حبيب سرورى فى صخب الحديث الإعلامى فى عالمنا العربى عن الذكاء الاصطناعى، يلزمنا أولاً استيعاب منطلق هذا العلم واتجاهاته وآليات عمله، بدلاً من التخوف منه أو إنكاره، أو الإصغاء لضوضاء من لا يعرف عنه شيئاً ولا يتوقف عن إعطاء الأحكام عليه والتنبؤات القاطعة. باختصارٍ شديد: وُلِد هذا العلم الجديد فى 1956 بهدف محاكاةِ الكمبيوترِ للذكاء البشرى وتجاوزِه قبل نهاية القرن العشرين، انطلاقاً من أفكار مخترع الكمبيوتر ومؤسس علم الذكاء الاصطناعى معاً: آلان تورنج. مر الذكاء الاصطناعى بأكثر من شتاءٍ وربيع، قبل أن يقتحم حياتَنا فعلاً بدءاً من عام 2012، إثر طفرةٍ فى أبحاثهِ قادتْ إلى تقنيةٍ جوهرية تُسمى: «التعلم العميق بشبكات العصبونات الاصطناعية». تُحاكى هذه التقنية عملَ عصبونات المجرةِ التى تنبع منها كل نشاطات الإنسان الروحية (حوالى 100 مليار عصبون، يتصل كل واحدٍ منها بحوالى 1000 عصبون آخر): دماغ الإنسان. فالإنسان، كما يعرف الجميع، جسدٌ لا غير، روحهُ دماغه. اكتسحَتْ هذه التقنية مسابقات التعرف على الصور، بين مختبرات الأبحاث، فى أحد المؤتمرات العلمية، فى عام 2012، اكتساحاً جعلها سريعاً بؤرةَ اهتمامات الباحثين. توالتْ متكئةً عليها التطبيقات العلمية الفذة: أضحتْ تُشخصُ الأمراضَ انطلاقاً من كشافات الليزر أفضل من أى فريق كاملٍ من الأطباء، تقودُ سياراتٍ بدون سائق، تُترجمُ آلياً من ألف لغة إلى ألف لغة. يجدر الإشارة إلى أن اختراع هذه التقنية سبق عام 2012 ببضعة عقود، إلا أن جبروت الكمبيوترات، سرعةً وذاكرةً، لم يكن كافياً حينذاك لاستخدام التقنيةِ عملياً. ثم أطل فى 2016 منعطفٌ آخر، شديد الرمزية، يستحق كل التأمل: انتصار الذكاء الاصطناعى AlphaGO على بطل العالم جى سيدول فى لعبة ألغو: أصعب الألعاب العقلية التى لم تكن هزيمةُ الإنسان متوقعةً فيها قبل عقدٍ من الزمنِ على الأقل (لا علاقة لها بهزيمة الكمبيوتر لبطل العالم كازباروف فى الشطرنج فى 1997، التى لم ترتبط بالذكاء الاصطناعى والتعلم الذاتى، بل بازدياد جبروت ذاكرة وسرعة الكمبيوترات فقط). لعبَ AlphaGO ضد نفسهِ ملايين المرات، واكتسب استراتيجيات لم تخطر ببال لاعبٍ بشرى. ثمة ذكاءٌ «آتٍ من خارج الكون»، عندما لعب AlphaGO النقلة 37، فى مباراته الثانية مع جى سيدول! ثم برز المنعطفُ الثالث الذى استقطب اهتمامَ الجميع، منذ نوفمبر 2022: «الذكاء الاصطناعى التوليدى»، على غرار تشات جى بى تى ChatGPT، الذى يُجيب على كل أسئلتنا، ويخترع لنا الصور واللوحات الفنية وقصائد الشعر أيضاً، ويتناقش معنا حول «المطر والطقس الجميل»، حسب التعبير الفرنسى! ثمة للتأملِ ملاحظاتٌ أربع، حول محاكاةِ الدماغ البشرى: مربط فرسِ الذكاء الاصطناعى. الأولى: المقدرةُ على التعلم والمحاكاة هى عصب حرب الذكاء. منها ينطلق الذكاء الإنسانى دوماً، عندما يفحص المعارفَ ويضمها ويُجرب تطبيقاتها ويستخلص دروسها لتطويرها أو لاكتشاف معارف أخرى. مثلهُ يفعلُ الذكاء الاصطناعى أيضاً. ثم إن محاكاةَ الذكاءِ الاصطناعى للإنسان ليست تقليدا أعمى: عندما تطلُبُ مثلا من تشات جى بى تى أن يرسم لك جبلا - طاؤوسا، فإنه يبدع فى ثوانٍ لوحةً مُبتكرةً جديدة، انطلاقاً من استيعابه الدقيق لكلمتى: جبل وطاؤوس. إذ لكل كلمة فى القاموس، مثل «جبل» وغيرها، متجَهٌ رياضى vecteur، يضم عدداً هائلاً من المعلومات حول الكلمة فى كل سياقاتها وعلاقاتها، ويسمح بإجراء عملياتٍ رياضيةٍ على الكلمات، على غرار: «ملك» - «ذكر» + «أنثى» = «ملكة». أى أن فضاء المعنى فى اللغة يتحول إلى فضاء هندسى بآلاف الأبعاد على الكمبيوتر، تتم فيه عملياتٌ رياضيةٌ ذكيةٌ خاصة. الثانية: يتعلمُ الذكاء الاصطناعى لِوحدهِ يومياً، ويُطورُ مقدراته لوحدِه دون توقف، مع استمرار تعلمه من كل جديدٍ يصله عبر الإنترنت (انظر كمثل رمزى بسيط تطورات ترجمةِ جملة «قال جوزى» فى مقالى عن العربية فى عصر الذكاء الاصطناعى). وهذا الجديدُ بحرٌ لا أطراف له ولا قاع، اسمه: البيانات العملاقة Big Data. السؤال الكبير هنا: إلى أى واقعٍ سيقود هذا التعلم اليومى الكمى الذى لا يتوقف، ذى النتائج الكيفية التى لا يمكننا تصورها أحياناً؟ ألا يبدو أن لا نهاية لهذا التطور ولا حدود لهُ غير ما تفرضه حدود الفيزياء والميكانيكا الكونتية؟ الثالثة: لا تتوقفُ الأبحاث فى مختبرات علوم الذكاء الاصطناعى عن فتح آفاقٍ جديدة، قريبة أو بعيدة المدى، لتمكينِ الذكاء الاصطناعى من تغيير حياتنا، واختراع آلياتٍ جديدة لِتأهيلهِ اقتحامَ مجالات جوهرية واعدة كانت ضمن اقطاعية التخييل العلمى فقط: اكتشاف النظريات الرياضية وتصحيح أو ابتكار براهينها آلياً، دراسة لغات التفكير وآلياته، محاكاة المشاعر الإنسانية، التخييل الاصطناعى. الرابعة: يتفوقُ الكمبيوترُ على الإنسان اليوم فى مجالات عدة، ويتفوقُ الإنسان على الكمبيوتر فى مجالات أخرى ستظل صعبةَ المنال على الكمبيوتر إلى حين. مجالات تفوقِ الكمبيوتر مرتبطةٌ بتلك التى لها أهدافٌ واضحةٌ محددة، والتى تستطيع تقنيةُ التعلم العميق التدربَ عليها عدداً هائلاً من المرات. فيما المجالات الأخرى ذات الصلة ببعض الغرائز والمشاعر الإنسانية كالإبداع الفنى والأدبى، أو بالمقدرات الفيزيائية المرنة للجسد الإنسانى، أو تلك التى تفتح أبواباً ومآلاتٍ غير متوقعة، ويجتاحها اللايقين، فلا يزال الطريق طويلاً أحياناً لتعلمِ الذكاءِ الاصطناعى اقتحامَها