مجلس الشيوخ يستأنف جلساته العامة اليوم    صعود مؤشرات الأسهم اليابانية في جلسة التعاملات الصباحية    أسعار الأسماك واللحوم اليوم 30 أبريل 2024    أسعار الذهب تتجه للصعود للشهر الثالث بفضل قوة الطلب    بايدن يخاطر بخسارة دعم الشباب في الانتخابات بسبب الحرب على غزة    ختام عروض «الإسكندرية للفيلم القصير» بحضور جماهيري كامل العدد ومناقشة ساخنة    «طب قناة السويس» تعقد ندوة توعوية حول ما بعد السكتة الدماغية    حقيقة نشوب حريق بالحديقة الدولية بمدينة الفيوم    تراجع سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن بمستهل تعاملات الثلاثاء 30 إبريل 2024    الجيش الأمريكي ينشر الصور الأولى للرصيف العائم في غزة    مقتل 3 ضباط شرطة في تبادل لإطلاق النار في ولاية نورث كارولينا الأمريكية    تعرف على أفضل أنواع سيارات شيفروليه    اندلاع اشتباكات عنيفة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال في مخيم عسكر القديم شرق نابلس    ظهور خاص لزوجة خالد عليش والأخير يعلق: اللهم ارزقني الذرية الصالحة    مباراة من العيار الثقيل| هل يفعلها ريال مدريد بإقصاء بايرن ميونخ الجريح؟.. الموعد والقنوات الناقلة    تعرف على أسباب تسوس الأسنان وكيفية الوقاية منه    السيطرة على حريق هائل داخل مطعم مأكولات شهير بالمعادي    هل أكل لحوم الإبل ينقض الوضوء؟.. دار الإفتاء تجيب    حبس 4 مسجلين خطر بحوزتهم 16 كيلو هيروين بالقاهرة    العميد محمود محيي الدين: الجنائية الدولية أصدرت أمر اعتقال ل نتنياهو ووزير دفاعه    نيويورك تايمز: إسرائيل خفضت عدد الرهائن الذين تريد حركة حماس إطلاق سراحهم    هل ذهب الأم المتوفاة من حق بناتها فقط؟ الإفتاء تجيب    مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30 أبريل في محافظات مصر    العثور على جثة طفلة غارقة داخل ترعة فى قنا    مجلس الدولة يلزم الأبنية التعليمية بسداد مقابل انتفاع بأراضي المدارس    حماية المستهلك: الزيت وصل سعره 65 جنيها.. والدقيق ب19 جنيها    موعد عيد شم النسيم 2024.. حكايات وأسرار من آلاف السنين    فتوى تحسم جدل زاهي حواس حول وجود سيدنا موسى في مصر.. هل عاصر الفراعنة؟    شقيقة الأسير باسم خندقجي: لا يوجد أى تواصل مع أخى ولم يعلم بفوزه بالبوكر    محلل سياسي: أمريكا تحتاج صفقة الهدنة مع المقاومة الفلسطينية أكثر من اسرائيل نفسها    تعرف على موعد إجازة عيد العمال وشم النسيم للعاملين بالقطاع الخاص    نظافة القاهرة تطلق أكبر خطة تشغيل على مدار الساعة للتعامل الفوري مع المخلفات    د. محمود حسين: تصاعد الحملة ضد الإخوان هدفه صرف الأنظار عن فشل السيسى ونظامه الانقلابى    أستاذ بجامعة عين شمس: الدواء المصرى مُصنع بشكل جيد وأثبت كفاءته مع المريض    مفاجأة صادمة.. جميع تطعيمات كورونا لها أعراض جانبية ورفع ضدها قضايا    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لي نصيباً في سعة الأرزاق وتيسير الأحوال وقضاء الحاجات    بمشاركة 10 كليات.. انطلاق فعاليات الملتقى المسرحي لطلاب جامعة كفر الشيخ |صور    رسميا.. بدء إجازة نهاية العام لطلاب الجامعات الحكومية والخاصة والأهلية بهذا الموعد    السجيني: التحديات عديدة أمام هذه القوانين وقياس أثرها التشريعي    حكم الشرع في الوصية الواجبة.. دار الإفتاء