فن حسن سليمان فيه سمات الفن المصري القديم حيث آلهة الشمس والضياء، الأرض والفضاء، حب الحياة والمتعة الحسية، والخوف من الموت والفناء والرغبة في الخلود. فن وجد في الإنسان المعني المتجسد للوجود، ووجد في الأنثي قيمة العطاء وهبة استمرار الحياة، هي المثير للحواس والمحرك للوجود، هي كما كان يستشهد بمقولة جياكوميتي " العاهرة والإلهة في آن واحد"، ولهذا فقد أبدع في تصوير نساء القاهرة ، بنات البلد والفلاحات الوافدات إلي العاصمة، وأحيانا بنات الذوات أوأنصاف الخواجات. صورهن في شتي الأوضاع والأماكن، مضجعات أو جالسات، أو مسترخيات، وضوء الشمس يحرق ظلال انحناءات وإستدارات أجسادهن مصرية السمة والمذاق في غالب الأحوال. مواكب لهذا التمجيد للإنسان لم يغفل هذا الفن الأشياء الأخري التي يحبها ويعيش معها من ورود وفاكهة وفخاريات وقوارير، ومساكن ومقابر، فهي المكمل لحياته، والمستثير لأحاسيسه، والمرقد الأخير إلي حين. كان كل من الحياة والموت حاضرين في فنه. مثل الفن المصري القديم كان فن حسن سليمان ثقيلا راسخا، يحتفي بالأفقيات والرأسيات كتمجيد لمقاومة الشكل لقوة الجاذبية، مثل المسلة وأعمدة المعابد، كما كانت الكتلة في فنه ثقيلة راسخة كما لو كانت قد قدت من حجر، ولهذا فقد تميزت لوحاته بالإتزان والرصانة والبعد عن التعبير السطحي المباشر، يضمنها تعبير جواني ينبع من كيفية تمثيل وترتيب عناصر اللوحة معتمدا بالدرجه الأولي علي سيطرته الكبيرة علي فن الرسم ومفهومه العميق للفورم وإحساسه بالإيقاع الداخلي للوحة، ولهذا فقد كان عنصر اللون عنده شحيحا حتي لا يؤثر علي سيطرة هذه العناصر. ظل حسن سليمان يدافع عن القيم التي آمن بها في فنه وفي حياته، وعاش ومات مؤمنا بأنه نتاج لهذه الحضارة الفرعونية، الهيلينية ،القبطية ، الإسلامية، ولكنه في ذات الوقت مؤمن بأنه إبن القرن العشرين، وأن إنجازات الحضارة الأوروبية في لغة الشكل هي لغة التخاطب الفني الآن. هنا قراءة في لغة التشكيل البصري عند الفنان الراحل، في محاولة لفهم عوالمه، تحديدا دراسة في عناصر الخط والفورم والفراغ والضوء والإيقاع ، وهي عناصر ستؤدي إلي هذا الفهم ، وليس معني هذا بالطبع خلو فنه من بقية العناصر وإنما تأتي في مرتبة أقل مما ذكر بعاليه، فعلي سبيل المثال كان عنصر اللون شحيحا في فن حسن سليمان وإن كان هذا لا يلغي حضوره. يعتبر الخط بلا نزاع العنصر الأول في لغة التشكيل البصري بل يمكن بلا مغالاة أن نعتبره أهم عناصر هذه اللغة . يمكن لخط وحيد علي سطح أبيض أن يولد علاقة مع فراغ اللوحة ويؤكده, وإذا قسم هذا الخط الفراغ إلي مساحتين متناسبتين فسيخلق تناغما واتزانا وهارمونية, أما إذا كانت المساحتان غير متناسبتين فسيخلق هذا توترا ديناميكيا. وإذا وضع خط ثان مقابل هذا الخط فستتولد بينهما محادثة وديالوج, وإذا غيرنا من أطوال هذين الخطين ودرجة ميل كل منهما فسنحصل علي عدد لانهائي من العلاقات والإيقاعات, وإذا تقاطع الخطان فسينشأ صراع, وإذا أضفنا خطوطا أخري فستزداد العلاقات تشعبا وتعقيدا. ويؤخذ الخط علي أنه المعبر عن شخصية الفرد, من طريقة كتابته للكلمات أو تعبيره بالرسوم, وهو بعيد عن الغموض, واضح ومحدد ومتفرد في آن واحد. والخط هو المعبر الأول للفنان عن أفكاره, فهو يخطط أفكاره أي يضعها في صورتها الأولية علي الورق, ومن هذا اشتقت كلمة تخطيط وخطة أي وضع تصور وخطوات تنفيذ عملية أو مشروع. والخط هو وسيلة التعبير التلقائية للطفل حينما يبدأ في وضع علاماته الأولي علي الورق, يحرك يده ذات اليمين وذات اليسار مفتونا بقدرته علي ترك آثاره علي السطح. والخطوط أنواع فهناك الخط المستقيم, وهو خط هندسي صارم وفي أبسط تعريفاته هو المسافة بين نقطتين في الفراغ, وهو عندما يحصر أشكالا فهي أشكال هندسية منتظمة ,مربع,مستطيل,مثلث وهلم جرا. والخط المستقيم يمكنه أن يتخذ عدة أوضاع وأشكال علي سطح اللوحة, فقد يكون في وضع رأسي وهو في هذه الحالة