يوسف ليمود تحمل بعض أعمال الفنان (أى فنان) حضوراً خاصاً ومؤثراً مقارنة بباقى أعماله. هذه اللوحة «شاطئ البحر» للفنان أحمد مرسى نموذج لهذه الحقيقة. حوّل الفنان قماشة اللوحة هنا إلى خشبة مسرح تشتبك فيه الشخوص مع الاكسسوار مع الظلال مع الديكور، فى جو أشبه بالحلم، مثلما تشتبك فيه اتجاهات فنية مختلفة، من سريالية ورمزية فى منطق التناول، إلى غنائية فى التلوين وبنائية فى الحس العام للتصميم. تتجلى الروح السريالية فى تلك الصحراء الخاصة بهذا الفنان، حيث يتحرك ناسه، عرايا، فى أوضاع هى اقتناص للحظاتٍ وجودية تائهة، كما لو كانوا يبحثون عن معنى ما، أو فى انتظار شيء ما أقرب ما يكونون إلى شخوص مسرحية بيكيت «فى انتظار جودو»، وفى انتظارهم هذا، يقومون بحركات وأفعال عبثية لتزجية الوقت، الوقت الذى هو وجودهم. جرّد الفنانُ المكانَ من هويته الجغرافية والزمانية، فلا هو ينتمى للشرق ولا للغرب. ربما نتج هذا من التجربة الشخصية للفنان، حيث يحمل جغرافيا بلده مصر، الاسكندرية تحديداً، فى مهجره، فى نيويورك مجرد أرض تتحرك فوقها جزر آدمية منفصلة بعضها عن البعض، وعناصر أخرى من صميم الأرض تمثل طبيعة حية أو ميتة: جبل، بحر، سماء، دخان، سمكة، تابوت. كل الوجوه، هنا، مثلما فى معظم لوحاته، هى أقرب لوجه الحصان، العنصر الذى يكاد يكون أساسياً فى تجربة هذا الفنان عموماً: وجه مستطيل بأعين كبيرة وبلا رأس تقريباً. هل يشير هذا، رمزياً، إلى الجوهر الحيوانى القابع فى عمقنا الانساني؟ أم هو إعادة تشكيل للإنسان فيما قبل اللغة، فى صمته البدائى، بعيونه المفزوعة، التى ترى ولا تنطق؟ كذلك السمكة، ذات الدلالات الرمزية المتعددة، حسب السياقات المختلفة، من إيحاء لعالم اللاوعى والخصوبة، إلى كونها، تاريخياً، رمزاً سرياً للإيمان المسيحى المبكر فى عصر الاضطهاد، إلى تمثيلاتها، فى الثقافة الشعبية والأساطير كرمز للرزق والوفرة والطاقة الأنثوية. انطلق الفنان من مستطيل مشبع بأزرق الألترامارين وليس من أبيض القماشة المخيف. من هذه الانطلاقة أخذت اللوحة هويتها البصرية كفضاء ليلكى لرؤيا روحية، تاركةً ظلالَ الأشكال ثقوباً من ذلك الأزرق المشع، المحبب للعين والدالّ. أخذ أزرق الألترامارين اسمه من حقيقة أنه كان يُجلب فى العصور الوسطى إلى أوروبا من حجر اللازورد من أفغانستان، من «ما وراء البحر». كل تفصيله هنا غير متوقعة ومفاجئة، حد الشعور بأن الفنان بدأ من دون خطة مسبقة. من دون أن يعرف أين ستأخذه العناصر والأشكال. مسلماً بحقيقة أن اللوحة هى من تشق طريقها لاكتمال عالمها. أقول «من» وليس «ما». فللوحة مزاجها وعقلها الباطن، وليس على الفنان سوى الامتثال لما تفرضه وما تهمس به. تأخذ الأشكالُ فى حركتها العينَ بسلاسة فى رحلة ناعمة إلى التضاريس الجمالية المتباينة الأحجام والملامس، حيث تتفاعل المفردات والعناصر فى حوارية نكاد نسمع فيها صوت الصمت. بالإمكان الخروج من تفاصيل هذه اللوحة بأكثر من لوحة قائمة بذاتها: الشخصان فى اليسار لوحة. الشخصان حول السمكة والتابوت على اليمين لوحة. البحر والجبل والبوابة المرسوم على سورها السفينة فى أعلى اليمين لوحة. ثمة قدمان يبدوان كبقايا تمثال إغريقى، فى منتصف العمل تماماً، يولدان بعداً زمانياً يمزج الحاضر بالماضي. انظروا إلى بقعة اللون الصفراء، فى جسد المرأة الطائر أفقياً فيما يشبه اللعبة العبثية، على ضآلتها وهشاشتها، تمثل قمة الصعود فى اللحن اللونى، فى ذلك المكان الحيوى من اللوحة. هى المقابل المشع لذلك الأزرق المنتشر، وهى السهم الذى يسحب العين نحو شاطئ البحر، خلف البوابة القائمة من زمن بعيد والتى تفصل بين عالمين. كثافة الحمولة البصرية والرمزية جعلت من هذه اللوحة أقرب ما تكون إلى التجربة الروحية. ورغم أن العمل فى بساطة أدائه وعفويته لا ترهقه حذلقة فكرية أو فذلكة فلسفية، صار موضوعاً للفكر وواحة للتأمل.