حزب الأحرار يثمن توجيهات الرئيس السيسى للهيئة الوطنية بشأن الانتخابات    بعد بيان السيسي.. مرشح واقعة فتح صناديق الانتخابات قبل انتهاء التصويت: سنقدم الطعون ونسبة تفاؤلي ارتفعت من 50 ل 90%    الحكم في قرار منع هدير عبد الرازق من التصرف في أموالها 19 نوفمبر    وزيرة التضامن الاجتماعي ومحافظ الفيوم يتفقدان مشروعات مصنع الغزل والنسيج بالعزب    رئيس الوزراء يلتقي أعضاء اللجنة الاستشارية للشئون السياسية    صادرات مصر من السلع نصف المصنعة بلغت 868.7 مليون دولار خلال يوليو 2025    الكرملين: موسكو لا تسعى إلى مواجهة حلف الناتو ونأمل في عقد لقاء بوتين وترامب بمجرد الانتهاء من التحضيرات    الرئيس الكوري الجنوبي يبدأ زيارة رسمية إلى الإمارات    مبعوث واشنطن السابق لإيران: ضربات إسرائيل وأمريكا على مواقع طهران عواقبها ستطول المنطقة    رئيسة وزراء بنجلاديش السابقة تعقب على حكم الإعدام.. ماذا قالت؟    تقرير: هاوسن سليم وجاهز لمواجهة إلتشي    الأهلي يفتح باب المفاوضات لضم أسامة فيصل وأشرف داري يقترب من الرحيل    التعليم: عقد امتحانات نوفمبر للصفين الأول والثاني الثانوي ورقيا    ضبط 3 طلاب تعدوا على زميلهم بالضرب أمام المدرسة بأسيوط    القبض على المتهم بإطلاق النار على سائق لشكه بإقامة علاقة مع طليقته بالهرم    طقس الغد.. تغيرات في درجات الحرارة والعظمى بالقاهرة 26    انهيار وصراخ ورفض أدلة.. ماذا جرى في جلسة محاكمة سارة خليفة؟    وزارة الثقافة تطلق احتفالية «فرحانين بالمتحف المصري الكبير» ديسمبر المقبل    رئيس الوزراء يلتقي أعضاء اللجنة الاستشارية للشئون السياسية    لا تُجيد القراءة والكتابة.. الحاجة فاطمة تحفظ القرآن كاملًا في عمر ال80 بقنا: "دخلت محو الأمية علشان أعرف أحفظه"    الصحة تعلن نتائج حملة قلبك أمانة للكشف المبكر عن أمراض القلب بشراكة مع شركة باير لصحة المستهلك    مولاي الحسن يحتضن مباراة الأهلي والجيش الملكي    التنسيقية : إرادة المصريين خط أحمر .. الرئيس يعزز ثقة الشعب في صناديق الاقتراع    المتهم بقتل صديقه مهندس الإسكندرية في التحقيقات : صليت العصر وروحت أقتله    تعرف على حورات أجراها وزير التعليم مع المعلمين والطلاب بمدارس كفر الشيخ    أهالي قرية ببني سويف يطالبون بتعزيز من «الإسكان» قبل غرق منازلهم في الصرف الصحي    من هو إبراهيما كاظم موهبة الأهلي بعدما سجل ثنائية فى الزمالك بدوري الجمهورية ؟    مجمع البحوث الإسلامية يطلق مسابقة ثقافية لوعاظ الأزهر حول قضايا الأسرة    الكرة النسائية l مدرب نادي مسار: نستهدف التتويج برابطة أبطال إفريقيا للسيدات    انسحاب مئات العناصر من قوات الحرس الوطني من شيكاغو وبورتلاند    هيئة الدواء: توفر علاج قصور عضلة القلب بكميات تكفي احتياجات المرضي    توم كروز يتوّج ب أوسكار فخري بعد عقود من الإبهار في هوليوود    حزب حماة الوطن ينظم مؤتمرا جماهيريا فى بورسعيد