صاعد متزن ويعطي الإحساس بالشموخ والحياة. ويمكن أن يكون في وضع أفقي, وهو في هذه الحالة مستقر هادئ ويعطي الإحساس بالسكون والموت. وهناك الخط المحوري أو المائل, وهو خط غير مستقر, فهو ينحو نحو السقوط إلي أسفل للوصول إلي الوضع الأفقي المستقر, أو يحتاج إلي قوة رفع لتشده إلي أعلي ليصل إلي الوضع الرأسي المتزن. وهناك الخط المنكسر والذي ينتج عن التقاء خطين يحصران بينهما زاوية حادة أو منفرجة, وهنا تنشأ عند تلاقي الخطين نقطة سكون أو ارتكاز, وهي مثل قمة الهرم النقطة التي ينتهي عندها الصعود ويبدأ الهبوط, أو طرف السهم الذي يشق الفراغ, النقطة التي تتركز فيها القوة. ثم نأتي إلي الخط المتعرج وهو أكثر الخطوط المستقيمة حيوية ونشاطا, فهو خط متوتر نشط ومتشنج, ما يكاد يندفع في اتجاه حتي يصطدم بنقطة ارتكاز, ليتوقف بغتة ثم يغير من اتجاهه ليعاود الاندفاع إلي نقطة ارتكاز أخري وهكذا دواليك. وهو خط يوحي بالحياة والطاقة مثل أمواج البحر, ولا عجب في أن الفنان المصري القديم اتخذه ليمثل أمواج المياه. وكنقيض للخط الهندسي الصارم, هناك الخط المنحني, وهو خط لين منساب تنزلق عليه العين في يسر وسهولة, خط منتشي راقص, أنثوي الطابع, يتفادي التصادم الناتج عن نقاط الارتكاز, وهو يمكنه أن يكون متمهلا أو متسرعا, متعقلا أو انفعاليا. في كتابه سيكلوجية الخطوط يصف حسن سليمان الخط يقول: الخط لا يعبر مطلقا عن فراغ, الخط يعبر عن النهايات. الخط كقاعدة, الخط كبداية. الخط كحد يفصل بين المتناقضات "الموت والميلاد", "الليل والنهار". الخط يعبر عن حافة "عن هاوية". الخط كتوازن سيكولوجي أي: كرمز للتغير اللوني " فاصل بين لونين" كرمز يفصل بين الإرادة واللاارادة، بين المعلوم والمجهول, بين الوجود والعدم, بين النهائية واللانهائية "خط الأفق" الخط مرشد للبصر. الخط كنسبة هندسية. الخط كتعريف ابسط للأشياء.الخط يؤكد نهاية فورم. الخط يحصر فراغا أي يكون إطارا لفراغ ," حافة النافذة". الخط نتيجة لضغط وإندفاع , أي نتيجة لشئ في حركة أو حركة شئ. الخط إستمرار حركة من ناحية المعني التجريدي للحركة. الخط كمساو لطريق حركة. الخط كانطلاق نقطة. الخط كاندفاع طاقة نشاطية. منذ مراحله الأولي أعطي حسن سليمان للخط القيمة العليا في لغته البصرية, ولاعجب في هذا فقد كان يعلي عنصر الرسم عما عداه, ودائما ما كان يردد مقولة أستاذه بيبي مارتان " ارسم صح ولون بتراب" . كان حسن سليمان رساما من الدرجة الأولي, وتمثل رسومه باستخدام الفحم أو السونجين نسبة كبيرة من إنتاجه من ناحية الكم, ولم تكن هذه رسوما تحضيرية للوحات سيتم تنفيذها بخامة الزيت, وإنما أعمال قائمة بذاتها ( شكل رقم 1 ), كما أنه كان حفارا من الدرجة الأولي, وله العديد من الأعمال المنفذة بواسطة الحفر علي الزنك ( شكل رقم 2 ), أو الطباعة علي الحجر, وكانت رسومه وتصميماته المنفذة بالأبيض والأسود لمجلة الكاتب نقلة نوعية في عالم الرسوم المصاحبة للكتابة.كان حسن سليمان دائما يبدأ لوحاته في أي خامة كانت بالخطوط التي تحدد بناء اللوحة, يرسم ويمسح ويعيد الرسم مرات ومرات ولا ينتقل إلي مرحلة وضع قيم الغامق والفاتح قبل أن يصل إلي العلاقات الخطية التي ترضيه. " لقد بدأت الخطوط تغني" هكذا كان يقول, ولهذا كانت لوحاته مبنية بالدرجة الأولي علي الإيقاع الخطي لعناصر اللوحة. إذا نظرنا إلي لوحة الطبيعة الصامتة ( شكل رقم 4 ) والتي نفذها الفنان في الثمانينات وتمثل موضوعا من المواضيع الأثيرة لديه وهي ثمرات الكمثري, فهناك ثمرة ترقد في طبق تحيطه ثلاث ثمرات مستقرة علي سطح منضدة, وقد استعمل حسن سليمان الخطوط المتعرجة في تشكيل الثمار سواء في الخطوط الخارجية للثمرة أو الخطوط التي تمثل حدود الضوء والظل, وبرغم الرسوخ والإحساس بالثقل الذي نحسه في هذه الثمرات, إلا أن الخطوط المتعرجه عبرنقاط الإرتكاز أضفت علي اللوحة إيقاعا نشطا, يتعارض مع السكون الذي تخلقه الخطوط الأفقية