نبيل عبدالفتاح خيوط عديدة ومتداخلة، ومتقاطعة فى بناء شخصية جمال الغيطانى، بعضها من نشأته الجنوبية، وبعضها الآخر من مسارات حياته صاغها بنفسه، وبعضها الآخر تداخلات ما بين سطوة غول السياسة فى مجتمع تسلطى، والمراوغة واللعب معها، ومحاولة فهمها، وخيوط استطاع أن يغزلها من تجارب الجماعة الثقافية، والأدبية، ومخاتلاتها فى ظل هيمنة رموز لأجيال ذات سطوة وحضور طاغ من المرحلة شبه الليبرالية، وتحملُ فى أعطافها وجوهاً شبه مؤسطرة، تلقى بظلالها على الحياة والسلطة الغشوم، فى سعيهم لتحويل تاريخهم، وإنتاجهم الأدبى والفكرى إلى سلطة إزاء الأجيال الشابة، وأيضاً يستثمرون رأسمالهم الثقافى ذائع الصيت فى استمرارية حضورهم، ومناوراتهم مع سلطة يوليو 1952 حيناً بالخضوع المباشر والتبعية، وحيناً بالنقد المراوغ، وفى ذات الوقت، اتباع سياسة إزاحة الأجيال الجديدة الصاعدة، دونما مساعدة أو دعم إلا قليلاً. ثمة أيضاً خيوط نسجها من مهنته الأولى، وعمله فى النسيج، وهى خبرة مهمة ستجد حضورها فى تكوينه الخبراتى، والكتابى، والإبداعى القصصى والروائى. هناك خيوط من أنسجة جمال تعود إلى لجوئه إلى التاريخ، خاصة تاريخ المدينة العتيقة، وأسرارها الكامنة فى الحوارى والأزقة، والجوامع والبيوت الحاملة لأسرار عبقرية البناء الطالع من الإيمان الدينى الذى تحول إلى جزء عميق فى الفنون المعمارية وتصميمها وعمرانها، هذا الولع الغامر فى إنصاته إلى خطاب الأحجار التى تبدو صامتة، لكنها تبوح له ببعض من خباياها وأسرارها الدفينة، حول البشر والمكان والبنائين العظام، الذين صاغوا من الحجرالأصم عالمهم المعمارى الفاتن، وتحويل الحجر إلى سردية معمارية عنهم، وعن الناس، وهم يدركون أنهم كذوات ستغيب هى وأسماؤهم، وسيبقى أثرهم فى الأنسجة المعمارية التى ستنسب لبعض الملاك من التجار، والمشايخ والمماليك.. إلخ. تداخلت أسماء البنائين الكبار كجماعة، فى أنسجة البيوت والمساجد، والخانقاوات ، ومعهم النجارون فى الأبواب، والشبابيك، والأثاث الخشبى، كانوا يدركون أن القيمة والحضور فى مسارات تاريخ المدينة- القاهرة فى الأحجار، والأخشاب، والموائد، والفسيفساء، والمشربيات، دون ذكر أسمائهم، حالة من نكران الذات فى سردية فنون المعمار، والأثاث، والعلاقة بين النور والظل والكتلة والفراغ. هذه الخيوط شكلت بعضاً من نسيج جمال الغيطانى وشخصيته، واستصحبها فى تفكيره وسلوكه وإبداعه. ثمة خيوط أخرى مهمة تشكلت من خلال انفتاح جمال على الميراث التاريخى المملوكى، وشخوصه، وأجوائه، وسردياته، مرحلة من القسوة السياسية، ومعتقلات الروح والعقول والأجساد إلى هذا العالم المملوكى، وتراثه الأدبى، والسردى، وقام بشغف فى إعادة بناء واقعه المعاصر وقيوده، من خلال سردياته القصصية والروائية، ليبوح بما ثقل على ذاته، ولا يستطيع أن ينطقه أو يكتبه. فى مواجهة صدمات الواقع وقسوته، وفرصه النادرة فى جماعة ثقافية، غالبها لديه مناوراته، وانصياعاته للسلطة الثقافية والسياسية، وجد جمال الغيطانى