البيئة تختتم مؤتمر الابتكار من أجل مستقبل أخضر بجامعة كفر الشيخ    الحج السياحي 2025 | لجان «الوزارة» تنتشر بالموانئ لمتابعة رحلات البري    رئيس الوزراء يتفقد التشغيل التجريبي للمرحلة الأولى من الأتوبيس الترددي.. بعد قليل    وزير الرى: إزالة 87 ألف حالة تعدٍ على مجرى نهر النيل منذ 2015    أسعار المأكولات البحرية والجمبري اليوم السبت 17-5-2025 في محافظة قنا    بدء تحديد الأولوية للمتقدمين على شقق «سكن كل المصريين 5» 29 مايو    فيديو.. توافد القادة والزعماء إلى مقر انعقاد القمة العربية ال34    سبع دول أوروبية تطالب إسرائيل برفع الحصار عن غزة    حكام مباريات السبت في الدوري.. محمود ناجي للأهلي وبسيوني لبيراميدز    الزمالك يجهز 44 مليون جنيه ل باتشيكو بعد التسوية مع بوطيب لرفع إيقاف القيد    الخارجية تناشد المصريين فى ليبيا التزام منازلهم.. واستمرار التواصل مع السفارة بطرابلس    تجديد حبس المتهمين في مشاجرة دامية ببولاق الدكرور    السكة الحديد تعلن مواعيد إتاحة حجز تذاكر السفر للقطارات خلال عطلة عيد الأضحى    أولى جلسات محاكمة المطرب سعد الصغير في قضية «حقوق الملكية» | اليوم    أنجلينا جولي تخلّد ذكرى المصورة الفلسطينية فاطمة حسونة في مهرجان «كان»    الأرجنتين تعلق استيراد الدجاج البرازيلي بعد تفشي إنفلونزا الطيور    لو مريض سكر وضغط.. 11 خطوة تجنبك أي مضاعفات فى الموجة الحارة    كوريا الجنوبية: إصابة 3 أشخاص إثر اندلاع حريق في مصنع للإطارات    مصرع شخص وإصابة 16 فى انقلاب سيارة على طريق وصلة أبو سلطان بالإسماعيلية    مصرع شاب غرقا أثناء إنقاذ شقيقه بترعة المحمودية في البحيرة    المرور اليوم.. سيولة مرورية بالقاهرة والجيزة    جدول امتحانات الشهادة الإعدادية في شمال سيناء    ترامب: اتفاق وقف إطلاق النار بين الهند وباكستان منع اندلاع حرب نووية    منال سلامة في عيد ميلاد الزعيم: مهما نتحدث عن عادل إمام لن نوفيه حقه.. فيديو    متحدث "الحكومة العراقية": القمم العربية أصبحت منصة لتقريب وجهات النظر    انطلاق فعاليات مؤتمر التمكين الثقافي بمرسى مطروح    عادل إمام.. حكاية زعيم نذرته أمه بطبق فتة عدس    دار الإفتاء المصرية: الأضحية شعيرة ولا يمكن استبدالها بالصدقات    متحدث "الحكومة العراقية": القمم العربية أصبحت منصة لتقريب وجهات النظر ومواجهة الانقسامات    وزير الخارجية الإيراني: المواقف الأمريكية والتصريحات المتناقضة تعقد مسار المحادثات    الرعاية الصحية تعلن نجاح استئصال ورم ضخم بالوجه والفك بمجمع الإسماعيلية الطبى    اليوم.. نظر محاكمة 37 متهما ب"خلية التجمع"    مستقبل وطن المنيا يُطلق مبادرة "طلاب فائقين من أجل مصر".. صور    60 دقيقة تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. السبت 17 مايو 2025    محام: أحكام الشريعة الإسلامية تسري على المسيحيين في هذه الحالة    اللقب مصرى.. مصطفى عسل يتأهل لمواجهة على فرج فى نهائي بطولة العالم للاسكواش    نقيب العلاج الطبيعي: إحالة خريجي التربية الرياضية للنيابة حال ممارسة الطب    اليوم، انقطاع مياه الشرب عن مدينة الفيوم بالكامل لمدة 6 ساعات    اليوم.. نظر استئناف سيدة وعشيقها في اتهامهما بقتل زوجها بالبدرشين    أزمة «محمود وبوسي» تُجدد الجدل حول «الطلاق الشفهي»    قافلة دعوية ل«الأزهر» و«الأوقاف» و«الإفتاء» إلى شمال سيناء    «لو روحتوا أمريكا هينصفوا الأهلي».. عمرو أديب يوجه رسالة لمجلس الزمالك    مقتل عنصر أمن خلال محاولة اقتحام لمقر الحكومة الليبية في طرابلس    وزير التعليم العالى يستقبل الجراح العالمى مجدى يعقوب    اجتماع لحزب الاتحاد في سوهاج استعدادا للاستحقاقات الدستورية المقبلة    حزب الجيل: توجيهات السيسي بتطوير التعليم تُعزز من جودة حياة المواطن    «ماحدش يقرب من الأهلي».. تعليق غاضب من عمرو أديب بعد قرار التظلمات    وليد دعبس: مواجهة مودرن سبورت للإسماعيلي كانت مصيرية    ترامب يهاجم المحكمة العليا.. لن تسمح لنا بإخراج المجرمين    غزل المحلة يطيح ب بابافاسيليو بعد ربعاية الجونة في الدوري    شقيقة سعاد حسني ترد على خطاب عبد الحليم حافظ وتكشف مفاجأة    ما حكم من مات غنيا ولم يؤد فريضة الحج؟.. الإفتاء توضح    أموريم: شيء واحد كان ينقصنا أمام تشيلسي.. وهذه خطة نهائي الدوري الأوروبي    "موديز" تخفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة إلى AA1 مع نظرة مستقبلية مستقرة    رئيسا «المحطات النووية» و«آتوم ستروي إكسبورت» يبحثان مستجدات مشروع الضبعة    جورج وسوف: أنا بخير وصحتى منيحة.. خفوا إشاعات عنى أرجوكم (فيديو)    قبل الامتحانات.. 5 خطوات فعالة لتنظيم مذاكرتك والتفوق في الامتحانات: «تغلب على التوتر»    المفتي: الحج دون تصريح رسمي مخالفة شرعية وفاعله آثم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسارات الوجد ‬والتجربة واللغة

الكتابة عن بعض الشخصيات البارزة كجمال الغيطاني في الحياة الثقافية المصرية والعربية،‮ ‬تبدو في بعض الأحيان عصية،‮ ‬لا سيما إذا كانت ضمن القلة القليلة التي‮ ‬يتسم عملها الإبداعي‮ -‬والثقافي‮- ‬بالتعدد والتنوع الخلاق والعمق والأصالة والتركيب والتجديد‮. ‬بعض المقاربات من الحركة النقدية تركز علي التجارب الإبداعية أيًّا كان مجالها،‮ ‬وتحاول من خلال التحليل الفني إبراز بعض جوانب الاستمرارية أو الانقطاع في بعض هذه الأعمال عن سواها من مجايلي المبدع،‮ ‬أو في الإطار التاريخي