تجيب    ميدو: عامر حسين ب «يطلع لسانه» للجميع.. وعلى المسؤولين مطالبته بالصمت    المتحدث باسم الحوثيون: استهدفنا السفينة "سيكلاديز" ومدمرتين أمريكيتين بالبحر الأحمر    تصريح زاهي حواس عن سيدنا موسى وبني إسرائيل.. سعد الدين الهلالي: الرجل صادق في قوله    ضبط 575 مخالفة بائع متحول ب الإسكندرية.. و46 قضية تسول ب جنوب سيناء    مصطفى عمار: القارئ يحتاج صحافة الرأي.. وواكبنا الثورة التكنولوجية ب3 أشياء    «هربت من مصر».. لميس الحديدي تكشف مفاجأة عن نعمت شفيق (فيديو)    عفت نصار: أتمنى عودة هاني أبو ريدة لرئاسة اتحاد الكرة    بعد اعتراف أسترازينيكا بآثار لقاح كورونا المميتة.. ما مصير من حصلوا على الجرعات؟ (فيديو)    ليفاندوفسكي المتوهج يقود برشلونة لفوز برباعية على فالنسيا    توفيق السيد: لن يتم إعادة مباراة المقاولون العرب وسموحة لهذا السبب    إيهاب جلال يعلن قائمة الإسماعيلي لمواجهة الأهلي    تموين جنوب سيناء: تحرير 54 محضرا بمدن شرم الشيخ وأبو زنيمة ونوبيع    برلماني يطالب بالتوقف عن إنشاء كليات جديدة غير مرتبطة بسوق العمل    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    أخلاقنا الجميلة.. "أدب الناس بالحب ومن لم يؤدبه الحب يؤدبه المزيد من الحب"    خليل شمام: نهائى أفريقيا خارج التوقعات.. والأهلى لديه أفضلية صغيرة عن الترجى    تقديم موعد مران الأهلى الأخير قبل مباراة الإسماعيلى    درجات الحرارة المتوقعة اليوم الثلاثاء 30/4/2024 في مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة السمسمية من الضمّة إلى الشوبش
نشر في الشروق الجديد يوم 05 - 04 - 2009

«سمسمية إيه بس!» ضحك سائق التاكسى متعجبا من أن يسأله أحد إذا كان لديه شرائط كاسيت لفنانى السمسمية، خفض قليلا صوت سعد الصغير المنطلق ب«العنب» من الشريط، الذى وضعه ونحن نخرج من محطة أوتوبيسات الإسماعيلية، وقال إن السمسمية لم تعد موجودة إلا فى بعض ليالى الأفراح والحنة فى الأحياء الشعبية. ورغم أنه يسكن منطقة «الحكر» إحدى المناطق الشعبية فى مدينة الإسماعيلية، فإنه لم يحضر فرقة سمسمية فى حفل زفافه لأنه رأى ذلك «حاجة قديمة وراحت عليها»، ولكن أخاه فعل.
ومع ذلك عندما عرف أن مقصدنا هو منزل الفنان إبراهيم العثمانلى، قال إنه يعرفه طبعا فهو أشهر فنانى السمسمية فى أفراح الأحياء الشعبية فى الإسماعيلية، وهو ابن عبده العثمانلى واحد من أقدم وأشهر فنانى السمسمية فى منطقة القناة بأسرها. بل إنه يعرف جيدا مكان منزله الموجود فى حارة فى حى «الشهداء» الشعبى، ويعرف مكان مقهى «عمر النعيمى»، الذى يرتاده معظم فنانى السمسمية الآخرين، وفيه يلتقون مع الزبائن ويتم الاتفاق والترتيب لإحياء الليالى.
تركت السيارة شارع كورنيش بحيرة التمساح، رائع الجمال ذا الخضرة الممتدة على طول رصيفه وعلى مد البصر، وانحرفت إلى شوارع «مكسرة» وأقل جمالا، اشترط السائق لدخولها أن يحصل على خمسة جنيهات كاملة! بزيادة جنيهين عن تعريفة التاكسى الثابتة فى الإسماعيلية. ولكنه لم يدخل إلى الحارة الضيقة، التى أشار إلى أن بيت العثمانلى داخلها.
على عكس المتصور فى بيت أشهر فنانى السمسمية الشعبيين الإسماعيلية، فإن بيت إبراهيم العثمانلى محدود المساحة وبالغ البساطة فى دور أرضى هو كل الأدوار فى بناية صغيرة وسط بعض العمارات الأكبر.
