مع عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية فى مايو 2025، يمر الصراع فى أوكرانيا بمنعطفٍ جديد يستدعى قراءة متأنية لموازين القوى وتأثير السياسة الأمريكية المتغيرة على مسار المفاوضات، وعلى مواقف الاتحاد الأوروبي، وما تحمله هذه التحولات من تداعياتٍ على الاستقرار الإقليمى والدولي. من المواجهة الشرسة إلى التوازن فى ولايته الثانية، يتجه ترامب إلى إعادة صياغة العلاقة مع روسيا عبر مقاربة أكثر براجماتية وأقل تصعيدًا مقارنة بفترة الإدارة السابقة يراهن ترامب على التخفيف من الالتزامات العسكرية المباشرة فى أوروبا، مع تعزيز نفوذ واشنطن عبر أدواتٍ سياسية واقتصادية مختلفة، وربما عبر فتح قنوات تواصل دبلوماسية مع موسكو لتقليل التوتر. هذا التوجه ينعكس فى مواقفه المتحفظة تجاه الاستمرار غير المحدود فى دعم أوكرانيا عسكريًا، مما يرسل إشاراتٍ إلى حلفاء الولاياتالمتحدة الأوروبيين بضرورة البحث عن حلول سياسية أسرع تعيد الاستقرار. الدعم المتجدد وواقعية الاقتصاد الاتحاد الأوروبى يعانى من ازدواجية بين رغبته فى دعم أوكرانيا وحماية القيم الديمقراطية، وبين الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن الحرب والعقوبات.. التباينات بين الدول الأعضاء أصبحت أكثر وضوحًا: ■ الدول الشرقية الصارمة: مثل: بولندا ودول البلطيق، تستمر فى الضغط السياسى والعسكرى لدعم كييف، وترفض أى تنازلات تضر بسيادة أوكرانيا. ■ الدول الجنوبية الحذرة: إيطاليا، اليونان، وإسبانيا، تسعى لتهدئة الأجواء الاقتصادية وتخفيف الضغط على مواطنيها، مما يدفعها لتأييد مواقف أكثر اعتدالاً أو حتى مفاوضات تسوية مقبولة جزئياً مع روسيا. هذه الفجوة السياسية والاقتصادية تعمق صعوبة بناء موقف أوروبى موحد حاسم يدعم مفاوضات السلام، ويضعف الموقف التفاوضى للغرب أمام روسيا. تصريحات مسئولة السياسة الخارجية فى الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، التى أكدت أن روسيا «لا تريد السلام»، تعكس بوضوح عمق القلق الأوروبى من استراتيجية موسكو الراهنة، ورفض القارة العجوز لأى محاولة تساهل مع أفعال روسيا فى أوكرانيا ، فالرسالة الأوروبية تركز على ضرورة توحيد الصفوف ومواصلة ممارسة الضغط السياسى والاقتصادى حتى تُجبر روسيا على تعديل سلوكها، ولا تسمح بتطبيع الوضع على حساب المبادئ الأساسية للسيادة والقانون الدولي. لكن هذا الموقف الرسمى الصارم، رغم قوته فى الخطاب، يتحدى الواقع العملى الذى يُظهر انقساماتٍ داخل الاتحاد الأوروبى بين دول تدعو إلى تصعيد الدعم لأوكرانيا، وأخرى تفضل الحذر والاعتدال خوفًا من تداعياتٍ اقتصادية واجتماعية داخلية .. تلك التباينات تجعل من الصعوبة بمكان ترجمة الرؤية الأوروبية الموحدة إلى سياسة عملية متماسكة، خصوصًا فى ظل تحولات السياسة الأمريكية مع عودة ترامب. أوكرانيا.. بين الاستنزاف والتفاوض تحت الضغط أوكرانيا تقف اليوم فى مواجهة حاسمة: الاستمرار فى القتال من أجل استعادة كامل أراضيها أو الدخول فى مفاوضات قد تفرض عليها تنازلات كبيرة. مع تضاؤل الدعم الأمريكى المستمر تحت إدارة ترامب، لا سيما مع تركيز الأخيرة على إعادة التوازن الاستراتيجى مع روسيا، تجد أوكرانيا نفسها فى موقف أضعف، مما يدفع كييف إلى قبول فكرة التفاوض، لكنها تبقى حذرة من شروط قد تُسلبها استقلاليتها وسيادتها. تأثير التباينات على مسار السلام التباينات بين مواقف الحلفاء – الأمريكيين والأوروبيين – تزيد من تعقيد المفاوضات، إذ تؤدى إلى : ■ اختلاف أولويات الدول الأوروبية بين دعم أوكرانيا وحماية مصالحها الاقتصادية. ■ التغير فى الموقف الأمريكى نحو سياسة أكثر تحفظًا مع موسكو. ■ فقدان الزخم الدبلوماسى المطلوب لإنهاء الحرب. هذا الانقسام يمنح روسيا هامشًا للمناورة ويطيل أمد الصراع، كما يضعف ثقة أوكرانيا فى قدرة التحالف الغربى على تقديم الدعم المتواصل. السيناريوهات المستقبلية: 1- الجمود الميدانى والسياسي: استمرار القتال دون تقدم واضح فى المفاوضات بسبب هشاشة المواقف. 2- اتفاق مؤقت: قد يقبل الأطراف اتفاقًا لوقف إطلاق نار مؤقت مع تسويات جزئية تُرضى بعض الأطراف، لكن دون حل جذري. 3- تصعيد عسكرى إقليمي: نتيجة للانقسامات وغياب الحل، قد تتوسع الحرب لتشمل أطرافًا أخرى أو تؤدى إلى مواجهاتٍ بين القوى الكبرى. فى ضوء هذه التطورات، يبرز سؤال جوهرى حول الكاسب والخاسر الأكبر فى هذه الحرب- روسيا، إذا تمكنت من فرض شروطها على الأرض أو نالت اعترافًا دوليًا ولو ضمنيًا بمكاسبها، ستعزز مكانتها كقوة دولية مؤثرة، وهو انتصار تكتيكى مهم فى معركتها لاستعادة النفوذ ، إلا أن هذه المكاسب تأتى بثمن باهظ، إذ تعيش موسكو عزلة متزايدة وضغوطًا اقتصادية متفاقمة، مما يجعل رهانها على المكاسب قصيرة الأمد محفوفًا بالمخاطر الاستراتيجية على المدى البعيد. أوكرانيا، من جانبها، تتحمل خسائر بشرية ومادية جسيمة، وتواجه احتمالًا صعبًا للتنازل عن أجزاء من أراضيها ورغم ذلك، تظل رمزًا للمقاومة الوطنية وقضية ذات بعد معنوى يشكل دعمًا سياسيًا مستمرًا من جانب بعض الحلفاء، حتى فى ظل تراجع مُحتمل فى مستوى الدعم العسكرى مع تغير المواقف الدولية. أما الاتحاد الأوروبي، فهو الطرف الأكثر تضررًا اقتصاديًا واجتماعيًا من هذا الصراع، ويجد نفسه فى مواجهة معضلة الحفاظ على وحدة سياسية تعانى من الانقسامات المتعددة، مع ضرورة المحافظة على مصداقيته الدولية كمحور للسلام والأمن. وعند السؤال عن مدى تحقيق الاستقرار الإقليمى فى حال حصلت روسيا على مكاسبها، فإن المخاوف الأوروبية تتجلى بوضوح ، فالاعتراف أو القبول بأى انتصار روسى على حساب أوكرانيا قد يُفسر لدى موسكو كإشارة للتمدد والنفوذ المتزايد، مما يهدد الدول المجاورة ويثير اضطراباتٍ جديدة قد تعيد إشعال النزاعات فى مناطق أخرى. إن إحساس هذه الدول بالأمن والاستقرار لا يرتبط فقط بوقف الحرب فى أوكرانيا، بل بوجود ضمانات أمنية دائمة تقيهم من العدوان وتعيد التوازن الإقليمي. ومن دون هذه الضمانات، فإن حصول روسيا على ما تريد سيبقى محفوفًا بالمخاطر، وسيترك المنطقة فى حالة تأهب دائم، تعكس هشاشة النظام الدولى وقدرته على كبح أطماع القوى الكبرى. فى نهاية المطاف، تُظهر تصريحات كالاس والتوترات السياسية الراهنة أن السلام الحقيقى فى أوكرانيا لن يتحقق إلا بإرادة دولية موحدة قادرة على فرض معايير جديدة للعلاقات الدولية، تحفظ سيادة الدول وتحمى الاستقرار الإقليمى من تفكك مُحتمل، وإلا فإن الأزمة الحالية ستظل مجرد فصل من فصول صراع أكبر وأكثر تعقيدًا مستقبلاً. وختامًا عودة ترامب غيّرت قواعد اللعبة فى أوكرانيا، مما خلق واقعًا معقدًا يختبر وحدة الحلفاء، ويعيد رسم موازين القوى فى المنطقة .. مفاوضات السلام باتت أكثر هشاشة، وعليها أن تتجاوز الصراعات السياسية الداخلية للحلف الغربى كى تثمر عن حلولٍ قابلة للاستمرار، وإلا فالمشهد سيظل متجمدًا بين قتال مستمر وتعثر دبلوماسى.