دعما لمرشحه بانتخابات النواب    مدير متحف الهانجول الوطني بكوريا الجنوبية يزور مكتبة الإسكندرية    وزير الخارجية يؤكد لنظيره السوداني رفض مصر الكامل لأي محاولات تستهدف تقسيم البلاد أو الإضرار باستقرارها    أبو الغيط: الحوار العربي- الصيني ضرورة استراتيجية في مواجهة تحولات العالم المتسارعة    موعد التصويت بمحافظات المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب 2025    موعد قرعة الملحقين الأوروبي والعالمي المؤهلين ل كأس العالم 2026    محافظ كفر الشيخ: الكشف على 1626 شخصا خلال قافلة طبية مجانية فى دسوق    وزارة العمل: تحرير 437 محضر حد أدنى للأجور    بعد ساعات من السيطرة عليهما.. الجيش السوداني ينسحب من منطقتين بولاية كردفان    إعادة الحركة المرورية بعد تصادم بين سيارتين على طريق "مصر–إسكندرية الزراعي"    موعد شهر رمضان 2026 فلكيًا .. تفاصيل    «التضامن» تقر توفيق أوضاع 3 جمعيات في محافظتي القاهرة والمنيا    رئيس مصلحة الجمارك: منظومة «ACI» تخفض زمن الإفراج الجمركي جوًا وتقلل تكاليف الاستيراد والتصدير    جاتزو بعد السقوط أمام النرويج: انهيار إيطاليا مقلق    دار الإفتاء: فوائد البنوك "حلال" ولا علاقة بها بالربا    شريهان تدعم عمر خيرت بعد أزمته الصحية: «سلامتك يا مبدع يا عظيم»    أسعار الدواجن والبيض في مصر اليوم الاثنين 17 نوفمبر 2025    كلية دار العلوم تنظم ندوة بعنوان: "المتحف المصري الكبير: الخطاب والمخاطِب"    وزير الصحة يشهد الاجتماع الأول للجنة العليا للمسئولية الطبية وسلامة المريض.. ما نتائجه؟    جامعة الإسكندرية توقع بروتوكول تعاون لتجهيز وحدة رعاية مركزة بمستشفى المواساة الجامعي    اسعار الفاكهه اليوم الإثنين 17نوفمبر 2025 بأسواق المنيا    لكل من يحرص على المواظبة على أداء صلاة الفجر.. إليك بعض النصائح    أحمد سعد: الأطباء أوصوا ببقائي 5 أيام في المستشفى.. أنا دكتور نفسي وسأخرج خلال يومين    الفجر 4:52 مواقيت الصلاه اليوم الإثنين 17نوفمبر 2025 فى محافظة المنيا    هاني ميلاد: أسعار الذهب تتأثر بالبورصة العالمية.. ومُتوقع تسجيل أرقام قياسية جديدة    لاعب الزمالك السابق: خوان بيزيرا صفقة سوبر وشيكو بانزا «غير سوي»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة السمسمية من الضمّة إلى الشوبش
نشر في الشروق الجديد يوم 05 - 04 - 2009

«سمسمية إيه بس!» ضحك سائق التاكسى متعجبا من أن يسأله أحد إذا كان لديه شرائط كاسيت لفنانى السمسمية، خفض قليلا صوت سعد الصغير المنطلق ب«العنب» من الشريط، الذى وضعه ونحن نخرج من محطة أوتوبيسات الإسماعيلية، وقال إن السمسمية لم تعد موجودة إلا فى بعض ليالى الأفراح والحنة فى الأحياء الشعبية. ورغم أنه يسكن منطقة «الحكر» إحدى المناطق الشعبية فى مدينة الإسماعيلية، فإنه لم يحضر فرقة سمسمية فى حفل زفافه لأنه رأى ذلك «حاجة قديمة وراحت عليها»، ولكن أخاه فعل.