ترحب بنا زوجته التى تعرف نفسها ب«أم محمد» وتدخلنا إلى حجرة صغيرة، ولكنها مزدحمة بأشياء تنتمى إلى تواريخ متباعدة. على الحائط سمسمية صغيرة قديمة يعلوها التراب، تمثل الشكل الأقدم من الآلة الشعبية ذى الأوتار الخمسة، الذى لا يقدم إلا موسيقى السلم الخماسى، وصندوقها الموسيقى المدور هو عبارة عن طبق ميلامين عادى مغطى بجلد عنق الجمل، والأوتار من سلك جنزير الدراجات مشدودة على قطعة دومينو. وفى ركن آخر هناك سمسمية حديثة ذات اثنى عشر وترا، يمكنها أن تقدم كل الألحان والمقامات الشرقية، ومزودة بسلك موصل من صندوق الآلة إلى جهاز ضبط الصوت، وإلى جوارها درامز وسماعات صوت كبيرة ودفوف. فى هذه الآلات استثمر إبراهيم العثمانلى ما كسبه، لكى يقيم حفلاته بأدواته ولا يضطر لتأجيرها.
يأتى العثمانلى، الذى يستعد لإحياء حفلة حنة هذه الليلة، ويشير إلى الآلات موضحا أن الزمن تغير، لابد من الدرامز والسمسمية الجديدة، فلا يمكن أن يغنى الأدور القديمة من تراث السمسمية فقط، «الناس عاوزة تفرح ولازم أغنى «قولى عمل لك إيه قلبى» و«دار يا دار» وأغانى شعبية جديدة فرايحى مع إيقاع الدرامز. لازم أتطور علشان أكسب عيشى وأربى عيالى».
يرفض العثمانلى الاعتراف بالتناقص الملحوظ فى الأفراح التى تحييها فرق السمسمية، رغم أنه يؤكد أن الجيل الجديد يفضل ال«دى جيه» DJ. يصر على أن الأحوال أفضل مما قبل، فهو يقول إنه لا يحيى أقل من عشر ليال فى الشهر، تتقاضى فرقته المكونة من خمسة أفراد عن الواحدة منها 500 جنيه أو 400 جنيه مجاملة لمن يعرفه. ولا يجد حرجا فى الاعتراف بأن فرق السمسمية فى الماضى لم تكن تجنى من عملها إلا «الكيف» من الحشيش والبيرة، وربما كانت هناك بعض النقوط كتحية للفرقة من أهل الفرح.
رفيقة الضمة والصحبجية
بالفعل، بدأ حضور السمسمية وسط احتفالات أهل القناة بشكل عفوى لا احترافى، عندما بدأت تستخدم فى حلقات الضمة.
قبل ذلك كانت الضمة دوائر يشكلها الأهالى فى الشوارع والساحات بغرض السمر أو فى مناسبات مثل الزواج والطهور والسبوع أو العودة من الحج أو الحرب، كانت تغنى فيها أحيانا أناشيد صوفية أوأغانى عاطفية أو وطنية بحسب المناسبة على الإيقاع فقط. أول ما ظهرت آلة السمسمية فى مدن القناة كانت آلة لليالى الحظ فى المقاهى، ورفضها فنانو الضمة القريبين من الطرق الصوفية. ولكن أثناء العدوان الثلاثى وبعده، قدم فنانو السمسمية أغانى وطنية تحيى تأميم قناة السويس وصمود المصريين وتغنى لبطولات المقاومة الشعبية، فبدأت السمسمية تتحول من آلة للسهر فى المقاهى إلى أداة محببة إلى قلوب أهالى مدن القناة واحتلت مركز ضمة الشوارع فى مناسباتهم المختلفة ثم أصبحت رفيقة غربتهم عندما تم تهجيرهم إلى محافظات مختلفة بعد احتلال سيناء فى عدوان 1967.
فى دائرة الضمة يتواجد «الصحبجية» ممن يجيدون العزف والغناء والرقص، وفى منتصفها عازف واحد على السمسمية، ويتحلق المتفرجون حولهم. وكان ذلك يتم بشكل عفوى وبلا مقابل ومن باب المجاملة. وكان لفنانى السمسمية حرفهم ومهنهم الأخرى، وبعضهم وظفته حكومات الثورة فى هيئة الثقافة الجماهيرية من باب رعاية الفن الشعبى، ومن هؤلاء عبده العثمانلى والد إبراهيم. وإبراهيم نفسه عمل لفترة بائعا للجاز الكيروسين ينقله بعربة تجرها حصان، قبل أن يتفرغ للعمل مع فرقته فى الأفراح. أصبحت مهنته ومورد رزقه الوحيد ولابد أن يتكيف مع التطورات ومع ما يطلبه الناس.