التي تحدد سطح المنضده. كانت الخطوط الرأسية والأفقية حاضرة في معظم تكويناته كذروة الصراع بين السكون والموت الذي يعبر عنه الخط الأفقي, وذروة الانتصاب الديناميكي والإحساس بالقوي الصاعدة الذي يعبر عنه الخط الرأسي. وما بين الرأسيات والأفقيات كانت المحاور المائلة بحكم طبيعتها غير المستقرة وحالة الحركة التي تحتويها تستخدم كعناصر ديناميكية لإثراء حالة الصراع الديناميكي في اللوحة. إذا أخذنا لوحة ذات المنديل الأزرق (شكل رقم 5 ) والتي أنجزها الفنان عام 1980 فيبدو واضحا فيها كيف استعمل حسن سليمان الرأسيات والأفقيات والمحاور لبناء التكوين. يوجد شريط رأسي يحد اللوحة من اليمين ويحصر مصدر الضوء في اللوحة والذي يأتي من خلف الفتاة الجالسة في مواجهة الرائي, ومصدر الضوء في هذه الحالة هو شرفة المرسم. الفتاة يؤطرها ظهر المقعد الذي تجلس عليه والذي تحصر أضلاعه الرأسية والأفقية مساحات مستطيلة من الضوء, ويخلق تقسيم مساحات الضوء والظل في خلفية اللوحة مستطيلات من السكون يكسرها إيقاع رأسي وأفقي رصين. إذا إنتقلنا إلي الفتاه فنجد أنها تتعارض في بنائها بحدة مع الخلفية, فهي مبنية كلية علي مجموعة من المحاور أوالخطوط المائلة ولا يستعمل الخطوط المنحنية إلا نادرا. الخطوط المحورية والمائلة تتقاطع وتتداخل بداية من طيات المنديل مرورا بالرأس والرقبة التي تميل بحدة بانحراف متعمد علي محوري عظمتي الترقوة, نزولا إلي النهدين اللذين يحصران مثلث الصدر ثم البطن التي تتوقف عند مثلث من الضوء الساقط علي الفخذ, وتخلق الخطوط المائلة كم من المثلثات المتماسة والمتقاطعة والمتداخلة تحد مساحات النور والظل وتؤكد تفاصيل الجسم والرداء الذي يضيق به, وتخلق هذه الخطوط كما من الإيقاعات الغنية التي تتوحد في تأكيد ذلك الفورم الأنثوي, المتفجر بالروح المصرية حتي النخاع. كان حسن سليمان واع بشخصية الخط والحالة السيكلوجية لكل نوع من أنواع الخطوط، يستخدم الخط المنحني إذا أراد التعبير عن الليونة والنعومة والأنوثة , والخطوط الحلزونية عندما يريد خلق حالة إنفعال حركي. ولكنني أعتقد أن لغته كانت تصل إلي قمة ثرائها في الخط المتعرج فهو خط نشط ملئ بالحركه بحكم أنه مكون من متتالية من المحاور المائلة صعودا وهبوطا, ولكن قوة إندفاع هذه الخطوط تزداد حدة بوجود نقاط الإرتكاز التي يغير عندها الخط من اتجاهه , والتي تقف عندها العين برهة لتواصل إندفاعها بعد ذلك في الإتجاه التالي. إذا نظرنا إلي اللوحة (شكل رقم 6 ) وهي من مجموعة المستحمات والمنفذة سنة 1992, اللوحه تمثل ثلاث فتيات في ملابس الإستحمام يلهين علي الشاطئ وفي حالة من الحركة والنشاط, فنجد هنا كيف يستعمل حسن سليمان الخط المتعرج لخلق حالة إيقاعية نشطة. الخطوط التي تمثل حدود الظل في أجسام الفتيات تم كسرها عن عمد لخلق خطوط ارتكاز في الكتف والمرفق والساعد والفخذ وحتي في مساحة النور علي الثدي. ويعارض الخط المتعرج الخط المنحني في استدارة الأثداء وحدود البطن وحدود لباس البحر حول الصدر وعند الأفخاذ. هنا يخلق الفنان حالة من النشاط بإستعمال الخط المتعرج في الحدود الخارجية (الكونتور) بينما الخطوط المنحنيه تشي بعنفوان الأنوثة المتفجرة. وقد استعمل حسن سليمان التضاد بين الخط المتعرج, والخطوط المنحنية والخطوط الحلزونية والمتقاطعة التي تحاكي الشخبطة ( شكل رقم 7 ), في رسومه ولوحاته علي حد سواء بأستاذية وإقتدار, أعطت لها هذه البصمة الواضحة والتي تجعلك تتعرف علي أعماله حتي من خلال تفصيلة صغيرة من سطح اللوحة , فالخط المتعرج فيه حسابات عقلية في تحديد درجة ميل الخطوط ومواقع نقاط الإرتكاز وعلاقة كل منهما بالفورم, والخطوط الحلزونية والمتقاطعة تحمل شحنات إنفعالية تلقائية بعيدة عن سيطرة العقل , وإن كانت هذه الحسابات العقلية وتلك الشحنات الإنفعالية يخضعا في أخر المطاف لحساسيته الفنية الفائقة. ويمكن أن نري هذه البصمة في ( شكل رقم 8 ) وهي