ومع ذلك عندما عرف أن مقصدنا هو منزل الفنان إبراهيم العثمانلى، قال إنه يعرفه طبعا فهو أشهر فنانى السمسمية فى أفراح الأحياء الشعبية فى الإسماعيلية، وهو ابن عبده العثمانلى واحد من أقدم وأشهر فنانى السمسمية فى منطقة القناة بأسرها. بل إنه يعرف جيدا مكان منزله الموجود فى حارة فى حى «الشهداء» الشعبى، ويعرف مكان مقهى «عمر النعيمى»، الذى يرتاده معظم فنانى السمسمية الآخرين، وفيه يلتقون مع الزبائن ويتم الاتفاق والترتيب لإحياء الليالى.
تركت السيارة شارع كورنيش بحيرة التمساح، رائع الجمال ذا الخضرة الممتدة على طول رصيفه وعلى مد البصر، وانحرفت إلى شوارع «مكسرة» وأقل جمالا، اشترط السائق لدخولها أن يحصل على خمسة جنيهات كاملة! بزيادة جنيهين عن تعريفة التاكسى الثابتة فى الإسماعيلية. ولكنه لم يدخل إلى الحارة الضيقة، التى أشار إلى أن بيت العثمانلى داخلها.
على عكس المتصور فى بيت أشهر فنانى السمسمية الشعبيين الإسماعيلية، فإن بيت إبراهيم العثمانلى محدود المساحة وبالغ البساطة فى دور أرضى هو كل الأدوار فى بناية صغيرة وسط بعض العمارات الأكبر.
ترحب بنا زوجته التى تعرف نفسها ب«أم محمد» وتدخلنا إلى حجرة صغيرة، ولكنها مزدحمة بأشياء تنتمى إلى تواريخ متباعدة. على الحائط سمسمية صغيرة قديمة يعلوها التراب، تمثل الشكل الأقدم من الآلة الشعبية ذى الأوتار الخمسة، الذى لا يقدم إلا موسيقى السلم الخماسى، وصندوقها الموسيقى المدور هو عبارة عن طبق ميلامين عادى مغطى بجلد عنق الجمل، والأوتار من سلك جنزير الدراجات مشدودة على قطعة دومينو. وفى ركن آخر هناك سمسمية حديثة ذات اثنى عشر وترا، يمكنها أن تقدم كل الألحان والمقامات الشرقية، ومزودة بسلك موصل من صندوق الآلة إلى جهاز ضبط الصوت، وإلى جوارها درامز وسماعات صوت كبيرة ودفوف. فى هذه الآلات استثمر إبراهيم العثمانلى ما كسبه، لكى يقيم حفلاته بأدواته ولا يضطر لتأجيرها.
يأتى العثمانلى، الذى يستعد لإحياء حفلة حنة هذه الليلة، ويشير إلى الآلات موضحا أن الزمن تغير، لابد من الدرامز والسمسمية الجديدة، فلا يمكن أن يغنى الأدور القديمة من تراث السمسمية فقط، «الناس عاوزة تفرح ولازم أغنى «قولى عمل لك إيه قلبى» و«دار يا دار» وأغانى شعبية جديدة فرايحى مع إيقاع الدرامز. لازم أتطور علشان أكسب عيشى وأربى عيالى».
يرفض العثمانلى الاعتراف بالتناقص الملحوظ فى الأفراح التى تحييها فرق السمسمية، رغم أنه يؤكد أن الجيل الجديد يفضل ال«دى جيه» DJ. يصر على أن الأحوال أفضل مما قبل، فهو يقول إنه لا يحيى أقل من عشر ليال فى الشهر، تتقاضى فرقته المكونة من خمسة أفراد عن الواحدة منها 500 جنيه أو 400 جنيه مجاملة لمن يعرفه. ولا يجد حرجا فى الاعتراف بأن فرق السمسمية فى الماضى لم تكن تجنى من عملها إلا «الكيف» من الحشيش والبيرة، وربما كانت هناك بعض النقوط كتحية للفرقة من أهل الفرح.
