الأديان مهمتها الأساسية تسيير العلاقات بين البشر وتأكيد قيم التعاون والتعاضد؛ لأنها وسيلة من وسائل رفعة الإنسان وتحضره حيل وألاعيب الجماعات المتطرفة لا تنتهى؛ فما إن ترتكس فى ميدان حتى تلتفّ إلى ميدان جديد لتبدأ منه؛ لا تعترف بالهزيمة، ولا تقبل بالأفول، ولا ترضى بالنبذ المجتمعى؛ فتدّعى التصالح الشكلى والمصالحة اللفظية كسبًا للوقت وانتظارًا للحظات أخرى تحسبها مواتية؛ وهى أساليب قديمة تم تجريبها ونجحت فى فترات سابقة؛ ولا أظنها تنجح الآن بعدما تم كشف كل أوراقها أمام الرأى العام المصرى والعالمى؛ فالعيادات المجانية للمرضى، والمساعدات الفردية لإتمام زواج أو حلّ مشكلة أُسرية، وتكوين مجموعات صغيرة من الشباب الجامعى؛ كل تلك الألاعيب لم تعد مُجدية فى هذا الوقت الذى ازداد فيه الوعى الشعبى بصورة أبهرت المتربصين من أعدائنا، قبل ذوى العاهات من أصدقائنا؛ وهو ما يؤكد أننا نسير فى الاتجاه الوطنى الصحيح؛ وإن كان علينا الانتباه بصورة أكبر إلى حيل هذه الأفاعى؛ فلا مصالحة ولا أمان لأفعى مهما لانت ملامسها وأبدت المسكنة والاستقامة. كما أن الصدامات الفقهية وحدها لم تعد كافية لمواجهة التفكير المتطرف الداعى إلى النبذ والإقصاء؛ وإنما المعوّل الآن على الدراسات النفسية التى تحتاج إلى توثيق وتمكين أعمق فى جامعاتنا، إذا أردنا بحق فهم طبيعة الطبقات الأركيولوجية عند مدّعى الدفاع عن العقائد، الذين حوّلوا الدين إلى بؤرة من الأوحال ارتكسنا فيها جميعًا. التشويش الفكرى! يرتكز العنصر الأعمق فى تشكيل عقلية المتطرف فى فكرة انتفاء الوطن المحدد، بحيث يظن - وكل ظنه إثم - أن الرابطة الدينية أقوى من كل الروابط الحياتية والاجتماعية الأخرى؛ ومن ثم يبرر لنفسه، أو يبرر له الآخرون، أن أعماله الإرهابية تصبّ فى مصلحة الدين الذى نصب نفسه مدافعًا عن أفكاره تجاهه، فيصبح خائنًا لوطنه عميلًا لغيره بقصد الحصول على مغانم آسنة، أو بدون قصد عن طريق التشويش الفكرى الذى يحشره فى تلافيف من متاهات سوء الظن والريبة والتوجس وحق التطهير، وغيرها من الأمراض النفسية المعروفة، أو تلك التى تحتاج إلى سنوات طويلة لفهم وإدراك ألاعيب النفس البشرية.. كل هذا مع عدم إغفال العوامل الاجتماعية والنفسية التى تحيط بكل هذه الظروف. تعليق الجرس فى رقبة تطوير المناهج الأزهرية لا ينتهى، رغم أن الواقع يشهد بأنه يتم تطويرها بالفعل منذ خمسين عامًا؛ بل ويتم النظر إليها باستمرار، وهناك كتب جديدة الآن فى المناهج الأزهرية بها قدر كبير من التطور ومواكبة العصر الحديث، وإن كنا نحتاج إلى مزيد من النظر فى المناهج ليكون تطويرها متوافقًا باستمرار مع الأوضاع الجديدة، وعلى أبناء الأزهر المجدين المجددين تكوين آراء جديدة مستمدة من أفكارهم ورؤاهم الخاصة، لا مجرد اجترار للأفكار القديمة والفتاوى التى انتهت صلاحيتها الفكرية. الأديان مهمتها الأساسية تسيير العلاقات بين البشر وتأكيد قيم التعاون والتعاضد؛ لأنها وسيلة من وسائل رفعة الإنسان وتحضره، ويتجلى هذا التحضر فى مدى قبولية الآخر؛ ولهذا فإن المناهج الأزهرية مطالبة دائمًا بالتواكب مع هذه الأفكار، والتركيز على ما يُعلى شأن الإنسان ويحدد علاقاته بأفراد المجتمع الذى يعيش فيه. إن تأكيد المناهج فى المراحل الأولى على فكرة أن دينى هو الأعلى ودين الآخرين هو الأدنى، ربما تسهم فى بناء جدار العزل واندياح مساحات الاختلاف وتشكيل سمة الاصطفاء، ويمكن التغلب على ذلك من خلال إحلال مقررات ترتبط بمناخ إنسانى وأخلاقى