للوحة طبيعة صامتة أواني منفذه سنة 1997, وهي اللوحة الشهيرة التي رسم منها أكثر من أربعين نسخة في استعراض لكيفية تأصيل تجربة علاقة الفنان بالموضوع, وعرضها جميعها في معرض واحد في حدث غير مسبوق في حركة الفن التشكيلي في مصر . منذ بدء الوعي ونحن ندرك بوجودنا في فراغ ثلاثي الأبعاد, نتحرك فيه طولا وعرضا وارتفاعا وانخفاضا. وتتوزع في هذا الفراغ جميع الأشياء من حيوان أو جماد, في حالة حركة أو حالة سكون, كل يشغل حيزه الفراغي سواء كان في ضآلة حبة الرمل أو ضخامة جبل شامخ. وكان إحساسنا أن هذا الفراغ يمتد بطول الأرض من حولنا وبارتفاع السماء من فوقنا وينتهي بنهايتهما. وفي النصف الثاني من القرن العشرين, كانت هناك مقولة شائعة هي " إننا نعيش في عصر الفضاء". فقد بدأ مفهوم الإنسان عن الفضاء أو الفراغ space يتغيرمنذ أن أدرك أن الأرض التي يعيش عليها كوكب يسبح في الفضاء , وإدراكه لمحدودية حجم الأرض بالنسبه للأبعاد اللامتناهيه للفضاء. لم يكن الفنان قبل القرن العشرين مهموما بتمثيل الفراغ وعلاقته بالشكل, وإنما كان همه هو الإيهام بوجود عمق أو بعد ثالث في لوحاته يحاكي به ما تراه عيناه في الطبيعة. وعبر التاريخ ظهرت ثلاثة أساليب لتمثيل البعد الثالث علي السطح المستوي للوحة, الأول بخلق مستويات للعمق عن طريق التداخل overlap والإخفاء, فالشكل القريب من الرائي يخفي الجزء الذي يتداخل معه من الشكل الذي يقع خلفه, ويكون الإيهام بالعمق محدودا في هذا الأسلوب, إلا انه قد تم الوصول إلي نتائج باهرة باستخدام هذه القاعدة في فن المنظر الطبيعي في الحضارة الصينية بتغيير كثافة الأشكال المتداخلة, فألأشكال القريبة تكون كثيفة والأشكال البعيدة باهتة. يقول حسن سليمان في كتابه ( سيكلوجية الخطوط ): التدرج من الإرتفاع إلي الإنخفاض (الدرجة). التدرج من القوي إلي الضعيف. التدرج من الثقيل إلي الخفيف. التدرج من الصلب إلي الهش. أما الأسلوب الثاني فهو تمثيل البعد الثالث عن طريق الإنحراف الأيزوميتريIsometric. يعتمد هذا الأسلوب علي أن الخطوط المائلة أو المنحرفة المتوازية تعطي الإحساس بالعمق, وقد اعتمد الرسم بهذا الأسلوب علي الخطوط المائلة المتوازية التي تدخل الصورة من جهة وتخترقها لتخرج من الجهة الأخري,وقد إستعمل هذا الأسلوب في العديد من أساليب التصوير مثل الإسلامي والبيزنطي وإستعمله الفنانون اليابانيون بإقتدار كبير, وكان للصور اليابانيه المنفذه بأسلوب الطباعه الملونه عن طريق الحفر علي الخشب تأثيرا كبيرا علي الفنانين الإنطباعيين في القرن التاسع عشر. أما الأسلوب الثالث فهو تمثيل البعد الثالث بإستخدام قواعد المنظور والتي إكتشفت في عصر النهضه , ويعتمد هذا الأسلوب علي إفتراض أن مستوي النظر للرائي يكون موازيا لسطح اللوحه, وبالتالي فإن جميع الخطوط المتوازيه والعموديه علي مستوي النظر تتلاقي في اللوحه عند نقطه علي خط الأفق تسمي نقطة التلاشيVanishing Point . ويختلف ألإحساس السيكولوجي بالفراغ والذي يخلقه كل من الأساليب السابقه , فالفراغ في الحاله الأولي و نتيجة لإعتماده بالدرجه الأولي علي تداخل الأشكال, مستقر ومحدود داخل إطار اللوحه ومنفصل عن الرائي, والفراغ الأيزوميتري نتيجة إعتماده علي الخطوط المائله ذات الطبيعه الغير مستقره يعطي الإحساس بانه يتحرك أمام الرائي , وبالتالي إحساس بعدم الإستقرار, وهو فراغ قائم بذاته داخل اللوحه منفصل مثل سابقه عن الرائي . أما الفراغ الذي يخلقه منظور نقطة التلاشي ونتيجة اعتماده علي مستوي نظر الرائي, فهو فراغ يمتد خارج حدود اللوحه ويحتوي الرائي, ويعطيه الإحساس بأن إطار اللوحه ما هو إلا نافذه يستطيع أن يعبرها إلي داخل عالم اللوحه. وعي فنان القرن العشرين كل الحيل التي وصل إليها من سبقوه لخلق الوهم بوجود فراغ داخل لوحة ثنائية الأبعاد, ولكنه وعي في ذات الوقت أكثر من أي وقت مضي , عجزه الشديد عن خلق فراغ بالمعني الحقيقي, كما أنه وعي في