رفيقة الضمة والصحبجية
بالفعل، بدأ حضور السمسمية وسط احتفالات أهل القناة بشكل عفوى لا احترافى، عندما بدأت تستخدم فى حلقات الضمة.
قبل ذلك كانت الضمة دوائر يشكلها الأهالى فى الشوارع والساحات بغرض السمر أو فى مناسبات مثل الزواج والطهور والسبوع أو العودة من الحج أو الحرب، كانت تغنى فيها أحيانا أناشيد صوفية أوأغانى عاطفية أو وطنية بحسب المناسبة على الإيقاع فقط. أول ما ظهرت آلة السمسمية فى مدن القناة كانت آلة لليالى الحظ فى المقاهى، ورفضها فنانو الضمة القريبين من الطرق الصوفية. ولكن أثناء العدوان الثلاثى وبعده، قدم فنانو السمسمية أغانى وطنية تحيى تأميم قناة السويس وصمود المصريين وتغنى لبطولات المقاومة الشعبية، فبدأت السمسمية تتحول من آلة للسهر فى المقاهى إلى أداة محببة إلى قلوب أهالى مدن القناة واحتلت مركز ضمة الشوارع فى مناسباتهم المختلفة ثم أصبحت رفيقة غربتهم عندما تم تهجيرهم إلى محافظات مختلفة بعد احتلال سيناء فى عدوان 1967.
فى دائرة الضمة يتواجد «الصحبجية» ممن يجيدون العزف والغناء والرقص، وفى منتصفها عازف واحد على السمسمية، ويتحلق المتفرجون حولهم. وكان ذلك يتم بشكل عفوى وبلا مقابل ومن باب المجاملة. وكان لفنانى السمسمية حرفهم ومهنهم الأخرى، وبعضهم وظفته حكومات الثورة فى هيئة الثقافة الجماهيرية من باب رعاية الفن الشعبى، ومن هؤلاء عبده العثمانلى والد إبراهيم. وإبراهيم نفسه عمل لفترة بائعا للجاز الكيروسين ينقله بعربة تجرها حصان، قبل أن يتفرغ للعمل مع فرقته فى الأفراح. أصبحت مهنته ومورد رزقه الوحيد ولابد أن يتكيف مع التطورات ومع ما يطلبه الناس.
فى صوان الفرح القريب من شارع الدقهلية بمنطقة «العرايشية» الشعبية، اتخذ أعضاء فرقة إبراهيم العثمانلى أماكنهم. يحتل عازف الدرامز المركز، إلى يمينه عازف المزهر «الرق» وآخر مهمته تحضير «الكيف» لأعضاء الفرقة، وإلى يساره عازف الطبلة ثم عازف السمسمية. ربما لأنها أصبحت موصلة بجهاز الصوت الموضوع فى أقصى اليسار.
بدأت الفرقة فى عزف بعض موسيقى السمسمية بدون غناء، وهو تقليد قديم فى افتتاح الليالى، ومعها بدأ الشباب فى النزول إلى منتصف ساحة الفرح يرقصون. بعضهم يحمل أسلحة بيضاء صغيرة أو سواطير كبيرة، تحاول الفرقة عبثا التنبيه عليهم بالرقص بدون سلاح، ولكن حتى بعض الأطفال كانوا يحملون مطاوى بلاستيكية.
يتناوب الشباب فى الرقص ثم الجلوس على جانب الطريق، يشربون البيرة أو يدخنون سجائر الحشيش والبانجو، الذين نشط باعتهم وسط الفرح. أيضا بائع سندويتشات الكبده والسجق وبائع آخر للب والفول السودانى وقفوا بعرباتهم عند مدخل الفرح يبيعون. السيدات والبنات يحتلون جزءا من جانب الطريق، تدخل بعضهن حلقات الرقص لفترة ثم يعاودن الجلوس. يملأ الصخب المكان، ويلتف الناس حول سليمان «نوبتجى» الفرقة الذى يتولى جمع النقوط، التى يسجلها واحد من أهل الفرح فى كراسة. يقطع صوت سليمان الموسيقى والغناء لكى يعلن عن النقوط «عشر شمعات (يعنى عشرة جنيهات) من الحاج سعد من الشهداء أى حى الشهداء تحية لكل أهل الشهداء على الصعيدى» فتعزف الفرقة الإيقاع الصعيدى.
