مرام عماد المصرى منذ الأيام الأولى للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة فى أكتوبر عام 2023، تلقت تل أبيب دعماً غربياً غير مسبوق لما اعتبرته حينها «حقها فى الدفاع عن نفسها»، رداً على الهجوم الذى شنته حركة حماس»، إلا أن ذلك الدعم بدأ بالتلاشى تدريجاً أمام تفاقم الأوضاع الإنسانية فى غزة وإصرار تل أبيب على استهداف المدنيين والارتفاع الكبير فى عدد الضحايا، لا سيما من الأطفال والنساء. لكن ما بدا لسنوات وكأنه جدار دعم غربى مطلق بدأ يتصدّع، ليس فقط فى دوائر الإعلام والنقابات، بل داخل البرلمانات والحكومات ذاتها. وتتصدر أوروبا أحدث موجات التصعيد السياسى والدبلوماسى ضد إسرائيل على خلفية توسيع عملياتها العسكرية فى غزة، وتفاقم الوضع الإنسانى فى القطاع جراء حجب المساعدات الإنسانية، على رغم إعلانها أخيراً السماح بدخول «عدد محدود» من المساعدات وصفتها الأممالمتحدة بأنها «قطرة فى محيط». اقرأ أيضًا | بعد قصف مطار بن جوريون.. الخطوط البريطانية تعلن إيقاف رحلاتها لتل أبيب وبلغت النبرة الانتقادية المتزايدة من عواصم الاتحاد الأوروبى، فى مواجهة وضعٍ وُصف بالإجماع تقريبًا بأنه «غير مقبول»، ذروتها الأسبوع الماضى فى بروكسل بتحولٍ لم يكن مُتوقعًا فى أوروبا، حتى قبل أسابيع قليلة، التى كانت عادةً مُترددة جدًا فى اتخاذ إجراءات انتقامية ضد إسرائيل. فبناءً على طلب «أغلبية ساحقة» من الدول الأعضاء - 17 من أصل 27 - قررت الممثلة العليا للشئون الخارجية فى الاتحاد الأوروبى، كايا كالاس، مراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبى وإسرائيل، وهى الأداة الرئيسية للعلاقات السياسية والتجارية بين الطرفين منذ دخولها حيز النفاذ عام 2000. ودفعت المأساة فى القطاع الفلسطينى المملكة المتحدة إلى اتخاذ إجراء حاسم، حيث قررت حكومة حزب العمال برئاسة كير ستارمر تعليق المفاوضات الجارية بشأن اتفاقية تجارية مستقبلية مع إسرائيل، وفرض عقوبات على ثلاثة مستوطنين ومنظمتين إسرائيليتين متورطتين بأعمال عنف فى الضفة الغربية. وأعرب ستارمر نفسه عن «فزعه» من التصعيد العسكرى فى قطاع غزة. كما استدعت الحكومة البريطانية السفير الإسرائيلى فى لندن للتعبير عن احتجاجها على الهجوم «غير المقبول» على غزة، وفقًا لوزير الخارجية البريطانى ديفيد لامى، الذى وصف الحصار المفروض على غزة بأنه «غير أخلاقى ولا يمكن تبريره»، مطالبًا برفعه الفوري، بينما دعا رئيس الوزراء البريطانى إلى وقف إطلاق النار، وزيادة المساعدات الإنسانية، مؤكدًا أن «مستوى المعاناة فى غزة لا يُحتمل». وفى إسبانيا، وافقت أغلبية أعضاء مجلس النواب على دعم حظر الأسلحة على إسرائيل، رغم معارضة كلٍّ من الحزب الشعبى المحافظ وحزب فوكس اليمينى المتطرف. كما شهد الأسبوع الأول من الشهر الجارى، تحولًا نوعيًا فى الخطاب الأوروبى فى التعامل مع إسرائيل، عبر مواقف رسمية اتسمت بصراحة قانونية حادّة وخطوات عملية غير معهودة، فى دلالة على انكسار حاجز التحفّظ الدبلوماسى الذى طالما طغى على العلاقات الغربية- الإسرائيلية. وفى 7-8 مايو الجارى، أصدرت ست دول أوروبية: (أيرلندا، إسبانيا، سلوفينيا، لوكسمبورج، النرويج، وآيسلندا) بيانًا مشتركًا