نفس الوقت أن مسطح اللوحه ثنائي الأبعاد يخلق فراغ ذاتي وخاص به, وأن الخطوط والمساحات التي يضعها علي سطح اللوحه تخلق علاقات فراغيه ذاتيه وخاصه, وأن الكيفيه التي يقسم بها الفنان فراغ اللوحه بإستخدام الخطوط والمساحات, والأشكال التي تنتج عن هذا التقسيم, والعلاقات بينها والتي ينتج عنها تباين أو توافق وشد وجذب, وتخلخل وتضاغط, هي التي تخلق المدرك الفني والحسي الذي يصبو إليه. تبني حسن سليمان في معظم مراحله الفنية مفهوما ذاتيا للفراغ يقوم علي أساس المزج بين أساليب الإيهام بالبعد الثالث علي سطح اللوحه, مع المفهوم التجريدي للفراغ والذي يري أن سطح اللوحه تمثيل لحيز فراغي, وأن وضع شكل علي سطح اللوحه حتي لو كان خطا منفردا, يخلق علاقة بين هذا الشكل وفراغ اللوحه. إذا نظرنا إلي لوحة ( شكل رقم 10 ) من مرحلة الخمسينات, والتي تمثل سيدتين متشحتين بالسواد ملتصقتين كتوأمتين, تسيران في إتجاهين متعاكسين عبر أرض ذات تضاريس هندسيه, نجد أن الفراغ في اللوحه يتحدد بالخطوط المحوريه المائله والتي ترسم تضاريس الأرض, الفراغ هنا أيزوميتري غير مستقر, لاتوجد هنا نقطة تلاشي, ليس لأن المنظر مأخوذ من نظرة علويه, ولكن لأن الخطوط تسير متوازيه ولا يوجد أدني إحتمال لأن تتلاقي حتي علي مسافة بعيده خارج نطاق اللوحه. الفراغ هنا يتأكد من خلال الكثافه الشديده للمرأتين ضد فضاء الأرض الشاغر والتضاريس المتشظيه ذات القيمه الأخف . وضع المرأتين في المركز البصري للوحه يؤكد أهميتهما ويرسخ كتلتيهما, والتقسيمات الحادثه للفراغ ما بين مساحات شاغره وأخري متشظيه, تدور حول المرأتين مؤكدة وضعهما كمركز جاذب. إذا إنتقلنا إلي لوحة أخري من مرحلة الستينات لطبيعة صامته زجاجات ( شكل رقم 11), نجد نفس مفهوم الفراغ الأيزوميتري ولكن بصورة مختلفه, فعلي سطح منضده تنتصب ثلاثة زجاجات كأنها تلاثة شخوص, وعلي السطح يرقد طبق أبيض فارغ وحيد. الخطوط الأعلي والأسفل للمنضده تتوازي, إلا أن الخطان اللذان يحددان قاعدة المنضده اليمني قد تم إمالتهما عن عمد لخلق إنحراف حركي يتعادل مع الخط المائل للظل والذي يتقاطع معه عند حافة المنضده. العلاقه بين الكثافه اللونيه لأجزاء الصوره, الزجاجات وخيالاتها والحائط وسطح المنضده وقاعدتها تتضافر لخلق الإيهام بالعمق في اللوحه والإيحاء بالفراغ الذي يلف الزجاجات, إلا أن الفراغ هنا مختلف عن الفراغ في اللوحة السابقه , فهو فراغ محدود مغلق, يوحي بالوحده , خلافا للفراغ في لوحة المرأتين والذي يمتد خارج إطار اللوحه في كافة الإتجاهات. وقد إبتعد فراغ حسن سليمان شيئا فشيئا عن المفهوم الأيزوميتري الغير مستقر لصالح منظور نقطة التلاشي وذلك لما يعطيه هذا من إمكانيات في خلق عمق في الصوره خاصة في مناظر حواري القاهره والتي أشتهر بها الفنان منذ الثمانينات وقد واكب هذا إزدياد طغيان عنصر الضوء والظل في لوحاته وسنناقش هذا في حينه فيما بعد. إذا إنتقلنا إلي رائعة حسن سليمان (العمل في الحقل ) ( شكل رقم 12) والتي نفذها عام 1962 , فنجد نفس المنطق الفراغي, المنظور في هذه اللوحه علوي, ويوجد خط يقسم اللوحه عرضيا في خمس اللوحه العلوي, يوحي هذا الخط بالأفق ولكنه في غير مكانه الصحيح طبقا للرؤيه العلويه, المساحه المستطيله التي يحدها هذا الخط توحي بالسماء ووضع الفنان ثقبا اسود يوحي بالشمس وما هي بشمس. لا توجد خطوط في اللوحه تؤدي إلي نقطة تلاش فخطوط أكوام القمح تدور وترتفع وتنخفض موحية بحركة دائريه تلتف حول كومة القمح القابعه في منتصف اللوحه. علاقة الأجسام بالفراغ تخلقها كثافة كتلتا الثورين والنورج بالدرجه الأولي مقابل فضاء الأرض الأقل كثافه, كما خلق الفنان عمقا لونيا عن طريق التدرج من سخونة وكثافة اللون البني المحروق في الثورين والنورج, مرورا بالأصفر الأوكر للأرض في مقدمة الصوره, وإنتهاءا بالأزرق الرمادي في مؤخرة اللوحه. الفراغ هنا قائم بذاته, منفتح خلف إطار اللوحه, تطل عليه