السمسمية تتكيف
النقوط أصبحت أهم طقوس ليالى السمسمية، فالفرقة التى تؤدى أداء حيا هى وحدها، التى يمكنها أن تستحث الناس وتحييهم لتذكرهم بواجب «النقوط» ثم تحييهم عليها وتعزف لهم ما يطلبون فورا مقابل ما دفعوا، وهو ما يعرف ب«الشوبش»، الذى لن يقوم به الدى جى. النقوط تذهب كلها لأهل الفرح، ولا تحصل الفرقة إلا على أجرها الثابت، إلا فى حالة المتيسرين، الذين يمنحون الفرقة أجرا رمزيا ويتركون لها كل النقوط.
بين تحيات النقوط يتنقل العثمانلى مع فرقته بين أغانى مختلفة، من «حنة يا حنة يا قطر الندى» من التراث إلى «راحوا الحبايب» لعدوية ثم «دار يا دار» لوديع الصافى ثم بقفزة تاريخية كبيرة تغنى الفرقة مقطع من «آه يا نا يا تعبانة» لمطربة الأفراح منار سعد أو جزء من «العبد والشيطان» لمحمود الحسينى. رنات السمسمية تتجاوب مع كل الألحان تحت قيادة الدرامز، الذى يصيح عازفه وسط الفواصل الموسيقية صيحات الأغانى الشعبية الشهيرة «قوللووووه» أو «اوعى» أو «ولع ولع».
كل فترة، يحاول سليمان، النوبتجى، أن يستأذن الحاضرين فى أن يتوقفوا مؤقتا عن النقوط والتحيات «نسمع شوية الأستاذ إبراهيم». تعزف الفرقة لفترة قصيرة الموسيقى المميزة لأدوار السمسمية: «نوح الحمام» و«والنبى يا غزال حوش طرف الشال» وينتشى إبراهيم العثمانلى ويغنى ويؤدى الرقصات المميزة لحلقات السمسمية. ينتهى سريعا وتعود الفرقة للتنقل بين الأغانى والنقوط، يترك إبراهيم العثمانلى الغناء كثيرا لشباب فرقته ويذهب مرارر ليحيى الشيخين والدى العروسين ويجلس معهما، فيرحبان به كثيرا. يبدو أنهما يذكران قدر أبيه ويحفظان له قدره كفنان آلتهم المحببة. بينما الشباب الصاخب لا يزداد حماسه إلا مع إيقاعات الأغانى الشعبية الحديثة.
بين حضور الفرح، وإلى جوار الفرقة كان يجلس طارق السنى، صديق العثمانلى وعازف الإيقاع والنوبتجى فى فرقته سابقا. الذى توقف عن العزف فى الأفراح حاليا ولا يعجبه أحوالها، ولكنه يرافق العثمانلى أحيانا أن احتاج إليه عرفانا لعشرة العمر.
«آخرة مرة عزفت مع العثمانلى لم يتمكن هو من غناء أغنية واحدة وسط النقوط»، يقول طارق السنى: «وأنا انفعلت وانسحبت عندما قام واحد ودفع نقوطا وطلب أن يضع الميكروفون على موبايله ليسمع نغمته. ساعتها غضبت وعنفته وأخرجت من جيبى أكثر من نقوطه وقلت إن هذه آخر مرة أعزف فى الأفراح».
