تنسيق الجامعات.. كل ما تريد معرفته عن برنامج المعلوماتية الطبية بجامعة حلوان    «التضامن» تقر تعديل وتوفيق أوضاع 3 جمعيات في القليوبية وكفر الشيخ    النائب أحمد فرغلي يعلن رفضه لمشروع الموازنة العامة للدولة للعام المالي الجديد 2025/2026    وزير الإسكان: ملتزمون بتذليل العقبات أمام المطورين والمستثمرين    الوكالة الدولية للطاقة الذرية:التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل يؤخر العمل نحو حل دبلوماسي    حقيقة استبعاد محمود تريزيجيه من مباراة بالميراس البرازيلي    «الداخلية» تقرر السماح ل42 مواطنًا مصريًا بالحصول على جنسيات أجنبية    أرق الصيف.. كيف تحمي نفسك منه؟    رئيس «النواب» ينتقد تغيب وزيري المالية والتخطيط خلال مناقشة الموازنة: لا نقبل الأعذار    المكتب الإعلامي الحكومي في غزة: قطع الاحتلال للاتصالات والإنترنت جريمة مدروسة ومقصودة لعزل القطاع    رئيس مجلس النواب يضع مجموعة قواعد لمناقشة مشروع خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية    ميدو: الأهلي أضاع فرصة التأهل.. وزيزو غير جاهز بدنيًا    شوبير يكشف سبب تبديل زيزو أمام إنتر ميامي وحقيقة غضبه من التغيير    توقيع عقد ترخيص شركة «رحلة رايدز لتنظيم خدمات النقل البري»    محافظ سوهاج يدعو المواطنين للإبلاغ عن وقائع الغش في امتحانات الثانوية العامة بالأدلة    اليوم.. محاكمة 29 متهمًا بالانضمام لجماعة إرهابية فى المقطم    في أول زيارة لماسبيرو.. "المسلماني" يستقبل هدى نجيب محفوظ قبل افتتاح استديو نجيب محفوظ    بعد أزمة تواجدها في العراق.. إلهام شاهين: أخيرا هنرجع مصر    قصر ثقافة أبو سمبل يشهد انطلاق برنامج "مصر جميلة" لاكتشاف ودعم الموهوبين    وزير الزراعة يفتتح ورشة العمل الأولى لتنفيذ استراتيجية إعلان كمبالا للبحث والتطوير الزراعي في أفريقيا    الصحة: إصدار 19.9 مليون قرار علاج مميكن من الهيئة العامة للتأمين الصحي خلال عام    صحة الشرقية تطلق قافلة طبية بالمجان لأهالي العزازية ضمن المبادرات الرئاسية    وزير التعليم العالى: بنك المعرفة المصري تحول إلى منصة إقليمية رائدة    القبض على 3 متهمين بسرقة كابلات من شركة بكرداسة    الإعدام شنقا لجامع خردة قتل طفلة وسرق قرطها الذهبى فى العاشر من رمضان    الدخول ب 5 جنيهات.. 65 شاطئًا بالإسكندرية في خدمة المصطافين    السيسي لا ينسي أبناء مصر الأوفياء.. أخر مستجدات تكريم الشهداء والمصابين وأسرهم    انخفاض الطماطم.. أسعار الخضروات والفاكهة في سوق العبور اليوم    بدء تسليم دفعة جديدة من وحدات مشروع جنة بالمنصورة الجديدة.. 6 يوليو    أحمد السقا يرد برسالة مؤثرة على تهنئة نجله ياسين بعيد الأب    خلافات زوجية في الحلقة الثالثة من «فات الميعاد»    شام الذهبي تطمئن الجمهور على نجل تامر حسني: «عريس بنتي المستقبلي وربنا يشفيه»    حكم الصرف من أموال الزكاة والصدقات على مرضى الجذام؟.. دار الإفتاء تجيب    معلق مباراة الأهلي: الحماس سبب تريند «تعبتني يا حسين».. والأحمر كان الأفضل (خاص)    أسعار النفط تقفز وسط تصاعد المخاوف من تعطل الإمدادات    مستقبل صناعة العقار في فيلم تسجيلي بمؤتمر أخبار اليوم    محافظ أسوان: 14 ألف حالة من المترددين على الخدمات الطبية بوحدة صحة العوضلاب    موريتانيا.. مظاهرات