فى عوالم التصوف ملاذاً آمناً، لتحرير ذاته من أغلال الواقع المؤلم، والخيانات، والشرور، والآثام، والأقنعة التى تختفى وراءها الوجوه فى السياسة، والأدب، والفكر، وتقيم معها معانى الصداقات وقيم المحبة والمساندة، والإخاء، عالم من الوجوه التى غادرتها ملامحها.. إذا شئنا استعارة بلند الحيدرى فى وصف وجوه بيروت. فى ظل هذه الازدواجيات ما بين اللغة والحكى، وما وراءهما، كانت الصوفية ومدارسها، ملجأ صافياً، لجمال للتحرر من ضغوط الواقع القاسى. فى مطالعات السرديات الصوفية، وتجاربها ودهاليزها الروحية الساعية إلى الصفاء وحرية كسر أصفاد الذات الملتاعة بالغوايات والمحرَّمات، والآثام، والأقنعة، والمخاتلات، والأكاذيب، وبعض الصدق أحياناً، تروم التجربة الصوفية إلى التحرر، والانطلاق من الذات فى سعيها للتحرر، إلى طبقات صاعدة إلى محاولة الاندماج فى المطلق، عبر الزهد، والتقوى، واللهاث وراء النور المنطلق من المطلق تعالى وتنزه. المطالعات فى سرديات التجارب الصوفية وتجلياتها، شكلت جزءاً من خيوط أنسجة كتابات، وبعضاً من شخصية جمال الغيطانى، لا يوجد فى عديد الأحيان مفتاح واحد لأى شخصية مبدعة، أو سياسية، أو فلسفية، أو فنية، بعضهم تتشكل مفاتيح شخصيته وإبداعاته من خيوط متناغمة فى مسار، ومتناقضة فى مسارات أخرى، تمكنك من الشىء وخيوطه المتقاطعة، وتناقضاتها أن تلمح أثرها فى كتابته، حتى فى ظل من البنيوية، وتحليل النص أو الخطاب فى ذاته، يمكنك تحليل الخطاب ما وراء الخطاب والخطابات داخل ذات الخطاب أدبياً أو سردياً أو روائياً أو سياسياً أو فلسفياً.. إلخ. هناك خيط العلاقة مع السلطان المتغلب أو السلطة المتغلبة، من الاعتقال إلى الحصار والقمع والسجن، إلى مساحات الاتباعية، والخضوع والامتثال، وهناك مسارات المناورة، والنقد الصريح والمضمر، وبناء بعض الخيوط لاتقاء شرورها. علاقة المبدع بالسلطة فى الطغيان الشرقى- التعبير دون نظرية ماركس - أو طغيان السلطان المتغلب، معقدة، سواء من المبدع، أو فى سرديات الفقهاء الكبار، والمتكلمين فى التاريخ الإسلامى. ثمة شجعان نعم فى السرديات التى نسجت حول سيرهم غير الذاتية التى كُتبت عنهم، إلا أن ثمة غلبة فى النظرات إلى مواقف المبدعين والمفكرين والسلطان المتغلب تتسم بالأحادية والتبسيط، شجاع أو جبان، جسور أو خانع، تبسيطات مُخلة، ووراءها ثقافة الشعارات الأيديولوجية الفارغة، ولغة اتهامات محلقة فوق رؤوس المنظمات السرية، هذا «مباحث»، هذا «عميل».. هكذا برعونة لا حدود لها! ومن المثير أن خطاب الاتهامات، كان أداة ضبط معيارية داخل هذه الجماعات السرية طالت شجعاناً، وشرفاء لأنهم أبدوا رؤى وآراء معارضة للسلطة المسيطرة داخل هذه المنظمة أو تلك. تحولت الاتهامات وخطابها إلى سلطة تأديب داخل هذه المنظمات، وأيضاً سيطرة أخلاقية وسياسية على التابعين- الأعضاء فى مستوياتهم المختلفة، وامتدت بتوسع كبير إلى من هُم خارج هذه المنظمات السرية من جماعات أخرى، ثم اتسع النطاق واسعاً إلى الحياة