طريق آخر
بخلاف العثمانلى الذى احترف الغناء فى الأفراح، فإن طارق السنى يحتفظ بمهنته كفنى كهربائى فى إحدى الشركات، لذا كان قراره سهلا بالتوقف. وإن كان لا يزال يعزف أسبوعيا مع فرقة «الصحبجية» التى أصبحت فيما بعد فرقة «الوزيرى»، نسبة لمحمد الوزيرى أحد رموز السمسمية فى الإسماعيلية ورئيس الفرقة الذى توفى مؤخرا، فأطلقوا اسمه على الفرقة تخليدا لذكراه.
يوم الثلاثاء من كل أسبوع هو موعد الفرقة، التى تجتمع فى النادى الإسماعيلى القديم وتغنى أغانى تراث السمسمية فى أجواء حميمة أقرب لحالة الضمة العفوية القديمة، ولو بغير جمهور كبير. وفى السويس أيضا هناك موعد الاثنين فى جمعية محبى السمسمية، التى تعزف فيها فرقة «الحنة السويسى»، التى يشرف عليها سيد كابوريا. وكلا الفرقتين فى الإسماعيلية والسويس يستمران بدعم من مركز المصطبة للفن الشعبى، الذى أسسه زكريا إبراهيم عام 2000، لدعم فرق الفن الشعبى والمساعدة على إنشاء فرق جديدة تجمع فنانين شعبيين بهدف الحفاظ على استمرار ممارسة الفنون الشعبية فى بيئاتها وتوفير أماكن لتجمعها وفرص لتقديم عروضها. قبل إنشاء المركز أسس زكريا إبراهيم فرقة «الطنبورة» أواخر عام 1988 مع العديد من فنانى السمسمية والضمة فى بورسعيد.
ولمدة 20 سنة حافظت الطنبورة على موعدها الأسبوعى مساء الأربعاء، الذى تنقل بين عدة أماكن ومقاهٍ وواجه عداوة فرق مغنيى الأفراح ومسئولى قصور الثقافة. السبب كما يقول على عوف عضو الفرقة: «لقد أعدنا أدوار الصوفية للسمسمية وذلك لم يرض أذواق فرق الأفراح وقالوا إنها مثل ترانيم الكنيسة. واحتفظنا بحرفنا وملابسنا العادية ورفضنا ارتداء الأزياء الموحدة مثل فرق الفنون الشعبية وذلك لم يرض الأفندية فى قصور الثقافة». موعد الأربعاء استقر الآن فى كافيتريا النجمة بحى بورفؤاد، شرق بورسعيد فى الضفة الأخرى من قناة السويس.
فن شعبى جديد
يقول زكريا إبراهيم: «هدف الطنبورة هو الحفاظ على تراث الضمة والسمسمية كما هو بعيدا عن الأداء التجارى، الذى أفسده جو الشوبش والنقوط، وبعيدا أيضا عن الأداء الحكومى المعلب فى فرق قصور الثقافة».
ولكنه على أى حال يرى فى وجود الفرق التى تعزف السمسمية فى الأفراح جانب جيد، فالفرق القليلة الباقية مثل «العثمانلى» فى الإسماعيلية و«ناصر السويسى» فى السويس و«زارنى» فى بورسعيد، بفضلهم لا يزال صوت السمسمية موجودا فى الشوارع وتسمعه الأجيال الجديدة، ولكنه يأسف لأن هذه الفرق أخرجت فنون السمسمية من سياقها واستسلمت لما يراه غناء لكلمات خالية من المضمون ولمحاكاة الغناء الشعبى الحديث.
فى نهاية الأمر، يحتاج فنانو السمسمية المحترفين إلى كسب أرزاقهم، كما أن الفن الشعبى يتشكل دائما مما يفضل الناس سماعه فى تجمعاتهم واحتفالاتهم، وفنانو السمسمية فى الأفراح يتجابون مع هذ الأمر.