فى صوان الفرح القريب من شارع الدقهلية بمنطقة «العرايشية» الشعبية، اتخذ أعضاء فرقة إبراهيم العثمانلى أماكنهم. يحتل عازف الدرامز المركز، إلى يمينه عازف المزهر «الرق» وآخر مهمته تحضير «الكيف» لأعضاء الفرقة، وإلى يساره عازف الطبلة ثم عازف السمسمية. ربما لأنها أصبحت موصلة بجهاز الصوت الموضوع فى أقصى اليسار.
بدأت الفرقة فى عزف بعض موسيقى السمسمية بدون غناء، وهو تقليد قديم فى افتتاح الليالى، ومعها بدأ الشباب فى النزول إلى منتصف ساحة الفرح يرقصون. بعضهم يحمل أسلحة بيضاء صغيرة أو سواطير كبيرة، تحاول الفرقة عبثا التنبيه عليهم بالرقص بدون سلاح، ولكن حتى بعض الأطفال كانوا يحملون مطاوى بلاستيكية.
يتناوب الشباب فى الرقص ثم الجلوس على جانب الطريق، يشربون البيرة أو يدخنون سجائر الحشيش والبانجو، الذين نشط باعتهم وسط الفرح. أيضا بائع سندويتشات الكبده والسجق وبائع آخر للب والفول السودانى وقفوا بعرباتهم عند مدخل الفرح يبيعون. السيدات والبنات يحتلون جزءا من جانب الطريق، تدخل بعضهن حلقات الرقص لفترة ثم يعاودن الجلوس. يملأ الصخب المكان، ويلتف الناس حول سليمان «نوبتجى» الفرقة الذى يتولى جمع النقوط، التى يسجلها واحد من أهل الفرح فى كراسة. يقطع صوت سليمان الموسيقى والغناء لكى يعلن عن النقوط «عشر شمعات (يعنى عشرة جنيهات) من الحاج سعد من الشهداء أى حى الشهداء تحية لكل أهل الشهداء على الصعيدى» فتعزف الفرقة الإيقاع الصعيدى.
السمسمية تتكيف
النقوط أصبحت أهم طقوس ليالى السمسمية، فالفرقة التى تؤدى أداء حيا هى وحدها، التى يمكنها أن تستحث الناس وتحييهم لتذكرهم بواجب «النقوط» ثم تحييهم عليها وتعزف لهم ما يطلبون فورا مقابل ما دفعوا، وهو ما يعرف ب«الشوبش»، الذى لن يقوم به الدى جى. النقوط تذهب كلها لأهل الفرح، ولا تحصل الفرقة إلا على أجرها الثابت، إلا فى حالة المتيسرين، الذين يمنحون الفرقة أجرا رمزيا ويتركون لها كل النقوط.
بين تحيات النقوط يتنقل العثمانلى مع فرقته بين أغانى مختلفة، من «حنة يا حنة يا قطر الندى» من التراث إلى «راحوا الحبايب» لعدوية ثم «دار يا دار» لوديع الصافى ثم بقفزة تاريخية كبيرة تغنى الفرقة مقطع من «آه يا نا يا تعبانة» لمطربة الأفراح منار سعد أو جزء من «العبد والشيطان» لمحمود الحسينى. رنات السمسمية تتجاوب مع كل الألحان تحت قيادة الدرامز، الذى يصيح عازفه وسط الفواصل الموسيقية صيحات الأغانى الشعبية الشهيرة «قوللووووه» أو «اوعى» أو «ولع ولع».
كل فترة، يحاول سليمان، النوبتجى، أن يستأذن الحاضرين فى أن يتوقفوا مؤقتا عن النقوط والتحيات «نسمع شوية الأستاذ إبراهيم». تعزف الفرقة لفترة قصيرة الموسيقى المميزة لأدوار السمسمية: «نوح الحمام» و«والنبى يا غزال حوش طرف الشال» وينتشى إبراهيم العثمانلى ويغنى ويؤدى الرقصات المميزة لحلقات السمسمية. ينتهى سريعا وتعود الفرقة للتنقل بين الأغانى والنقوط، يترك إبراهيم العثمانلى الغناء كثيرا لشباب فرقته ويذهب مرارر ليحيى الشيخين والدى العروسين ويجلس معهما، فيرحبان به كثيرا. يبدو أنهما يذكران قدر أبيه ويحفظان له قدره كفنان آلتهم المحببة. بينما الشباب الصاخب لا يزداد حماسه إلا مع إيقاعات الأغانى الشعبية الحديثة.