منددة بالعدوان الإسرائيلي على إيران وغزة    الاثنين 16 يونيو 2025.. البورصة المصرية تعاود الارتفاع في بداية التعاملات بعد خسائر أمس    مستشار الرئيس للصحة: مصر سوق كبيرة للاستثمار في الصحة مع وجود 110 ملايين مواطن وسياحة علاجية    ترامب يصل إلى كندا لحضور قمة مجموعة السبع على خلفية توترات تجارية وسياسية    استكمالا لسلسلة في الوقاية حماية.. طب قصر العيني تواصل ترسيخ ثقافة الوعي بين طلابها    حالة الطقس اليوم في الكويت    أحمد فؤاد هنو: عرض «كارمن» يُجسّد حيوية المسرح المصري ويُبرز الطاقات الإبداعية للشباب    الرئيس الإيراني: الوحدة الداخلية مهمة أكثر من أي وقت مضى.. ولن نتخلى عن برنامجنا النووي السلمي    إيران تنفذ حكم الإعدام فى مدان بالتجسس لصالح إسرائيل    انتصار تاريخي.. السعودية تهزم هايتي في افتتاحية مشوارها بالكأس الذهبية    تضرر شبكة الكهرباء فى وسط إسرائيل بسبب الضربات الإيرانية    مدرب بالميراس يتوعد الأهلي قبل مواجهته في مونديال الأندية    "عايزة أتجوز" لا يزال يلاحقها.. هند صبري تشارك جمهورها لحظاتها ويكرمها مهرجان بيروت    بعد تعرضها لوعكة صحية.. كريم الحسيني يطلب الدعاء لزوجته    3 أيام متواصلة.. موعد إجازة رأس السنة الهجرية للموظفين والبنوك والمدارس (تفاصيل)    مجموعة الأهلي| شوط أول سلبي بين بالميراس وبورتو في كأس العالم للأندية    كريم رمزي يكشف تفاصيل جديدة عن توقيع عقوبة على تريزيجيه    أمين الفتوى: الله يغفر الذنوب شرط الاخلاص في التوبة وعدم الشرك    هل الزيادة في البيع بالتقسيط ربا؟.. أمين الفتوى يرد (فيديو)    إيران تعلن اعتقال عنصرين تابعين للموساد الإسرائيلى جنوب طهران    بوستات تهنئة برأس السنة الهجرية للفيس بوك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حارس الذاكرة ..حارس المدينة ..حارس الظلال
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 05 - 2015

أحد أبرز ملامح شخصية الغيطاني تتمثل في تكوينه المزيج ما بين العصامية والتكوين المنظم والدأب والكد علي روافده التكوينية، ما بين التراث الأدبي العربي في مظانه الرئيسية والفرعية، واستطاع أن يستوعب العديد من الجوانب الجوهرية والإبداعية في هذا التراث علي نحو ما تشير إليه اختياراته لعيون التراث في السلسلة التي كان يشرف عليها في هيئة قصور الثقافة، وقدم أعمالا بالغة التميز تدل علي معرفته وذائقته اللغوية البصيرة القادرة علي الفرز والتمييز بين التراكمات الموروثة عن الأجيال المؤسسة لهذا التراث الغائر في عمق الثقافات العربية، والتي حاول بعضهم لأسبابه السياسية المقنعة بالدين أن يحجب هذه الأعمال عن الحضور الراهن والحي للثقافة والإبداع في مواجهة سلطات دينية حاولت ولا تزال أن تعطي لنفسها سلطة الرقابة علي الجوانب اللامعة للموروث، وتسمح لنفسها بأن تكون حارسة بوابات المعرفة والدين والقيم ولا تسمح بمرور الأعمال التي تغاير إدراكها وذائقتها ولغتها وموروثها النقلي. قلة قليلة هي التي استطاعت أن تغوص عميقا في قلب الظلام والنور والظلال والأطياف المتعددة التي يسكن فيها جوهر الألباب التراثية.
هذا الدأب المعرفي، شكل ذائقة وحساسية لغوية متميزة لدي الكاتب الكبير منذ بواكير عمله في يوميات شاب عاش منذ ألف عام، وامتدت إليه العديد من أعماله الإبداعية الهامة.