وفى الناحية المقابلة، مشروع المصطبة وفرقه الثلاث يحتاج باستمرار للدعم من أجل الاستمرار، وما يدره من دخل الحفلات والإسطوانات لا يكفى وحده. لذلك كان تمويل مؤسسة فورد الأمريكية غير الحكومية ضروريا لإنشاء المركز ولاستمرار دعم الفرق الثلاث، التى تهدف لحماية التراث الفنى للسمسمية بممارسته دون إدخال تعديلات عليه إلا لأغراض فنية. مثل إضافة آلة الطنبورة التى تسمت الفرقة باسمها ذات الأوتار الكتانية أو النايلون لتعطى صوتا غليظا يوزان الصوت المعدنى الحاد للسمسمية ويتناغم معه.
كما تقوم الفرقة بتأليف وتلحين أغان جديدة، وطنية مثل «زى النهارده»، التى تم تأليفها عام 2006 بمناسبة مرور 50 سنة على تأميم القناة. ومثل «والله زمان يا معلّم»، التى كتبها ولحنها زكريا إبراهيم تخليدا لأسماء رواد فن السمسمية فى مدن القناة، ومنهم الوزيرى وعبده العثمانلى من الإسماعيلية.
أجيال عدة لم تسمع تراث السمسمية إلا من «الطنبورة»، التى لاقت نجاحا كبيرا فى مصر والعالم، وأصدرت عدة أسطوانات، وتزدحم حفلاتها فى المراكز الثقافية. وصار موعدها الأسبوعى فى كافيتريا النجمة على شاطىء بورفؤاد مقصدا للسياح ومحبى السمسمية من أبناء بورسعيد والقناة، أو من باقى أنحاء مصر أحيانا.
طارق السنى، لا يكتفى أحيانا بيوم واحد للسمسمية فى الأسبوع مع فرقة «الوزيرى» فى النادى الإسماعيلى القديم، بل يسافر إلى بورسعيد ثم بورفؤاد مساء الأربعاء ويذهب إلى كافيتيريا النجمة لحضور ليلة الطنبورة هناك.
الاستشفاء ب«البهجة»
على عوف، عضو «الطنبورة»، يقول إن البعض يسمى هذا الموعد، بموعد «المستشفى»، فهم أجيال شكل صوت السمسمية وجدانهم وهم يسافرون إليها طلبا للاستشفاء بالبهجة.
تزدحم «النجمة» عادة فى الصيف والربيع، ولكن حتى فى تلك الليلة الشتوية، كان صف الكافيتريات الطويل على شاطىء بوروفؤاد خاليا كله، إلا «النجمة» وحدها كانت مزدحمة بالرواد. معظمهم من الأجيال الأكبر، أعمار معظمهم فوق الأربعين، اصطحبوا عائلاتهم وانتظروا حتى وقت متأخر من الليل.
فى العادة يبدأ أعضاء الطنبورة بعد العاشرة مساء. يتناوبون على العزف والغناء والرقص بعفوية وانسجام ويشاركهم المتحمسون من الجمهور. ينتشى الجمهور لأدوار الضمة الصوفية أو للأغانى المرحة أو يأخذه النزق مع الأغانى العاطفية، التى لا تخلو من الملمح الصوفى.
وعندما يتأخر الوقت ويكون عليهم أن يتوقفوا ويعودوا إلى بورسعيد، ينتهى العرض فقط بالنسبة للجمهور، أما أعضاء الطنبورة فيتجهون إلى مقاهيهم الصغيرة فى شارع الأمين. يتناول محسن عشرى، عازف السمسمية الرئيسى فى الفرقة، آلة السمسمية الخاصة بهم المعلقة على حائط المقهى. يجلسون ويتسامرون وكأنهم لا يريدون لليلة أن تنتهى. وما إن يدندن واحد منهم بلحن يعن له، حتى يبدأوا معا فى غنائه وعزفه على السمسمية وإيقاع النقر على الطاولات والكراسى ورنين الملاعق على الأكواب، فلا يملك عمال المقهى إلا الاستسلام للرقص دون أن ينسوا تسجيل الطلبات الكثيرة للساهرين حتى الصباح.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.