اعتبرت فيه محاولات إسرائيل تغيير ديمغرافية غزة وتهجير سكانها، ترحيلًا قسريًا وجريمة بموجب القانون الدولي. كما شدد البيان على أن غزة «جزء لا يتجزأ من دولة فلسطين»، فى إقرار قانونى صريح بمكانة فلسطين، طالما تجنبت حكومات أوروبية النطق به بهذا الوضوح. من أبرز مظاهر التحول أيضًا، تلويح عدد من الدول: (فرنسا، لوكسمبورج، إسبانيا، أيرلندا، سلوفينيا)، باعتبار الاعتراف بدولة فلسطين ضرورة سياسية لحماية حل الدولتين. وكان قد سبق ذلك اعتراف رسمى من أيرلندا، وإسبانيا، والنرويج بدولة فلسطين فى مايو 2024، ثم سلوفينيا فى يونيو، ما رفع عدد دول الاتحاد الأوروبى المعترفة إلى عشر دول على الأقل، معظمها من أوروبا الغربية، بما يشكّل تحوّلًا غير مسبوق فى بنية العلاقات الأوروبية - الإسرائيلية. وبين مراجعة اتفاقات شراكة تجارية والعمل على حجب إمدادات عسكرية وأمنية وفرض عقوبات على مستوطنين إسرائيليين فى الضفة الغربية، وصولاً إلى حد التلويح بجدية بالاعتراف ب»الدولة الفلسطينية» كسبيل وحيد للحفاظ على مسار حل الدولتين الذى يتبناه المجتمع الدولي، يوضح تصاعد اللهجة الغربية من جانب دول مثل فرنسا وبريطانيا وهولندا وإيطاليا وكندا، بأن تحولاً فى السياسات الأوروبية للضغط على إسرائيل بدأ يتشكل. ولم يأتِ التحول فى المواقف الغربية تجاه إسرائيل كنتيجة لقرار سياسى منفرد أو يقظة أخلاقية مفاجئة، بل جاء بفعل تراكم غير مسبوق لضغوط إعلامية، شعبية، حقوقية ودبلوماسية، تجمعت جميعها فى لحظة انكشافٍ عالمى كامل لما يحدث فى غزة من انتهاكات وجرائم إسرائيلية جسيمة، حيث شهدت عواصم أوروبية كبرى كمدريد، دبلن، لاهاي، وأوسلو مظاهرات حاشدة طالبت بوقف فورى للحرب ومحاسبة إسرائيل. ومع ذلك، يقول مراقبون إن التصعيد الأوروبى الراهن ضد إسرائيل ينحصر فى توتر العلاقة مع شخص رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو وسياسته المتطرفة وإصراره على عدم وقف الحرب فى غزة واستمرار انتهاكات حكومته فى الضفة الغربية، وليس تغيراً جوهرياً فى نظرتهم إلى الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى والدفع باتجاه تحقيق حل الدولتين. ورغم أن ما فُرض حتى الآن من عقوبات غربية لا يرقى بعد إلى مستوى الردع، فإن أثرها الواقعى بدأ يظهر على أكثر من صعيد. وتعليق صفقات الأسلحة، خصوصًا من دول أوروبية، ووقف مرورها عبر الأجواء، كما فعلت أيرلندا، يعقّد التموين العسكرى الإسرائيلي. وحظر المواد ذات الاستخدام المزدوج يقيّد تصنيع بعض مكونات الأسلحة الدقيقة. تجميد اتفاقيات تجارية، وتلويح هولنداوفرنسا بإعادة تقييم الشراكة مع إسرائيل يضعان تل أبيب فى مواجهة عزلة اقتصادية بدأت فعليًا. هذا الضغط لم يأتِ فقط من الحكومات، بل من البنية المجتمعية الغربية: النقابات، الجامعات، الأحزاب، ومن داخل برلمانات كانت حتى الأمس القريب تصمت أو تبرّر. هذه الخطوات السياسية - رغم محدوديتها - تمثل كسرًا للإجماع الغربى التقليدى حول دعم إسرائيل المطلق، وتفتح الباب أمام الانتقال من الإدانة الخطابية إلى أدوات ضغط ملموسة، تشمل مراجعة الاتفاقيات، تعليق الشراكات، وتقييد العلاقات الدبلوماسية، بما قد يتطور لاحقًا إلى تدابير أكثر صرامة.