عام يوضح الحقوق والواجبات على الجميع ويدعم قيم المواطنة وينظر لتحديات الأمن القومى لدولة ذات كيان واحد، مرَّت بتاريخ واحد، وعاشت تحديات مشتركة؛ وهذا ما أصبح لافتًا فى المقررات الأزهرية خلال السنوات الأخيرة. قرص الذهب الساخن! لا يوجد كاتب حقيقى لا يرزح تحت الأرق الدائم للكتابة؛ حيث تصبح الأسئلة أشواكًا ناغزة فى عقله، حتى يتم اختيار الفكرة الدافعة التى تترابط ترابطًا وثيقًا مع شخصيته والبواعث النفسية والاجتماعية للكتابة؛ ولا يكون هذا فى الأحداث الكبرى فقط؛ وإنما فى صغارها أيضًا، وإن كان حدثًا عابرًا يغفل عنه الكثيرون. والقاصة والروائية المصرية نهى الطرانيسى إحدى هؤلاء الذين لا يكتبون إلا بعد دوافع نفسية عاتية؛ وهذا واضح حتى فى مجموعاتها الأولى: (كورال الدمى) و(عابرون فى الزحام)؛ ولأن القصة القصيرة ترتكز على تكثيف الأحداث وسبر أغوار الشخصيات فإنها تصبح الإبداع الأصعب فى الوصول إلى شباب المتلقين؛ لأن عليه واجبًا إضافيًا وهو إثارة الشغف ومقاومة الكسل والتراخى الذى طغى على كل شيء فى ظل ثقافة العجلة وقطف الثمار قبل نضوجها، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعى التى شغلت الناس وزجت بهم فى أتون السطحية والمباشرة. مؤخرًا قرأت قصة نهى الطرانيسى الفائزة بالمركز الأول بمسابقة «كتارا» عام 2023 بعنوان: (قرص الذهب الساخن)؛ والتى تدور أحداثها حول شاب ينشأ فى إحدى الدول الإفريقية التى تعانى المجاعة وشح المياه، ومدى معاناته فى توفير الماء العذب له ولأسرته تحت وطأة حر الشمس والقتال الدائر بين القوى المتنافرة فى البلاد والذى كان أشد وطأة من العطش ولهيب أشعة الشمس. لكن ذلك الفتى كان ممتلئًا بالتفاؤل، يصيح للشمس كل صباح: «مرحبًا يا قرص الذهب الساخن»، عندما كانت تسأله أمه بوجل: «ماذا تعرف عن الذهب؟» كان يضحك مخبرًا إياها أنه رأى الذهب أثناء حفر أعمامه هناك فى سفح الجبل، كانت الشمس لديه فى اللاوعى مرادفةً للذهب؛ لكنه ذهب من نوع خاص، إنه كالقرص الساخن. يستطيع ذلك الشاب من خلال التعرف على أفراد قوافل الإغاثات أن يلتحق ببعثة لاستكمال دراسته فى أوربا، وبعد عدد من الأحداث المعقدة فى القصة تلقى به الأقدار لدراسة تخصص (هندسة المواد) بجامعة برلين، وهناك يستطيع أن يواصل دراساته العليا حول (تكثيف الماء من الهواء الرطب) اعتمادًا على طاقة الألواح الشمسية، ثم تتحول تلك الدراسة إلى واقع عملى بدعم من عدة مؤسسات، وكان ذلك كله يستلزم مناطق مشبعة بالرطوبة وبأشعة الشمس الساطعة طوال العام، لا مكان أنسب لتنفيذ الفكرة على أرض الواقع إلا وطنه الذى نشأ فيه تحت وطأة الشمس والرطوبة، عاد إلى وطنه وهو يقبض بيديه على الرمل الساخن بموقع البناء، فيتذكر قدميه المتشققتين حين كان صغيرًا وهو يهرول بحثًا عن بئر ماء صالحة للشرب؛ حيث كان يتنهد تنهيدة طويلة مترقبًا هذا اليوم الذى يرى فيه الماء لا تشوبه شائبة داخل كوب!.. وحدها أرض الوطن قادرة على الغفران وتحقيق الأحلام الشاردة. من دعاء الإمام على بن أبى طالب (كرم الله وجهه): «اللهم اغفر لى الذنوب التى تهتك العصم. اللهم اغفر لى الذنوب التى تُنزل النقم. اللهم اغفر لى الذنوب التى تغيّر النعم. اللهم اغفر لى الذنوب التى تحبس الدعاء. اللهم اغفر لى الذنوب التى تُنزل البلاء. اللهم اغفر لى كل ذنب أذنبته وكل خطيئة أخطأتها. اللهم إنى أتقرب إليك بذكرك، وأستشفع بك إلى نفسك، وأسألك بجودك أن تدنينى من قربك، وأن توزعنى شكرك، وأن تلهمنى ذكرك».