لتطور هذا الفن أو الجنس أو الفرع من فروع المعرفة‮. ‬هذا النمط من الكتابة النقدية‮ ‬يبدو في بعض الأحيان محاصرًا باستراتيجياته البحثية وأدواته النظرية المفاهيمية والتطبيقية،‮ ‬ومن ثم‮ ‬يظل أقرب إلي الممارسة التقنية والأكاديمية المدرسية ويدور في فضاء من المصطلحات الفنية،‮ ‬وبعض هذه الممارسة النقدية تتجاوز حدودها إلي أفق أرحب من خلال المعالجة الخلاقة،‮ ‬والاكتشافات المفاهيمية،‮ ‬أو التعبيرية،‮ ‬أو ارتياد طرائق منهجية وتطبيقية‮ ‬غير مألوفة تفتح الأبواب أمام اكتشاف بعض المساحات المعتمة داخل العمل الأدبي،‮ ‬وتلقي عليه بعضًا من النور والظلال التي تجسده أمام القارئ المتخصص أو العام‮. ‬ورغمًا عن أهمية بعض الموهوبين والمبدعين إلا أن بعض التحيزات الإيديولوجية‮ -‬السياسية‮-‬،‮ ‬أو المدرسية،‮ ‬أو الذاتية،‮ ‬أو الشللية المسبقة تحول في كثير الأحيان دون تقييمات موضوعية نزيهة ومنصفة لأعمال بعض هؤلاء المبدعين،‮ ‬أو تجاهلهم،‮ ‬أو توجيه النقد اللاموضوعي الذي‮ ‬يخلط بين المواقف المسبقة وبين العمل أو المنتج الإبداعي،‮ ‬ومبدعه والموقف إزاءه‮. ‬من هنا شهدت الحياة الثقافية والنقدية ظاهرة‮ ‬غير محمودة تتمثل في إهمال ونسيان بعض المبدعين المتميزين لأنهم خارج دوائر بعض المجموعات المتعاضدة‮ -‬أو الشللية‮- ‬ذات الأقنعة الإيديولوجية أو المدرسية أو الإعلامية التي تتصدر المشهد العام،‮ ‬سواء استنادًا إلي بعض مصادر القوة المستمدة من السلطة الرسمية الثقافية أو السياسية،‮ ‬أو لبعض من ضروب ممارسة العلاقات العامة،‮ ‬وتبادل المنافع بين بعضهم البعض،‮ ‬ويتساوق مع هذه الظاهرة ما‮ ‬يبدو من إقصاءات عمدية لبعض هذه الشخصيات البارزة إبان حضورها الشخصي والإبداعي في الحياة،‮ ‬وعندما تغادرنا إلي المملكة الغسقية تبدأ موجة الإحساس بالذنب تتدفق في كتابات بعض المؤبنين،‮ ‬والتنبه إلي القيمة الإبداعية لمن‮ ‬غادر الأضواء والحياة‮. ‬من هنا تبدو الكتابة عند عتبات الرحيل والسفر الطويل في الغروب حينًا قاسية ومؤلمة،‮ ‬وحينًا آخر تنطوي علي شعور عميق بذنب ما إزاء المبدع الذي سافر في الرحلة الطويلة إلي الأبدية‮.‬
الكتابة عن جمال الغيطاني المبدع والروائي الكبير والكاتب البارز وأحد محركي الحياة الثقافية المصرية والعربية ومكتشف المواهب والصديق العزيز الغالي،‮ ‬هي أمر مختلف عن الكتابة التقنية،‮ ‬عن دوره كسارد كبير من سادة السرد الروائي والقصصي،‮ ‬وتجربته ومشروعه الروائي متعدد المراحل والطبقات،‮ ‬وكذلك‮ ‬يختلف ويغاير الكتابة التأبينية التي تركز علي المناقب والأخلاقيات الشخصية والدور في الثقافة المصرية،‮ ‬إنما هي كتابة واعية بدوره ومكانته وشخصيته الإبداعية،‮ ‬وبقدر ما تغلب آلام الفقد وأحزانه علي صديق عزيز،‮ ‬إلا أنها تحاول أن تركز علي الوجه والدور والأثر الذي خلفه الكاتب الكبير في حياتنا الإبداعية‮. ‬الغيطاني ومسيرته‮ ‬يكشفان عن نمط نادر من المثقفين والمبدعين المصريين العصاميين ممن‮ ‬يصح في شأنهم وصفان كلاسيكيان،‮ "‬حياة نسيج وحدها‮"‬،‮ ‬والمبدع الحصيف الصَّنَّاع،‮ ‬وكلا النعتين متضافران ومتكاملان معًا في شخصية جمال الغيطاني‮.‬