بين حضور الفرح، وإلى جوار الفرقة كان يجلس طارق السنى، صديق العثمانلى وعازف الإيقاع والنوبتجى فى فرقته سابقا. الذى توقف عن العزف فى الأفراح حاليا ولا يعجبه أحوالها، ولكنه يرافق العثمانلى أحيانا أن احتاج إليه عرفانا لعشرة العمر.
«آخرة مرة عزفت مع العثمانلى لم يتمكن هو من غناء أغنية واحدة وسط النقوط»، يقول طارق السنى: «وأنا انفعلت وانسحبت عندما قام واحد ودفع نقوطا وطلب أن يضع الميكروفون على موبايله ليسمع نغمته. ساعتها غضبت وعنفته وأخرجت من جيبى أكثر من نقوطه وقلت إن هذه آخر مرة أعزف فى الأفراح».
طريق آخر
بخلاف العثمانلى الذى احترف الغناء فى الأفراح، فإن طارق السنى يحتفظ بمهنته كفنى كهربائى فى إحدى الشركات، لذا كان قراره سهلا بالتوقف. وإن كان لا يزال يعزف أسبوعيا مع فرقة «الصحبجية» التى أصبحت فيما بعد فرقة «الوزيرى»، نسبة لمحمد الوزيرى أحد رموز السمسمية فى الإسماعيلية ورئيس الفرقة الذى توفى مؤخرا، فأطلقوا اسمه على الفرقة تخليدا لذكراه.
يوم الثلاثاء من كل أسبوع هو موعد الفرقة، التى تجتمع فى النادى الإسماعيلى القديم وتغنى أغانى تراث السمسمية فى أجواء حميمة أقرب لحالة الضمة العفوية القديمة، ولو بغير جمهور كبير. وفى السويس أيضا هناك موعد الاثنين فى جمعية محبى السمسمية، التى تعزف فيها فرقة «الحنة السويسى»، التى يشرف عليها سيد كابوريا. وكلا الفرقتين فى الإسماعيلية والسويس يستمران بدعم من مركز المصطبة للفن الشعبى، الذى أسسه زكريا إبراهيم عام 2000، لدعم فرق الفن الشعبى والمساعدة على إنشاء فرق جديدة تجمع فنانين شعبيين بهدف الحفاظ على استمرار ممارسة الفنون الشعبية فى بيئاتها وتوفير أماكن لتجمعها وفرص لتقديم عروضها. قبل إنشاء المركز أسس زكريا إبراهيم فرقة «الطنبورة» أواخر عام 1988 مع العديد من فنانى السمسمية والضمة فى بورسعيد.
ولمدة 20 سنة حافظت الطنبورة على موعدها الأسبوعى مساء الأربعاء، الذى تنقل بين عدة أماكن ومقاهٍ وواجه عداوة فرق مغنيى الأفراح ومسئولى قصور الثقافة. السبب كما يقول على عوف عضو الفرقة: «لقد أعدنا أدوار الصوفية للسمسمية وذلك لم يرض أذواق فرق الأفراح وقالوا إنها مثل ترانيم الكنيسة. واحتفظنا بحرفنا وملابسنا العادية ورفضنا ارتداء الأزياء الموحدة مثل فرق الفنون الشعبية وذلك لم يرض الأفندية فى قصور الثقافة». موعد الأربعاء استقر الآن فى كافيتريا النجمة بحى بورفؤاد، شرق بورسعيد فى الضفة الأخرى من قناة السويس.
فن شعبى جديد
يقول زكريا إبراهيم: «هدف الطنبورة هو الحفاظ على تراث الضمة والسمسمية كما هو بعيدا عن الأداء التجارى، الذى أفسده جو الشوبش والنقوط، وبعيدا أيضا عن الأداء الحكومى المعلب فى فرق قصور الثقافة».
ولكنه على أى حال يرى فى وجود الفرق التى تعزف السمسمية فى الأفراح جانب جيد، فالفرق القليلة الباقية مثل «العثمانلى» فى الإسماعيلية و«ناصر السويسى» فى السويس و«زارنى» فى بورسعيد، بفضلهم لا يزال صوت السمسمية موجودا فى الشوارع وتسمعه الأجيال الجديدة، ولكنه يأسف لأن هذه الفرق أخرجت فنون السمسمية من سياقها واستسلمت لما يراه غناء لكلمات خالية من المضمون ولمحاكاة الغناء الشعبى الحديث.