والتفوقَ فيها. مع ذلك، ثمة فتوحاتٌ ذات آفاقٍ مستقبليةٍ قريبة مذهلة قام بها الذكاء الاصطناعى فى مجال الإبداع الفنى والأدبى الاصطناعى، تضمن له من الآن أبواب الريادة. لعل أولها إبداع الصورِ الاصطناعية انطلاقاً من نصوصٍ وإرشاداتٍ وتعليماتٍ تُعطى له. صورٌ مذهلةٌ غالباً، فى منتهى الجمال أحياناً، فى طريقها اليوم لتغيير معايير الإنسان فى هذا المجال، وتقليده لمعايير الذكاء الاصطناعى. ثمة من صار يلجأ إليه عند التقديم الرسمى لصورتِهِ الشخصية فى سيرته الذاتية، أو عند إخراج الصورِ المهنية التى يلتقطها عموماً. صناعة النصوص هى أيضاً مجالٌ جديدٌ باهر يبدعُ فيه الذكاء الاصطناعى أيما إبداع، مستقبلُهُ واعِدٌ متعددٌ غزير. يقتضى منا، مثلهُ مثلُ هندسةِ الصور الاصطناعية، صياغةَ طلباتنا عبر جملٍ توجيهيةٍ وتعاليم دقيقةٍ متتالية، تساعدُ الذكاءَ الاصطناعى على ابتكار ما نصبو له من نصوصٍ بأفضل ما يمكن. كنت أقرأ قبل أيام افتتاحيةً دقيقةً وجميلةَ الصياغة، أدهشتنى فعلاً، لِعددٍ خاص من مجلة ثقافية فرنسية ثرية، لأكتشفَ فى الصفحة التى تلت الافتتاحية أنها كُتِبتْ بقلم الذكاء الاصطناعى، بأقل من دقيقة، بعد أن أُعطيتْ له نصوص مقالات العدد كى يعمل لها تقديماً يُبلوِرُ أفكارَها بتبسيطٍ وتسلسل! مثالٌ آخر من تجربتى الشخصية: أردتُ كتابةَ ملحق تبسيطى لِكتابٍ عربى، لغير المتخصصين، عن تقنية التعلم العميق بشبكات العصبونات الاصطناعية، مع رسوماتٍ توضيحيةٍ وأمثلة. طلبتُ ذلك بالفرنسية أولا، عبر مراحل ثلاث، وأنا انتظر فنجان قهوة أمام محطة قطارات سان لازار: 1) كتابةُ نص عن عصبونات الدماغ وطريقة عملها، مع رسمٍ توضيحى لها، 2) إعطاء تعريفٍ لِشبكة العصبونات الاصطناعية والتعلم العميق بها، مع رسومات توضيحية، 3) تقديم مثالٍ تبسيطى تفصيلى على طريقة تعرف هذه الشبكات على حرف E، مع رسمٍ توضيحى لشبكةِ عصبونات كاملةٍ حقيقية، بمختلف طبقاتها العميقة ومراحلِ تعرفِها. بعد أن رد تشات جى بى تى كما يلزم، طلبتُ منه دمجَ كل ذلك وترجمتَهُ إلى العربية. اكتمل إعداد الملحق بدقائق، قبل أن يصلنى فنجان القهوة من نادل المقهى. غير أن أرهب مثالٍ للإبداع الاصطناعى، فى تقديرى، هو إعداد كتاب «Rimbaud est vivant»، لِ Luc Loiseaux، عن دار غاليمار، كونه نموذجاً من رعيلٍ جديدٍ من الكتب المستقبلية التى يتعانق فيها النص بالصورة بالصوت والفيديو. انطلق المؤلفُ من صورٍ تُعد بأصابع اليد لآرثور رامبو فى طفولته، غير واضحةٍ جداً كونها ابنة بدايات عصر التصوير، ومن صورتين باهتتين لهُ فى عدَن. طلب من الذكاء الاصطناعى ابتكارَ صورةٍ للشاعر انطلاقاً منها، وهو فى سنوات إبداعِهِ الأدبى، مُراهقاً بين