يشكل مشروع الغيطاني الروائي والقصصي أحد أبرز المشاريع السردية المصرية والعربية والذي مرَّ‮ ‬عبر عديد من المحطات الإبداعية منذ عمله الأول اللافت‮: ‬يوميات شاب عاش منذ ألف عام،‮ ‬والذي كشف عن موهبة متميزة،‮ ‬وشكل المحطة الأولي لانطلاقه،‮ ‬إلا أن عمله اللافت للنقاد المصريين‮ - ‬وبعض النقاد الغربيين والفرنسيين تحديدًا‮ - ‬تمثل في روايته الهامة الزيني بركات التي أعاد فيها بناء شخصيات من التراث المملوكي‮ - ‬من قراءته للمقريزي وابن إياس‮- ‬لكي تتحرك في بنية روائية محكمة،‮ ‬وتعبر عن قضايا الإنسان المصري وأشواقه وآلامه‮ -‬والإنسان أينما كان‮- ‬وعذاباته تحت أسر القمع والتنصت والتلصص والمتابعة من عيون الأجهزة القمعية المعاصرة‮. ‬تحول التاريخي والقمعي وتقنياته إلي حالة معاصرة،‮ ‬لكي تعبر شخوصه عن الألم القمعي،‮ ‬وأشكال الكبح والحصار،‮ ‬وأثره السالب علي السلوك والأشواق والآمال‮.‬
لا شك أن هذا العمل ولغته الخاصة،‮ ‬شكل نقطة تحول ومسارًا مختلفًا في السرد الروائي المعاصر،‮ ‬وأحدث نقلة مغايرة ومتمايزة عن السرد المحفوظي التأسيسي للرواية المصرية والعربية،‮ ‬والتي أضفي فيها علي هذا الجنس الأدبي مشروعيته في الأدب العربي‮.‬
بعض الباحثين ذهب إلي أن الغيطاني في هذا العمل المائز أسس لمشروع‮ ‬يدمج بين التراثي والمحدث،‮ ‬لكن الأقرب إلي الدقة في تقديري،‮ ‬وأرجو ألا أكون مخطئًا،‮ ‬أن هذا العمل حداثي بامتياز،‮ ‬وذلك علي الرغم من أن البناء والشخصيات والأجواء واللغة تدور في العصر المملوكي،‮ ‬وبين شخوص استعيرت منه‮ ‬وأعيد بناؤها كي تعبر عن إشكالية الحرية والقمع وأبنيته الرمزية والمادية ولغته‮. ‬في هذا الإطار من تطور مشروع الغيطاني نجد بعض أعماله المتميزة كوقائع حارة الزعفراني وغيرها من الأعمال‮.‬
انتقل الغيطاني في مرحلته المتميزة الثانية إلي الاغتراف من الميراث الصوفي في عديد مصادره،‮ ‬لغة ووجدًا وتجربة وتخيلًا،‮ ‬في تجلياته‮. ‬يبدو أن هذه المرحلة كانت تعبر عن مشاغله حول أسئلة الوجود والعدم والحياة والموت،‮ ‬والبحث والكشف عن بعض المسارات التي قد تقود إلي إجابات ما عن هذه الأسئلة التي تبدو وكأنها سرمدية تخايلُ‮ ‬الإنسان أينما كان،‮ ‬ولم تفلح معها تلك الإجابات الدهرية‮- ‬إذا جاز التعبير‮- ‬التي تحاول الاستناد إلي المادي والعملي،‮ ‬واكتشافاته لإعطاء إجابات عن هذه الأسئلة المصيرية‮. ‬تجليات الغيطاني عمل متفرد في أسئلته ومكابداته ومعراجه وسعيه الحثيث للوصول الصعب إلي حقيقة الحقائق الوجودية والأبدية وما وراءها‮. ‬كتابة الروح الساعية إلي الإجابة عن أسئلة العقل الحائر‮. ‬من هنا اختلفت لغة الغيطاني المتميزة وانتقلت من مستوي لآخر من مستويات اللغة المتوافقة والمتساوقة مع تجربته الجديدة‮. ‬لغة الغيطاني تعبير عن اتساع مخزونه اللغوي،‮ ‬واطلاعه العريض علي عالم لغوي متعدد ورحب،‮ ‬وذي طبقات متعددة،‮ ‬من لغة المقريزي وسواه من العصر المملوكي،‮ ‬ولغة ألف ليلة وليلة،‮ ‬والجاحظ إلي لغة الحلاج والنفَّري،‮ ‬وحافظ والشيرازي،‮ ‬وجلال الدين الرومي،‮ ‬لغة الوجد والمعراج والحلول والفلسفة والصفاء،‮ ‬لغة خلاصية مسكونة بألم الرحلة وأسئلتها ومساءلتها للأسئلة ذاتها‮. ‬ثمة مصدر بالغ‮ ‬الغني والثراء أمده ببعض من شعرية السرد في التجليات وغيرها‮ ‬يتمثل في اطلاعه علي عيون الشعر العربي الكلاسيكي والحديث إلي شعرية الشعر المنثور‮ -‬الحر‮-‬،‮ ‬وإلي آفاق قضية النثر في أفضل مستوياتها لا سيما لدي الأجيال من السبعينيات إلي لحظة سفره الطويل إلي الأبدية في الغروب‮. ‬هي أيضًا لغة سلسة وحاملة لبلاغتها الخاصة وابنة تجربته ومعرفته ووعيه وموهبته وتعدد مصادر ثقافته‮. ‬وتبدو السياسة مرجعها اشتغال بالعمل والكتابة الصحفية في أخبار اليوم،‮ ‬وما تفرضه اللغة الصحفية،‮ ‬وهذه المدرسة من اللغة البسيطة والموجزة والوضوح والإيقاع السريع،‮ ‬هذه الخبرة أعطت لغة جمال الغيطاني سمتي السلاسة والوضوح في إهاب من التركيب والعمق والتميز‮. ‬من ناحية أخري ساعدت تجربته الفنية في العمل الصحفي في ميادين القتال،‮ ‬وبين الجنود والآلات الحربية،‮ ‬والناس العاديين حول مدن القنال علي التقاط بعض المصائر الإنسانية حول المجد والشجاعة والموت دفاعًا عن الذاكرة والوطن وميراثه ومحمولاته وتواريخه وعنفوانه وانكساراته وشموخه في ثنايا تفاصيل اليومي في ظلال الحرب الوطنية المصرية ضد المحتل لقطعة من لحم الوطن وجسده في سيناء‮. ‬وبقطع النظر عن أعماله القصصية والروائية عن هذه الفترة التاريخية المشحونة بالألم والصمود والتطلع للتحرير،‮ ‬إلا أنها مدت الغيطاني بمخزون من الخبرات استصحبها معه في التجليات حول أسئلته الوجودية المشحونة والمكثفة‮ ‬والمحمولة علي الألم والوجد والانفلات والتحرر من أسر اليومي إلي آفاق الماورائية ومصائره‮.‬
لغة الغيطاني ليست ابنة مصادره اللغوية والأدبية المتعددة من التراث الأدبي واللغوي العربي في عديد مراحله وتطوراته فقط،‮ ‬وانما استولدها من مصادر أخري ومنها علي سبيل التمثيل لا الحصر ما‮ ‬يلي‮:‬
1
