عندما يذكر اسمك العلم يا صديقى فى الفضاء الإبداعى المصرى والعربى، يحضر معه فيض من النبل، والروح الوثابة، والتسامح الذى لا يحده شىء، والتواضع الجم الحامل لكبرياء وشموخ وإرادة لا تلين فى ما يؤمن به من قيم يعتصم بها فى مواجهة مصائر الحياة، والتواءاتها ومساراتها الصعبة. ائتلفت عنده وحوله شخصيات تبدو متضاربة، ومتناقضة، ولكن وجدت لديه قلبا كبيرا يسع الجميع على خلافاتهم، حيث التمسوا فى شخصه مساحات الالتقاء والحوار والجسور التى تجمع بعضا من أفضل ما لديهم، عنده كانت -وما أقسى الكلمة وهو الحىّ المقيم- اللطف والمغفرة والنسيان والمسامرة والمحبة الذكية، والطيبة الرصينة. مثل العزيز محمد ناجى مركز استقطاب وجاذبية إنسانية فريدة، تجلت فى سلوكه ومشافهاته فى العمل والصداقة، التى اتسمت بالفطنة والذكاء والنقاء حتى فى لحظات الغضب. لم أسمع منه قط لفظا أو صفة حوشية تنبو عن الذوق اللغوى الرفيع، أو ما تواضع عليه أفاضل الناس من قواعد للذوق والأدب والأخلاقيات الرفيعة. لم يستطع المرض أن ينال من سمته الهادئ والمتواضع، واجهه بالجسارة والإرادة الصلبة التى لا تلين، والابتسامة الدائمة والمشرقة بالأمل، وأشواق الانتصار عليه وعلى آلام الحياة. استطاع أن يجد اللغة السحرية التى يتحرك بها فى الفضاء اليومى ومع شخصيات متعددة ومختلفة ومن فئات اجتماعية مختلفة، وأيا كانت حظوظهم من التعليم والثقافة والمكانة الاجتماعية. لن ينسى أصدقاءه ومحبيه حواراته ومساوماته الخبيرة مع باعة الأحجار الكريمة، والسبح، فى سلاسة وثقة العارف بما يقول، عندما نذهب إلى خان الخليلى. لغة طالعة من القلب المحب للباعة ذوى الخبرة، وكأنه واحدا منهم. كانوا يعرفونه كخبير، وبعضهم كان يعتقد أنه يعمل فى مجال الأحجار الكريمة. كان من الممتع أن تسمح وترى مساوماته الخبيرة والناعمة التى تنتهى بنزول الباعة والصناع المحترفين عند رأيه وتقديراته. من أى منابع النقاء، والمحبة الصافية صاغ محمد ناجى روحه الوثابة. عندما ذهب للعلاج خارج الوطن، بدى لى كأحد ينابيع الأنوار المشعة بالجمال والفرح، وقلب رحب يحمل مأساة ودراما الشرط الإنسانى، فى مدينة وصفت فى المجاز الشائع عالميا بأنها عاصمة النور، والأنوار -عصور التنوير والثورات والنهضة والمركزية الأوروبية، والآداب والفلسفة والقانون والتصوير والنحت والجمال والأناقة- وكان -وهو الحىّ المقيم- يعيش فى قلب الضواحى، بدى وكأنه اختار هامشه وعالمه الأثير ليحمى روحه المبدعة من الصخب الباريسى المترع بالألم، والإحباط من تراجع المدينة عن أزمنتها الذهبية. كان قلبه الكبير المشع بالمحبة والإنسانية والموهبة والصداقة المفتوحة على العالم، يجذب بنعومة وسلاسة المحبين والأصدقاء له، ولإبداعاته المتميزة. لم أسمع منه قط شكوى أو ملامة أو إحساسا أو تعبيرا يحمل فى ثناياه القنوط، أو مشاعر الألم أيا كانت مصادره. عرفت قيمته الإنسانية المتفردة وموهبته الاستثنائية، وكانت حواراته معى فى زياراتى العلمية المتعددة لباريس فى المستشفى، وغرفته المتواضعة المضيئة به وبعمله الإبداعى فى الضواحى، أو فى مقاهى السان ميشيل، والسان جيرمان، كان حديثه فى الهموم والشجون المصرية، لا يتحدث عن مرضه إلا قليلا جدا واستثناء. فى سفرتى الأخيرة دعانا صديقنا العزيز المشترك جمال الغيطانى وزوجته الصديقة العزيزة ماجدة الجندى على الغداء فى أحد مطاعم السان جيرمان، وكانت جلسة ممتعة حول حالة السرديات الروائية والقصصية والشعرية المصرية والعربية، واستمعت منهما إلى آراء ثاقبة، حول تجربتهما الإبداعية ومساراتها. كان يكتب ويتحدث كأن الكتابة آبد، وكأنها هى الحياة أو هى الحياة فى الحياة. كانت سلطته فى الحياة تتمثل فى إبداعه الرفيع المكانة والمقام.. لم يكن رجل سلطة أو ساعيا إليها. كان فى قلب جيل من المبدعين والمثقفين النقديين والمستقلين، هؤلاء الذين صاغوا حدودا إزاء السلطات جميعها، لكى يحموا حرياتهم الفكرية والإبداعية، وعانى مثلما عانوا عديدا من الضغوط. لم يكن ساعيا وراء المؤسسة الثقافية الرسمية، ولا يقدم نفسه أو عمله إلى السلطة النقدية. جاء من الهامش الإبداعى الرفيع لقلب السرد العربى المعاصر، بإطلالته المتميزة والاستثنائية فى عالم الرواية، وهو شاعر أساسا، من هنا تجلى هذا التنوع فى مستويات السرد، وثرائه اللغوى، وعمق وتجانس البنية السردية وأحكامها الذى يدل على الموهبة والخبرة الكتابية الأصيلة، والتواشج والائتلاف بين لغته الشاعرة، ولغة الرواية، حيث السلاسة السردية دونما إفراط أو تفريط. رواياته من خافية قمر، والعايقة بنت الزين، ولحن الصباح، ورجل أبله وامرأة تافهة، والأفندى، ومقامات عربية، حتى عمله الأخير المنشور بعد رحيله قيس ونيللى وغيرها الذى لم ير النور بعد، تبدو اكتشافاته لعوالم جديدة، وسبر لأغوار حيوات بشر فى الهامش والقاع الاجتماعى حتى المستورين، ويلتقط من العادى، والمشهدى والأسطورى الكينونى والمصيرى والوجودى والذى يبقى عندما تتراجع الأحداث والوقائع اليومية بل وحيوات شخوصه. روائى لامع، لمعان أحجاره الكريمة والثمينة، وشاعر كبير لم يكتشف بعد، حيث بدأ شاعرا، ولا تزال أعماله لم تنشر. كان ديوانه البديع تسابيح النسيان كاشفا عن روحه الشاعرة وبنيته الشعرية المتميزة. فى سفره الطويل إلى الأبدية، يظل ناجى معنا، مقيم فى قلوبنا وفى جزء كبير من حياتنا، وذاكرتنا، وعقولنا، وفى خريطة الرواية المصرية والعربية، حيث يمثل أحد أبرز مواهبها، وترك أعمال بديعة مستمرة ما بقى فن الرواية. تركنا ومعه أحبة آخرون، وبقى فى القلب والروح لوعة وألم، ونستدعيه دائما عندما نذكر قيم المحبة والصداقة والموهبة.