ولكنه لا يحتويك. يتكررهذا الفراغ شديد الذاتيه في لوحات حسن سليمان خلال حقبة الستينات ومعظم السبعينات قد يكون مفتوحا بلا حدود كما في لوحة الأوز(شكل رقم 13 ), أو مغلقا كما في لوحة المرأه علي ماكينة الخياطه ( شكل رقم14 ), أو حتي لوحات الحاره ( شكل رقم 7 ). ويحدث تحول في التمثيل الفراغي عند حسن سليمان في نهاية السبعينات ويترسخ في الثمانينات ويستمر معه حتي آخر مراحله في الألفيه الجديده, حيث يسيطر المنظور ذو نقطة التلاشي خاصة في لوحات حواري القاهره ( شكل رقم 15), وحتي في معظم لوحات الطبيعه الصامته (شكل رقم16) ومعظم لوحات الأشخاص ( شكل رقم17), إلا أنه في وسط هذه الفترة في أواخر التسعينات يدخل في تجربة فريدة في مسيرته الفنية في معرضه عن البحر وفيها يدخل في تجربة لتمثيل الفراغ اللا محدود. الفورم ويتم ترجمة الكلمة أحيانا "الهيئة" إلا أنني أفضل إستعمال فورم حيث إنها تتجاوز في معناها كلمة الهيئة كما سيتضح لاحقا. والفورم في معناها المباشر البسيط تعني الجسم ثلاثي الأبعاد, مقابل الشكل والذي يعني الإسقاط ثنائي الأبعاد للفورم, كما يعرف أحيانا بأنه الشكل الذي يدل علي ماهية الشيء , ولكنه يمكن أن يأخذ معني أشمل وفي هذه الحالة يعبر عن جميع العناصر التي تكون العمل الفني من أشكال وكتل وفراغات وألوان وغيرها, وكيفية تفاعل وتكامل هذه العناصر لإعطاء وحدة عضوية للعمل الفني, أو بمعني أخر يعبر الفورم عن العناصر المادية للعمل الفني من خطوط ومساحات وألوان وخلافه, وذلك مقابل المحتوي الحسي للعمل وهو الأحاسيس التي يستثيرها العمل الفني في المشاهد مثل الرهبة والحماسة والشجن وغيرها. والفورم في معناه الشامل معني بالهيكل البنائي للوحه وربما هو في هذه الحاله مرتبط بمفهوم الفورم في الموسيقي, وقد نتج مفهوم الفورم في الموسيقي عن محاولة المؤلفين الموسيقيين الوصول إلي صيغ للبناء الموسيقي تتفادي إما بناء العمل بتكرار جملة موسيقية وحيدة كما يحدث في الموسيقي البدائية مما يؤدي بعد فترة إلي الملل, أو التنويع ببناء العمل من مجموعة من الجمل المختلفة مما قد يؤدي إذا زادت عن الحد إلي تفكك العمل وتشتيت المستمع. وكانت أساليب الفورم التي نتجت عن هذا متنوعة وثرية. وأعتقد أن هذا هو هدف البناء في أي فن , فالفنان يستعمل عنصر التكرار لخلق إيقاع واضح وضمان ربط عناصر العمل الفني, وفي نفس الوقت فإن الثراء الذي يسعي إليه يحتم التنويع وإدخال عناصر عديدة ومختلفة في بناء العمل. والحذق والقدرة الفذة تكمن في الكيفية التي سيوازن بها الفنان بين هذا وذاك وقدرته علي إعطاء العمل هذه الوحدة التي تميز كل عمل عظيم. كان حسن سليمان يمتلك إحساسا عاليا بالفورم بمعناه المباشر وبمعناه الشامل, وأعتقد أن الأمثله التي تناولناها في الجزء السابق الخاص بالخط توضح ذلك, فهو عندما يرسم ثمرة من الكمثري أو جسدا لأنثي فهو وبرغم أساليب الإنحراف التي يستعملها فهو ينقل إلي المتلقي خواص ما رسمه بهيئته وثقله والفراغ الذي يلفه ويحتويه. وكانت جميع عناصر التشكيل في اللوحة تتحد وتتكامل لتعطي للعمل الوحدة والتماسك التي كان يسعي اليهما, كمثال لهذا لننظر إلي لوحة التفاحات الثلاث من مرحلة الثمانينات ( شكل رقم9 ) , اللوحة تمثل ثلاث تفاحات موضوعة علي مقعد في ركن بمرسم الفنان, علي ظهر المقعد رداء ذهبي اللون موضوع بعناية, وعلي طرف قائم المقعد منديل أو قماشة بيضاء, أشعة الشمس تدخل من نافذة المرسم من جهة اليمين وتضيئ قاعدة المقعد والتفاحات الثلاث وأجزاء من المنديل والرداء. إستعمل الفنان في هذه اللوحة الفراغ "الأيزوميتري" الذي يذكرنا بمرحلة الستينات, فجميع خطوط قوائم وقاعدة المقعد تسير متوازية, وهذا يعطي المشهد هذه الذاتية التي أرادها الفنان, فهذا عالم قائم بذاته, نحن نطل عليه ولكننا لسنا جزءا منه. الخطوط سواء في طيات الرداء أو قوائم المقعد أو الظل الساقط تشير أو تدور حول التفاحات الثلاثة لتؤكد