‮ ‬لغات كبار الروائيين والقصاصين والشعراء الكبار‮ ‬الذين ترجموا إلي اللغة العربية من مثيل دوستوفيسكي وتولستوي وانطون تشيكوف وهيمنجواي وسواهم بما انطوت عليه من لغات خاصة ومتمايزة عن بعضها البعض،‮ ‬ومحمولاتها من التجارب الإنسانية والأدبية والأخيلة التي تخص كل كاتب وروائي وشاعر وقاص ومسرحي،‮ ‬وهي تجارب ثرية وموحية‮.‬
2
شعرية اللغة البصرية وجمالياتها التشكيلية،‮ ‬التي‮ ‬استمدها من رؤية المعارض الكبري في العالم التي ذهب إليها،‮ ‬من اللوفر إلي متحف الفن الحديث،‮ ‬وسواها من المعارض والجاليرهات في سان جيرمان والحي اللاتيني،‮ ‬وفي نيويورك،‮ ‬وغيرها أينما حل‮. ‬والأهم ولعه باقتناء مجموعات‮ "‬ألبومات‮" ‬كبار الرسامين والنحاتين والمصورين الكبار،‮ ‬ومنهم المصريون والعرب‮. ‬وغالب كبار المصورين الفوتوغرافيين المبدعين،‮ ‬وذوي الموهبة الاستثنائية،‮ ‬من حولوا الفوتوغرافيا إلي فن بارز من الفنون واستطاعوا أن‮ ‬يجعلوا منها جنسًا إبداعيًّا مستقلًّا ومتميزًا،‮ ‬وهو ما كان‮ ‬يتجلي في كتاباته،‮ ‬وفي اختياراته عند رئاسته لتحرير صحيفة‮ "‬أخبار الأدب‮".‬
3
‮ ‬لغة وصور المنمنمات وتشكيلاتها الممزوجة‮ ‬بالكتابة حولها وبها،‮ ‬وكأنها جسد كتابي وجمالي متوحد،‮ ‬والتي كان‮ ‬يقتني منها الكثير لمكتبته الخاصة‮.‬
4
‮ ‬العمارة الإسلامية في المساجد والبيوت والأثاث،‮ ‬حيث‮ ‬يحلُّ‮ ‬المطلق في المجسد،‮ ‬وحيث الإيمان والعقائد تتعانق مع الحجر،‮ ‬وتتداخل،‮ ‬وحيث العشق الإلهي مع التعبد والتلاوة القرآنية المصرية الفذة‮ - ‬التي كان‮ ‬يعشقها ويتوله بها‮ - ‬مع تجريد البناء والخط العربي الذي‮ ‬يوشح فضاء المتعبد بالجمال والجلال والسجود والهدوء‮. ‬ثمة ولع لا تخطئه العين في لغة الغيطاني وأعماقها بهذا التأثر بموسيقي الحجر والبشر والطقس والحركات والتلاوة،‮ ‬وهذا الإنصات الإبداعي للغة الحجر وموسيقاها الصافية المعتقة الحاملة لتاريخ المكان والعبادة وأجيال تلو أخري من المتعبدين،‮ ‬والخلوات،‮ ‬عالم الصمت والهمس والتعبد للواحد الأحد الرحيم الغفور،‮ ‬الباسط،‮ ‬الهادي العادل وكل تلك الصفات المتعالية الماورائية التي تتجلي في نصه المقدس وفي حضوره في العالم‮.‬
5
لغة النسيج الحساسة الدقيقة الطالعة من‮ ‬الدأب والصور والأخيلة الموروثة،‮ ‬والألوان البهية وتوزيعاتها البهيجة،‮ ‬وهو خبير بها لا‮ ‬يضارع وكان أحد صناعها المجيدين‮.‬
6
‮ ‬كل هذه المصادر صاغ‮ ‬منها الغيطاني لغته‮ ‬الخاصة،‮ ‬وصوره المبدعة،‮ ‬وشخوصه،‮ ‬فهي لغة معجونة بلغات ومجازات وتجارب خاصة‮.‬
