عادل السيوى مع أحمد مرسى تتسع دوائر الشغف، فهو مبدع يتجول بين حقول مختلفة: يمد جسورا ما بين الشعر والتشكيل، الثقافة والفن، الموقف السياسى والموقف الفني، الكتابة والترجمة، العمل الجماعى مع الآخرين، والتجربة المفردة، الترحال المستمر والهوية المستقرة، الحداثة بعنفوانها وجرأتها والكلاسيكية برسوخها واتزانها المحير. العالم الذى يقدمه لنا أحمد مرسى فى لوحاته ورسوماته وفى مطبوعاته الفنية أيضا، يبدو فى البداية وكأنه مسرح للغرائب، ولكن ذك الحضور الأول سرعان ما يتبدد. فالفنان ليس منشغلا بتشييد معمار يقينى للمكان، يكتفى بالاشارات، وربما يختزل العلامات الدالة عليه، لنصبح فى مواجهة سطح اللوحة نفسه. وإذا بدت الأماكن أحيانا منطقية، إلا أنها ليست محايدة فلكل مكان بنيته المفردة، وهذ البنية شريك كامل الأهلية فيما يجرى داخلها، بل وتبدو احيانا كأنها ليست حيزا سرديا، وانما موقع التأمل نفسه. هى مسرح للطبيعة: امتداد لا نهائى للسماء والبحر والصحراء، وهى بالمثل طلل وما تبقى من مدن، وغرف مهجورة، واشارة لحضور قديم اندثر. المكان هنا مطلق، بلا حياة يومية. شراك ينصبه الفنان للإمساك بتلك اللحظات المنفلتة، وتلك المشاعر التى طواها الزمن، وكأننا فى واحة الغرباء والمستبعدين. رغم أن المكان بتسع أحيانا للامساك بلحظات بهجة عابرة وملونة. كائنات أحمد مرسى على اتساعها: البشر والطيور والأسماك والحيوانات، لا تتفاعل فيما بينها، وانما تتجاور وفقا لأقدارها، تتساكن بلا إرادة، وكأنها تخضع لقانون لا نعرفه، وكأننا فى لحظة الفعل، ولكن شيئا لم يتحرك بعد. إنها لحظة يختارها الفنان بدقة. لحظة تقع بين ما لم يحدث بعد، وما لن يحدث أبدا. هذا الظهور المكتمل والمتباعد فى آن، يبدو وكأنه ما نشتهيه ولا ندركه، او هو هاجس العدم، أو كأنه حلم منفلت فى رأس الزمان نفسه. لدى توجس خاص تجاه الرموز، وأرتاب دائما فى تلك الدلالات المعممة، والمتفق عليها، ولذا لا أنظر الى الثور أو المرأة أو الى البحر والساعة والقارب والطائر فى أعمال احمد مرسي، بوصفها رموزا، لآن الرمز لا يملك قيمة فى ذاته، ومرسى يدرك ذلك جيدا، ومن هنا يأتى حرصه على أن تكتسب كائناته حياتها الخاصة، لتصبح كيانات خالصة قائمة بذاتها، ولا تخضع لقسوة المعنى والدلالة الواحدة. ما يشدنى بشكل خاص فى أعمال أحمد مرسي، على مستوى الأداء، هو تلك الأعمال التى، يتخلص فيها من اصداء السرد الأدبى، أو من الشاعرية المسرحية، ليكتشف مناطق تخصه على مستوى التشكيل، وأقصد مستوى صياغة الشكل واللون والضوء والعلاقة بين المفردات. البطولة فى أغلب هذه الأعمال التى تشدني، تكون فى الأغلب لكائنات مفردة، يقوم الفنان بفصل عناصرها واعادة بنائها، يشق الشكل كورقة ويعيد لصقها، او يثقب الجسد ليصنع داخله كوة بضع فيها الرأس مجددا بعد تعديله، او يشق الرأس ويفرده على الجانبين. أو يحرك العينين الى أعلى الرأس لتختفى الجبهة تماما، هذه الأجساد تملك بلاغة خاصة فى عدم تناظرها ووحدتها. فهى بسيطة وحاضرة، شاحبة وحسية معا فى آن. كائنات بليغة فى نقصها وارتباك بنيتها. عندما أنظر الى أعمال مرسى رغم تنوع تجاربه وغزارة انتاجه، ينتابنى دائما نفس الشعور، وكأننى أمام مشاهد من حيوات مؤجلة، عطش لن يرتوى، نزوات لم تقترف، هواجس لا نعرف مصدرها واسرار لن تذاع أبدا. حتى فى لحظات إشراق الضوء والبهجة والخفة اللونية، يطل دائما ذلك الحنين وتلك الوحشة للحظات مضت، كطير انفلت ولن نستطيع الأمساك به أبدا. وكأنه يرسم تورطنا فى هذه الحياة، ويصر على كشف توهج وحنين أنسانى عنيد، لا يتوقف نبضه أبدا، ولا يستسلم للمحو الحتمى الموجع، الذى يفرضه الزمان.