الثقافية، والصحفية والإعلامية.. بعض هذه الاتهامات كان تبسيطاً مخلاً، وفى غالبه فى الحياة الصحفية، كان يتسم بقدر صحيح من التقييمات السلبية لعلاقة الصحفى بالسلطة المتغلبة. فى ضوء خطاب الاتهامات السلطوى المبسط، كان ثمة إغفال لتعقيدات علاقة المثقف والمفكر والمبدع بالسلطة المتغلبة، وشرورها وخطاياها، ورهاب الخوف من الإبداع والعقل النقدى الحر، وسعيها إلى تكبيلها، وفرض القيود الثقيلة عليها، وعلى العقل النقدى الحر والمبدع، باسم المحرّمات السياسية والدينية والجنسية، والتقاليد والأخلاق وقيم المجتمع.. إلخ. خطاب الاتهامات يغفل علاقة المثقف المصرى بالدولة والسلطة منذ بعثات محمد على، وإسماعيل باشا، والمرحلة شبه الليبرالية. المثقف المصرى، نشأته وتطوراته، ومساراته المعقدة جاءت مغايرة لنشأة المثقف الغربى- الأوروبى أساساً منذ قضية درايفوس ذائعة الصيت، كصوت مضاد خارج الدولة والسلطة. تطور دور المثقف والمبدع الأوروبى مع تطورات الرأسمالية، والنظام الليبرالى، وحرياته الشخصية والعامة، فى النموذج التاريخى المصرى وتعقيداته، نشأ المثقف مع البعثات والمدارس المدنية الحديثة، والجامعة، نشأ فى المطاف وعمليات بناء الدولة الحديثة، وكان أحد بناتها الكبار مع العسكرتايا والبيروقراطية، من هنا تداخلت الخطوط بين المثقف كموظف فى الدولة، ودوره النقدى الآخر لها، سواء فى مواجهة المجتمع، والسعى لتطويره، وإزاء السلطة كناقد لها، تغولت السلطة، وفى ذات الوقت كان المثقف يناور معها وينقدها صراحة وجهراً، ومن خلال كتاباته وإبداعه، وكان ثمة بعض من التسامح معه فى ظل المرحلة شبه الليبرالية، إلا أن هذا التسامح مع المثقف الحر، انكسرت قوادمه مع نظام يوليو التسلطى الذى طارد بعضهم، واعتقلهم، وفرض رقابات على حريات العقل والتعبير والإبداع، والحريات الأكاديمية.. إلخ. فى ظل نظام الاستثناء والطوارئ، وغياب ضمانات استقلال القضاء، كان المثقف والمبدع الحر- أياً كان انتماؤه الإيديولوجى- محاصراً، ومقيداً، ويسيطر عليه رهاب الخوف المتبادل بينه وبين سلطة مرعوبة من العقل الحر، وثقافة الحرية. خطاب الاتهامات، هو جزء من خطاب التعميمات الذى ساد ولايزال فى داخل الجماعات الثقافية، والسلطة معاً، لغياب التكوين المعرفى، والمنهجى عن غالبيتهم الساحقة، وتفاقم مع حالة طوفان التعميمات المرسلة، واللاعلمية مع ثورة وسائل التواصل الاجتماعى لبعضهم ممن أطلق عليهم أمبرتو إيكو فى مقابلة مع صحيفة «لاستمبا» الإيطالية، إن أدوات التواصل الاجتماعى من تويتر وفيسبوك «تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون فى البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأى ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً، أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل إنه غزو البلهاء». خطاب التعميم هو أحد تجسدات وتمثيلات غزو البلهاء وغرورهم وخفتهم، من ثم ساهم خطاب التعميمات، فى وصم عديدين فى علاقاتهم بالدولة والسلطة، بل