فى نهاية الأمر، يحتاج فنانو السمسمية المحترفين إلى كسب أرزاقهم، كما أن الفن الشعبى يتشكل دائما مما يفضل الناس سماعه فى تجمعاتهم واحتفالاتهم، وفنانو السمسمية فى الأفراح يتجابون مع هذ الأمر.
وفى الناحية المقابلة، مشروع المصطبة وفرقه الثلاث يحتاج باستمرار للدعم من أجل الاستمرار، وما يدره من دخل الحفلات والإسطوانات لا يكفى وحده. لذلك كان تمويل مؤسسة فورد الأمريكية غير الحكومية ضروريا لإنشاء المركز ولاستمرار دعم الفرق الثلاث، التى تهدف لحماية التراث الفنى للسمسمية بممارسته دون إدخال تعديلات عليه إلا لأغراض فنية. مثل إضافة آلة الطنبورة التى تسمت الفرقة باسمها ذات الأوتار الكتانية أو النايلون لتعطى صوتا غليظا يوزان الصوت المعدنى الحاد للسمسمية ويتناغم معه.
كما تقوم الفرقة بتأليف وتلحين أغان جديدة، وطنية مثل «زى النهارده»، التى تم تأليفها عام 2006 بمناسبة مرور 50 سنة على تأميم القناة. ومثل «والله زمان يا معلّم»، التى كتبها ولحنها زكريا إبراهيم تخليدا لأسماء رواد فن السمسمية فى مدن القناة، ومنهم الوزيرى وعبده العثمانلى من الإسماعيلية.
أجيال عدة لم تسمع تراث السمسمية إلا من «الطنبورة»، التى لاقت نجاحا كبيرا فى مصر والعالم، وأصدرت عدة أسطوانات، وتزدحم حفلاتها فى المراكز الثقافية. وصار موعدها الأسبوعى فى كافيتريا النجمة على شاطىء بورفؤاد مقصدا للسياح ومحبى السمسمية من أبناء بورسعيد والقناة، أو من باقى أنحاء مصر أحيانا.
طارق السنى، لا يكتفى أحيانا بيوم واحد للسمسمية فى الأسبوع مع فرقة «الوزيرى» فى النادى الإسماعيلى القديم، بل يسافر إلى بورسعيد ثم بورفؤاد مساء الأربعاء ويذهب إلى كافيتيريا النجمة لحضور ليلة الطنبورة هناك.
الاستشفاء ب«البهجة»
على عوف، عضو «الطنبورة»، يقول إن البعض يسمى هذا الموعد، بموعد «المستشفى»، فهم أجيال شكل صوت السمسمية وجدانهم وهم يسافرون إليها طلبا للاستشفاء بالبهجة.
تزدحم «النجمة» عادة فى الصيف والربيع، ولكن حتى فى تلك الليلة الشتوية، كان صف الكافيتريات الطويل على شاطىء بوروفؤاد خاليا كله، إلا «النجمة» وحدها كانت مزدحمة بالرواد. معظمهم من الأجيال الأكبر، أعمار معظمهم فوق الأربعين، اصطحبوا عائلاتهم وانتظروا حتى وقت متأخر من الليل.
فى العادة يبدأ أعضاء الطنبورة بعد العاشرة مساء. يتناوبون على العزف والغناء والرقص بعفوية وانسجام ويشاركهم المتحمسون من الجمهور. ينتشى الجمهور لأدوار الضمة الصوفية أو للأغانى المرحة أو يأخذه النزق مع الأغانى العاطفية، التى لا تخلو من الملمح الصوفى.
وعندما يتأخر الوقت ويكون عليهم أن يتوقفوا ويعودوا إلى بورسعيد، ينتهى العرض فقط بالنسبة للجمهور، أما أعضاء الطنبورة فيتجهون إلى مقاهيهم الصغيرة فى شارع الأمين. يتناول محسن عشرى، عازف السمسمية الرئيسى فى الفرقة، آلة السمسمية الخاصة بهم المعلقة على حائط المقهى. يجلسون ويتسامرون وكأنهم لا يريدون لليلة أن تنتهى. وما إن يدندن واحد منهم بلحن يعن له، حتى يبدأوا معا فى غنائه وعزفه على السمسمية وإيقاع النقر على الطاولات والكراسى ورنين الملاعق على الأكواب، فلا يملك عمال المقهى إلا الاستسلام للرقص دون أن ينسوا تسجيل الطلبات الكثيرة للساهرين حتى الصباح.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.