايا!»، ففرحت فرحة لا تصفها الكلمات، وكباقى أهالى بورسعيد، لم أنم فى تلك الليلة، ترقباً للاحتفال، فى صباح اليوم التالي، الذى أعدت له والدتى ملابس جديدة، وكأنه يوم العيد، وهو ما كان كذلك، فى الحقيقة. توجهت مع والدى للاحتفال مبكرين، ولمحت الدهشة على وجوه المدعوين، كونى الطفل الوحيد بينهم، واتخذنا مقاعدنا، التى لم تكن فى الصفوف الأمامية، إلا أن موقعها سمح لى بمتابعة وصول الرئيس عبد الناصر، تحيطه سيارات الدفع الرباعي، التابعة للبوليس الحربي، ومتابعة حرارة الاستقبال من أهالى بورسعيد، الذى أحبه، كما أحبه كل شعب مصر والأمة العربية. بدأت مراسم الاحتفال، بتسلّم الرئيس للعلم من قائد القوات البحرية، ثم رفعه بنفسه على السارى المثبت وسط سُرادق كبير، أُقيم أمام مدخل المبنى. أعقب ذلك إلقاء الرئيس عبد الناصر لخطابه الشهير، الذى لم نعلم حينها، أنه سيعقبه، بعد أسابيع قليلة، بالإعلان عن تأميم قناة السويس. أتذكر أن من بين الحاضرين كان المشير عبد الحكيم عامر، واللواء حسين الشافعي، وعدد من قيادات الدولة، وأسر الشهداء. وانتهى الاحتفال الرسمى سريعاً، ليبدأ بعده عهد جديد، تخلو فيه شوارع بورسعيد والإسماعيلية وفايد من أى طيف لجندى إنجليزي. إلا أن الاحتفالات الشعبية استمرت فى ذلك اليوم، دون توقف، فاحتفلت بورسعيد بطريقتها الخاصة، حيث عزفت فرق السمسميّة فى كل الميادين. مرت السنوات، والتحقت بالكلية الحربية، وبعد تخرّجى فيها، كنت ضمن القوات التى تم توزيعها على معسكرات فايد، التى كانت تابعة، سابقاً، للقوات البريطانية. فوجدت نادى ضباط القوات المسلحة فى فايد، الذى كان هو نفسه نادى الضباط الإنجليز، إبان فترة الاحتلال، على حاله، إذ وجدنا بعضا من متعلقاتهم فيه، وبدا أنهم ظنوا، أو آمنوا، بعودتهم، مرة أخرى، إلى مصر ... وهو ما لم يحدث أبداً.