لها دور البطولة,وإن كانت تؤكد عزلتها في الوقت ذاته. الفراغات الموجودة بين قوائم المقعد وبقع الضوء المتناثرة, تكون مثلثات ومستطيلات تتردد مع بعضها البعض ومع تلك التي تكونها طيات الرداء. برغم الشح في إستخدام اللون والذي لا يخرج عن درجات البني والأصفر, فقد تم توزيع درجات اللون بعناية فائقه , فالشريط الذهبي علي حافة المقعد في مقدمة اللوحه يردد لون الرداء الذي يقع في خلفيتها , واللون البني القاتم في ظل التفاحات يردد لون الحائط. وهكذا تتكافل جميع عناصر اللوحة من خطوط ومساحات وقيمة ولون لكي تخلق لدي الرائي هذا الإحساس بالعزلة لثلاث تفاحات لا نعلم علي وجه اليقين لماذا هي في هذا المكان,ورداء ذهبي تركته صاحبته ومضت. ينير الضوء الاشياء فنراها ونتعرف عليها, نري الاشكال والاحجام والألوان ونميز بينها. الضوء صنو المعرفه والظلام قرين الجهل, الضوء سامي وإلهي " الله نور السماوات والأرض" , الضوء رمز الخير والشفافية والصحة والوجود , والظلام رمز الشر والدسيسة والفناء. لم يربط الإنسان بين الضوء والشمس حتي أدركه العلم وأضاء عقله, كان الإنسان قديما يعتقد أن الضوء يأتي من مكمنه ليزيح الظلام وينير النهار, وكانت الشمس هي ملكة النهار ونجمه الساطع, ثم يهجم الليل بأستاره الكثيفه ليزيح ضوء النهار ليتربع الليل مكانه. في العهد القديم خلق الله الضوء في اليوم الأول ثم خلق الشمس والقمر والنجوم في اليوم الثالث. وكان يعتقد أن الأشياء تضيء لعلة فيها وليس لإنعكاس اشعة الضوء عليها,وكان الإغريق القدماء يعتقدون أن عين الإنسان تعمل مثل مشكاه ترسل أشعتها لتضئ الأشياء لكي يراها الرائي, ومن العجيب أن هذه الفكره الغريبه ظلت مسيطره حتي جاء العالم العربي الخازن ودحضدها في القرن العاشر الميلادي. وعندما حلل إسحاق نيوتن في القرن الثامن عشر ضوء الشمس بواسطة منشور زجاجي إلي ألوان الطيف السبعه, بدأنا نفهم أن الضوء عباره عن موجات كهرومغناطيسيه, أي ذبذبات في الفراغ, وأن كل لون من الألوان ما هو إلا ذبذبة بتردد معين. ثم ادركنا أن رؤيتنا للألوان تنتج عن إنعكاس أو إمتصاص الضوء من علي الأجسام , فإذا عكس جسم الذبذبة التي تعادل اللون الأصفر وإمتص باقي الذبذبات رأينا الجسم أصفر وهكذا. كما بدأنا حثيثا نتفهم ميكانيكية الإبصار, فالألوان ليس لها وجود إلا في مخيلتنا, فمخ الإنسان هو الذي يترجم هذه الذبذبة إلي أصفر وتلك إلي أزرق وهكذا. اكتشف الفنان التشكيلي في القرون الوسطي كيف يستعمل الظلال لتمثيل الحجوم , وكيف أن التدرج في الظل من القاتم إلي الفاتح يعطي الإيهام بتجسيم الاشكال , كما إكتشف في عصر النهضه كيفية إستخدام الظلال في تشكيل تضاريس الأشكال علي سطح اللوحه , ولكنه لم يستعمل تقنية إسقاط الضوء من مصدر إضاءه خارج أو داخل حيز اللوحه إلي أن إستعملها دافنشي لأول مره في لوحة العشاء الأخير, وفيها نري الضوء يسقط بزاويه ليضئ شخوص اللوحه والأشياء المصطفه علي المائده, وكان هذا إيذانا ببداية إستخدام الضوء كعنصر فعال في خلق حالة دراميه علي سطح اللوحه. ويرجع الفضل لكارافاجيو في النصف الثاني من القرن السادس عشر في الوصول بالتأثير الدرامي لعنصر الإضاءه في اللوحه إلي الذروه ومن بعده جاء جون دي لاتور في أواخر ذلك القرن. وقد تأثر بأعمال كارافاجيو بعد ذلك بنحو قرن من الزمان كل من فيرمير ورمبراندت اللذين كان للتأثير الدرامي للضوء عندهما موقع البطوله في فنهم. ربما يكون الضوء في لوحات حسن سليمان هو العنصر الأكثر حضورا, فعندما يذكر فن حسن سليمان يقفز إلي الذهن ذلك المزيج الدرامي من الضوء الشاهق الذي يصل إلي درجة البياض والظل الكثيف الذي يحاكي السواد. إنه ذلك الضوء الذي تراه في أزقة وحواري القاهره في قيظ صيفها, والذي تراه مسكوبا علي وجه وجسد إيزيس في نحت بارز علي واجهة معبد فرعوني, أو واجهة بيت مزخرف من بيوت النوبه القديمه. " لم يحدثني أحد عن ذلك الشجن العميق في موسيقي الظل والنور , بأزقة القاهره..