الغيطاني أحد قلة من روائيينا الذين‮ ‬غاصوا في تاريخ مصر المتعدد والمستمر خلال أكثر من خمسة آلاف سنة‮- ‬وفي وصف صديقنا الراحل المقيم أنور عبد الملك مصر السبع ألفية‮- ‬من متون الأهرام وكتاب الحياة إلي دفاعه المجيد عن الدولة الحديثة،‮ ‬وروح الإيمان والتدين المصري المتصالح بين السماء والأرض،‮ ‬بين العبادة والحياة المتسامحة والتعايش في إطار الأخوة بين المصريين أيًّا كانت دياناتهم ومذاهبهم وعقائدهم في إطار التدين المصري التاريخي المستمر والذي‮ ‬يحمل طبقات فوق أخري من التدين الشعبي الرحب‮. ‬من هنا سبق أن وصفت العزيز جمال الغيطاني بأنه حارس الذاكرة،‮ ‬وحارس المدينة الأيقونة القاهرة،‮ ‬وحارس الظلال،‮ ‬وذلك لأن ذاكرته حاملة لتاريخ بلاده،‮ ‬وهي ذاكرة حية وحاضرة ومستمرة ويستدعيها في الحاضر ويستلهم منها الخبرات المعتقة،‮ ‬وبها‮ ‬يفرز الحقيقي من الكاذب والوجوه‮ ‬الحقيقية والأقنعة الزائفة‮. ‬من هنا كان ولعه بالقاهرة الفاطمية وحواريها وشوارعها وذاكرتها وحكاياتها ومروياتها وأساطيرها الوضعية ومخيلاتها التي تجري في ذاكرات البشر والأمكنة والأبنية والأحجار،‮ ‬كان‮ ‬يحفظ كل شيء عنها وعن تطوراتها وتحولاتها،‮ ‬لأنها مدينته الأثيرة،‮ ‬ومن ثم كان عاشق المدينة المتيم وحارس الظلال والنور في نسيجها العمراني‮. ‬كاتب قدير وبارز استطاع أن‮ ‬يصوغ‮ ‬تجربته الكتابية علي‮ ‬يديه وعينيه وروحه‮.‬
لا‮ ‬يمكن الكتابة عن مسيرة الغيطاني والأحري مساراته دون التركيز علي دوره كأحد محركي الثقافة المصرية من خلال رعايته ودعمه للأجيال الجديدة من الروائيين والقصاصين الشباب ممن رادوا طرائق جديدة وأساليب مبتكرة من السرد الذي حمل تجارب مغايرة لجيله والأجيال اللاحقة السبعينية والثمانينية،‮ ‬ودفع بعديد من وجوه جيل التسعينيات وما بعد،‮ ‬ونشر أعمالهم في أخبار الأدب،‮ ‬وكذلك لنقاد شباب جدد،‮ ‬قدموا قراءات جديدة للأعمال الإبداعية‮.‬
كانت جريدة‮ "‬أخبار الأدب‮" ‬إحدي أدوات جمال الغيطاني في التأثير علي الحياة الثقافية المصرية والعربية،‮ ‬ومن ناحية أخري الاهتمام بالترجمات النقدية أو الإبداعية لبعض الكتاب العالميين الذين‮ ‬ينتمون إلي بلدان مختلفة،‮ ‬ومن ثم استعاد سُنَّة ثقافية مصرية في بناء الجسور مع الثقافات والأصوات العالمية الكبيرة،‮ ‬أو الشابة البازغة‮. ‬لم‮ ‬يقتصر دوره كمحرك من محركي الثقافة المصرية علي صحيفة‮ "‬أخبار الأدب‮"‬،‮ ‬وإنما استطاع من خلال عموده اليومي،‮ ‬أو‮ ‬يومياته الأسبوعية أن‮ ‬يشارك في القضايا العامة،‮ ‬ومن خلال كتابة صريحة تضع‮ ‬يدها علي مواطن الخلل والخطأ في حياتنا‮.‬
إن مسارات حياة جمال الغيطاني متعددة وعميقة وذات أبعاد مشرعة علي البحث عن الحقيقة النسبية في حياتنا الفكرية والثقافية،‮ ‬وفي الشأن العام في مصر،‮ ‬ومن ثم سيظل واحدًا من قلة من المبدعين‮ ‬المصريين حاضرًا في تاريخ الأدب والثقافة المصرية‮. ‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.