والخلط بين كلا المفهومين على نحو ما هو شائع فى العقل المصرى والعربى العام، وأيضاً يمثل السلطة المتغلبة المستبدة. من هنا فهم جمال الغيطانى فى أحد خطوط شخصيته معنى التمايز بين الدولة، والدفاع عنها، وبين السلطة المتغلبة، والسلطة الثقافية التابعة لها، كجزء من بيروقراطية جهاز الدولة الإيديولوجى، وكان مع الدولة، وفى أحيان أخرى ضد السلطة الثقافية. كانت مواقف جمال الغيطانى من السلطة فى عديد الأحيان مغايرة عن موقفه من الدولة، فى كتاباته ومواقفه، وكان فى ذات الوقت مع الدولة، ورمزها القوات المسلحة، نظراً لتجربته كمراسل حربى للأخبار أثناء حرب الاستنزاف، وحرب أكتوبر. من الشيق أن هذه التجارب استوعبها «جيمى العزيز» فى بعض مواقفه من الدولة، والسلطة والتمايز بينهم، من هنا يبقى الخطاب الاتهامى المرسل مرجعه الضغائن والملاسنات، والوصم فى حالة الاختلاف فى الآراء فى المواقف السياسية، أو فى الكتابة، أو فى المنافسات على المكانة الأدبية، يلاحظ أيضاً أن ثمة تمايزات ما بين الكتابة فى الصحف والمجلات، والحوارات من جمال، وبين سردياته الإبداعية، حيث نقد السلطة واضح فى أعماله «الزينى بركات» على سبيل المثال، التى عرَّفت به القارئ الفرنسى، والفرانكفونى. مرجع ذلك هو عمق وعيه بتجربة عميد الرواية العربية نجيب محفوظ الوفدى الليبرالى، فى أعماله الروائية، فى نقده لسلطة يوليو، وبين عمله كموظف بيروقراطى فى دهاليز البيروقراطية المصرية. معايشة جمال الغيطانى لنجيب محفوظ شخصياً وإبداعياً جعلته يستصحب تجربته فى مسارات حياته الإبداعية والصحفية فى ظل عالم الصحافة المعقد بالقيود، والإحن والتعقيدات، والبصاصين، والأحقاد فى مواجهة المواهب والمبدعين والأكفاء. خيوط متقدمة، ومتقاطعة، وأحياناً متناقضة تبدو فى أنسجة شخصية «جيمى» تداخلت فى تكوينه الإبداعى والحياتى. من خطوط شخصيته، تبدو بعض صلابة الصعيدى الجنوبى فى المدينة- العالم- القاهرة، وأيضاً لطفه وكرمه، وما يطلق عليه فى العامية المصرية «الجدعنة» ويتضاد معها الشدة والعنف فى الخلافات، وأيضاً القابلية للتصالح والتسامح بكلمة لطيفة، ينسال معها اللطف. كانت مصرية جمال الصعيدية- القاهرية هى جزء من انحيازه للقومية المصرية مثل أستاذه نجيب محفوظ، لكن حمل معه البُعد العروبى فى توجهاته. كل هذه الأنسجة والخيوط التى تشكلت معها شخصية جمال الغيطانى، ظهرت فى كتاباته، وسردياته الإبداعية، أيضاً فى علاقاته بالموهوبين من الثمانينيات والتسعينيات، عندما أسس «أخبار الأدب» ومنح المواهب الحقيقية، فرص النشر، وأيضاً مع زملائه الشباب من الصحفيين، على نحو جعل «أخبار الأدب» مصرياً، وعربياً، فضاءً للنقد، والإبداع، والكتابة الجديدة المختلفة. سافر جمال الغيطانى طويلاً فى الغروب، حاملاً معه سرديته الخاصة، والإبداعية، وترك أثرها فى تاريخ السرد الإبداعى المصرى والعربى، وذلك كواحد من أبرز علامات جيل الستينيات من القرن الماضى، وستظل أعماله باقية فى ذاكرات الإبداع المصرى والعربى.