كم مرة تذمرنا من تكدُّس الشوارع بالسيارات وعبّرنا عن اختناقنا من زحام المترو فى أوقات الذروة.. كم مرة تأففنا من أسعار السلع فى الأسواق وأصابنا الضجر من نفقات البيت ومصروفات المدارس واشتراك النادي؟ إننا ننظر إلى تفاصيل يومنا بعيون متعَبة، لكن ماذا لو شاهدنا حياتنا بعيون غيرنا؟ لقد فعلت ذلك مؤخرًا واكتشفت أننا نعيش فى جنةٍ لا نراها. قبل أيام وبينما كنت أتصفح موقع «فيسبوك» صادفتنى صفحة للجالية السودانية فى مصر، وضعت سؤالًا عن انبطاعات السودانيين عن بلدنا بعد أن عاشوا فيها فترة كافية منذ هروبهم من جحيم الحرب التى اندلعت فى وطنهم.. التعليقات كانت رائعة والانطباعات إيجابية للغاية.. الإجابات كانت كنزًا من المشاعر الصادقة. واتضح لى أن هناك فجوة كبيرة بين رؤيتنا ورؤيتهم.. نحن نرى الزحام وهم يرون بنية تحية حديثة ونظامًا مدهشًا للنقل الجماعى ومنبهرون بمترو الأنفاق.. نحن نشكو من الأسواق وهم معجبون بتنوعها الذى يلبى احتياجات جميع الفئات.. نحن لا ننتبه لابتسامات المارة العفوية فى الشوارع والمولات وكلمات إطرائهم لبعضهم البعض وهم يتذكرونها باعتبارها أجمل ما لاحظوه في مصر! تعجبت كثيرًا كيف يرون جمالًا فى تفاصيل يعتبرها الكثير منا عادية.. كيف يذكرون بكل امتنان أمورًا قد نغفل عنها فى زحمة حياتنا.. تلك التعليقات التى تشيد ببساطة المصريين، بكرمهم، بروحهم الطيبة وأخلاقهم السمحة وإقبالهم على الحياة رغم أى تحديات تواجههم، جعلتنى أتوقف لأعيد اكتشاف بلدى من خلال عيونهم.. لقد كشفوا لنا شيئًا جوهريًا لطالما مررنا عليه مرور الكرام: أن مصر ليست مجرد أرضٍ، بل هى روح تسكن فى الناس. وأعجبتنى الفكرة.. فكرة أن أبحث عن مقاطع فيديو على «يوتيوب» عن انطباعات العرب والأجانب عن مصر، وفوجئت بكم هائل من الفيديوهات التى يمجد صُنّاعها فى مصر «أم الدنيا» التى تستقبلهم شوارعها بالأحضان، ويودعونها بالدموع، ويعدون بالعودة إليها مرات ومرات، ومنهم من يحلم بشراء بيت والاستقرار فيها لآخر يوم فى عمره. ولا عجب فى ذلك، فمصر تاريخيًا هى الملاذ الآمن لكل أشقائها خصوصًا فى أعقاب عام 2011، حين هبّت رياح الخماسين على بلادنا، ووجدت الفوضى والصراعات طريقًا مُعبدًا بالشر إلى اليمن وسوريا وليبيا والسودان، فكانت وجهة شعوب هذه الدول هى مصر.. الحضن الكبير الذى يضم ويحتوي. لكن السؤال الذى شغل رأسى طويلًا: لماذا يحتاج بعض المصريين إلى أن يسمعوا هذه الكلمات من ضيوفنا ليتذكروا قيمة وأهمية بلدهم؟ إن من العار أن ننتظر إعجاب الآخرين لنرى جمال ما نملك؟ أنا أعرف أن الغالبية العظمى من أبناء مصر يدركون هذه القيمة، لكننى أتعجب من سلوك القلة التى لا ترى الجمال وتكف بصرها عن كل إنجاز فى هذا البلد. لقد علمتنى تعليقات السودانيين وأشقائنا العرب عمومًا درسًا مهمًا: أن مصر ليست فقط النيل والأهرامات، لكنها تلك الهمة التى لا تنكسر.. الروح التى ترفض الاستسلام.. القلب الكبير الذى يستوعب الجميع. لقد رأوا فينا ما قد نغفل عنه ولا ندركه أحيانَا: شعبًا يعمل بكد واجتهاد، يضحك رغم الصعاب، ويمنح الخير لغيره حتى وهو فى أمس الحاجة إليه، وهذه أقل كلمات قالها عنا أشقاؤنا. ربما حان الوقت لأن نفتح عيوننا على ما نملك.. أن نرى بلدنا بعيون ضيوفنا وزائريها من كل بلاد الدنيا، لنكتشف أننا نعيش فى رحاب جوهرة ثمينة، لكننا اعتدنا بريقها، وهنا يأتى دور التعليم والإعلام والأدب السينما والمسرح وكل مؤسسات الدولة عليها دور كبير فى غرس قيمة مصر الغالية فى قلوب ووجدان أبنائها، خصوصًا الأجيال الجديدة التى ربما لا تعرف قيمتها التاريخية العظيمة، ولا أنسى توجيه التحية لكل منْ يبذل العطاء ويعمل ليل نهار لإنعاش مصر بمشروعات قومية نسمع عنها مع كل صباح جديد، بدأ بعضها يؤتى ثماره بالفعل ولا يزال لدينا الكثير ليعرف العالم قيمة مصر التى ترتفع كل يوم. أخيرًا، المتحف المصري الكبير سيُفتتح قريبًا فى 3 يوليو المقبل، وهو حدث سيشُد أنظار العالم إلى عظمة مصر قديمًا وحديثًا، لكن الحقيقة أن مصر نفسها هى المتحف الأكبر، فلنعتز بهذا الإرث الخالد، ولنحافظ على صورتنا الجميلة فى عيون الدنيا، ولنكن كما أرادنا التاريخ: شعبًا يبذل العطاء رغم النوائب، ويبنى رغم الصعاب، ويبهِر العالم دائمًا.