الخامسة عشرة والعشرين من العمر. النتيجة: صورةٌ باهرةٌ شاركها الملايين على الشبكات الاجتماعية، حرضتِ الكاتبَ على تطوير تجربتِه، وتأليف كتابٍ من 270 صفحة فخمةٍ كبيرة، عن حياة رامبو خلال سنوات إبداعه الأدبى فقط، يتضمن قصصَها ومغامراتها منعطفاً منعطفا. يسردُ فيه كل تنقلاتِ الشاعرِ وسفراته وانزياحاته وعلاقتهِ بالوسط الأدبى، لا سيما بالشاعر فرلين. أثرى المؤلفُ كل صفحةٍ فى الكتاب بصورةٍ أبتكرَها الذكاءُ الاصطناعى، تعكسُ أحداثَ نص الصفحة، تدور فى نفس مناخاتِ بيوت وفنادق وشوارع وحانات ومحطات قطارات ذلك الزمن، على نحوٍ فنى عبقرى جديدٍ، بدقة وجمالٍ لا يخطران ببال! المذهلُ أيضاً أن نص الكتاب وشفافيةَ تسلسلِ أحداثِه وطريقةَ سردِها، وروعةَ الاقتباسات من رسائل رامبو وقصائده، المواكبةِ لكل مرحلة، يبدو نقياً آخاذاً، كما لو كان من صياغة الذكاء الاصطناعى أيضا! النتيجة: كتابٌ آسِرٌ من طرازٍ جديد، التهمتهُ التهاماً. ستجتاحُ المستقبلَ القريب حتماً مثلُ هذه الكتب متعدِدة الوسائط، المرتكزة أساساً على الذكاء الاصطناعى، وستغير من علاقات الإنسان بالقراءة والكتابة والإبداع. قد يقول أحدنا الآن: «ولكن الذكاء الاصطناعى لم يكتب بعدُ روايةً مذهلة!». فعلاً، لم يكتسب بعدُ كل مهارات هذه المهنة المعقدة، ويتدربَ عليها، كما يكفى. مثلُها مثلُ اختراعِ النظريات الرياضية وبرهنتِها آلياً: ما زال الذكاء الاصطناعى يحبو فى أشواطها الأولى. لا ننسى: لم يتجاوز الذكاء الاصطناعى الذى يُحاكى الدماغ بعدُ الثالثة عشرة من العمر. وبعض المجالات الإبداعية التجريبية المرتبطةِ بالمشاعر والغرائز، ذات «العُقَدِ» المفتوحةِ على شجرةِ أحداثٍ وعُقدٍ مجهولة، أصعب من مجالاتٍ أخرى ذات أهدافٍ محددة، تدربَ عليها الذكاء الاصطناعى ملايين المرات كلعبة ألغو، كما قلنا. غير أن تقنية التعلم العميق والمحاكاة الذكية عبر شبكة العصبونات الاصطناعية أشبه ب«صندوق باندورا»، الذى ستصعب السيطرة عليه أو تحجيم إمكانياته. لا يعنى ذلك أن كتابةَ الروايات من قبِل الإنسان ستنقرضُ يوماً، بعد تطورِ الإبداع الاصطناعى فى مجال كتابتها. بالعكس! لم تنقرض ممارسة البشر لِلعب الشطرنج أو ألغو بعد انتصارات الذكاء الاصطناعى على الإنسان. لذلك سوف يحاول الروائيون مستقبلاً دراسةَ الاستراتيجيات الجديدة التى سيبدعها الكمبيوتر فى كتابة الروايات، واستلهامَها لتطوير ملكاتِهم ومعاييرهم، لا سيما وأن الإنسان، هو نفسَه، مخترعُ الذكاء الاصطناعى ومُلهِمُه. فى تصورى: سيكون هناك أدبان مستقبلا: أدبٌ اصطناعى وأدبٌ إنسانى، فى تفاعلٍ ديالكتيكى مُلهِم، ضمن منظومةٍ بيئيةٍ إنسانيةٍ – اصطناعية متناغمةٍ متكاملةٍ واحدة.