ولم يحدثني أحد عن عذوبة وشوشة مياه النيل, مختلطه بصياح الصبيه" هكذا كتب حسن سليمان في كتابه حرية الفنان. لم يكن لصراع الضوء والظل ذلك الحضور القوي في لوحات حسن سليمان في مرحلة الخمسينات, ولكن في نهاية هذه المرحله بدأت تظهر بوادر هذه الخاصيه والتي ستسيطر علي فنه فيما بعد, نراها في الصوره الشخصيه التي رسمها ربما لأحد أصدقائه ( شكل رقم 18 ) والمنفذه سنة 1959 والتي تتنبأ بشكل كبير بما ستكون عليه لغته التشكيليه في سنين النضج. من الظلمه يبرز نصف وجه ويدان, الوجه مضاء من الناحية اليمني , وجه طويل شاحب, وتنزلق العين رأسيا إلي الذقن المدببه نزولا عبر مثلث الرقبه إلي اليد اليسري التي تميل بزاوية تأخذ العين إلي اليد اليمني المستقره في وضع أفقي . وكان يمكن للوحه أن تنتهي عند هذا الحد إلا أن الفنان المشاكس يأبي إلا أن يضيف صدمة متمثلة في ذلك المستطيل الرأسي من الضوء والذي يضعه خلف الكتف الأيمن للشخص ويمتد حتي الحد الأعلي للصوره. مع بداية الستينات أيضا نري تطور إستعمال عنصر الضوء في لوحات الطبيعه الصامته الزجاجات ( شكل رقم 19 ) والمنفذه سنة 1960 والتي إستهواه موضوعها فنفذ منها عددا كبيرا في هذه الفتره , وستصير هذه واحدة من السمات التي ستميز فنه فيما بعد فما أن يستهويه موضوع حتي يأخذ بوجدانه ويظل معه يرسم اللوحه تلو الأخري وربما بنفس التكوين في بعض الأحيان حتي يستهلكه الموضوع أو يستهلك هو الموضوع كما كان يقول. في هذه اللوحه نري الفنان قد إستعمل الضوء لكي يؤكد أولا البعد الثالث في الصوره وثانيا لغرض تكامل التكوين, وذلك كما ذكرت من قبل في سياق تحليل هذه اللوحه في الجزء الخاص بالفراغ, ولكن الضوء هنا أميل للشحوب ويتلاقي هذا مع المزاج الإنفعالي والحسي للفنان في هذه المرحله, ويؤكد حالة العزله التي توحي بها اللوحه. إذا قارنا نوعية الضوء في هذه اللوحه بنوعية الضوء في لوحه الطبيعه الصامته ( شكل رقم 20 ) والتي نفذها الفنان عام 2004 , فإننا نجد الضوء هنا شديد السطوع, والظلال ثقيلة وكثيفه, والمشهد يسوده الحوار العقلي أكثر من المزاج الإنفعالي. وعلي عكس هذا نجد الضوء في لوحته الشهيره لسيدة تعمل علي ماكينة خياطه ( شكل رقم 14 ) ضوء مزدوج , فالسيده منكبة علي ماكينتها منهمكة في العمل, والضوء الساقط عليها يأتي من مصدر علوي ينير رأسها وكتفيها ومسطح الماكينه كما لو كان من لمبة كهربائيه معلقه بسقف الغرفه, الظلال هنا شديدة الكثافه تؤكد الإنتفاخات العضليه والبناء الصلب لجسد هذه المرأه العامله والتي تذكرنا بنساء الفنان الفرنسي "أنوريه دومييه". وتلتحم الظلال بين جسد المرأه وحوائط الغرفه فلا تستطيع تمييز هذا من ذاك, ,إلي هنا والمنطق مستو, إلا أن الفنان يضع صدمة متمثله في شباك مفتوح خلف السيده يطل علي فضاء يغمره ضوء شاحب مقارنة بهذا الذي يغمر السيده, ومثل لوحتي العمل في الحقل والأوز, هناك ثقب أسود في سماء ما هي بسماء, يمثل شمسا ما هي بشمس. تجتمع هذه العوامل لكي تخلق موقفا ميتافيزقيا من المنطق وضده. إذا قارنا بين نوعية الضوء في هذه اللوحه بلوحة ذات المنديل الأزرق ( شكل رقم5 ) السابق الإشاره إليها, فالضوء هنا واضح المصدر, واضح النوعيه, وإستخدمه الفنان ببراعه لكي يؤكد ثنيات جسد المرأه وإحساسه بانوثتها المصريه المتفجره. في الأولي تمجيد للعمل وفي الثانيه تمجيد للأنوثه, أو هو مفهوم الستينات مقابل مفهوم الثمانينات. أصبح هذا هو مفهوم الضوء السائد في لوحاته, وإستعمله بفاعلية كبيره في لوحاته عن حواري القاهره ( شكل رقم21 ), يقسم بمساحات الضوء والظل لوحاته إلي مستطيلات ومثلثات, وتتداخل مساحات الضوء مع مساحات الظل, وتحصر جدران المنازل الطرق الضيقه التي تعج بالبشر. إلا أن الضوء عنده أخذ منحي صوفيا في لوحات معرضه الأخير, (شكل رقم15 ) و ( شكل رقم 22 ) فأصبح ينفذ من شق محاط بالعتمه, مثل الأمل أو الخلاص المرتقب.