أدرك الغيطاني منذ بداياته أن اللغة ليست محض أدوات لنقل أفكاره وصوره ومجازاته وأبنيته القصصية، أو الروائية، وإنما اللغة هي بناء العالم، هي الأخيل، والصور والمنامات، والتشكيلات البصرية، هي اللعب مع العالم ومشاكسته واستخلاص جوهره، وشرط الوجود الإنساني، الذي لولا اللغة لما كان ثمة وجود في الوجود.
من هنا نستطيع فهم التحولات في النسق اللغوي، واستيطانه، والتجربة مع اللغة/ العالم/ الوجود/ الكينونة، لأنه استطاع أن يشكل حالة من المكابدة مع اللغة، من البلاغة العربية الرصينة، وانتقالاته وتحولاته في إطار لغة المتصوفة المشعة بالنور والجلال والتجربة ، من هنا كان عمله علي اللغة وبها، في كتاباته المتعددة القصية والروائية واختياراته في يومياته أو كتاباته المفتوحة للعديد من الحكم والأمثولات والأشعار وتجليات المتصوفة الذين انتقلوا عبر المكابدة والألم والعذاب الذاتي للوصول إلي معارج الحلول، وهي مسارات لغوية/ كينونية وإبداعية بامتياز ، هذا المسار متعدد الأبعاد والنتوءات، استطاع من خلاله جمال الغيطاني أن يستكشف طريقه الخاص في القص والسرد الروائي، من خلال الفوضي في التاريخ وموروثاته، وإعادة اكتشافه وإحيائه وتجديد خلاياه، في شكل جديد ومختلف عن هؤلاء الذين حاولوا ارتياد الشكل واللغة التاريخية الموروثة وتوظيفه في بنية السرد المعاصر، كالمسعدي في عمله الرائد "حدث أبوهريرة فقال". الغيطاني سلك طريقا آخر اتخذ من الحياة والقيم واللغة والسلطة المملوكية قناعا تاريخيا وشكلا للسرد عن الحياة المعاصرة مثل الجوانب القمعية والرقابية التي تحيط بحياة الفرد والمجتمع المعاصر، وتكبل إرادته وتنمطه لكي يغدو جزءا من عالم الأب/ البطريرك السياسي، ومراكز القوة حوله. عوالم فاتنة، حاولت الإفلات من معتقلات اللغة والأفكار والأخيلة والمجازات المهيمنة في جيله، سيطر علي هذا الجيل عديد المصادر السردية علي رأسها السرد المحفوظي المرجعي الذي جعل من عالم الحارة المصرية هي العالم/ الكون كله بحيواته وظلاله وبناء القوة وتوزيعات الحظوظ والقيم والفرص داخله، ومن ثم ناقش بعض قضايا الوجود داخل عالمه المتفرد الذي أعطي للرواية كجنس وفن شرعية حداثية في بنية الثقافة المصرية والعربية. هذا الاتجاه شكل مرجعا سرديا لبعض مجايليه والأجيال اللاحقة له.
بعض جيل الغيطاني تأثر في القصة القصيرة بالمنجز التشيكوفي الفذ، وبالأدب الروسي رفيع المكانة في تاريخ الرواية العالمية، وفي انعطافاته نحو الواقعية الاشتراكية علي صراط المعايير الفنية والنقدية السوفيتية وسواها. وبعضهم الاخر تأثر بالمرجع الروائي الفرنسي، والأمريكي لاسيما أرنست هيمنجواي.
بعض هؤلاء القصاصين والروائيين شكلوا نقطة تحول في السرديات المصرية والعربية وعلي رأسهم صنع الله ابراهيم الذي ظهرت موهبته اللافتة من أول عمل له وهو »تلك الرائحة« وما بعدها من أعمال. وآخرون.. هم جزء من الخريطة الفاتنة للسرد المصري، لا يمكن نكرانها.
الغيطاني اتخذ مسارا مختلفا استوعب ما ترجم عن الآداب الروسية، والأوروبية والأمريكية شأن جيله، لكن في ذات الوقت بدأ في التأسيس لمشروعه في البنية التراثية كأشكال، ولغة وتجاوزها علي نحو نستطيع القول معه أنه أحد أهم المشاريع الروائية العربية المهجوسة بالقوة والسلطة والألم واللذة والموت والهدم وهي انشغالات ذهنية ووجدانية وبصرية وتخيلية قادته إلي الخروج من أسر اللغة والخيال والعصور التراثية إلي عالم الوجود الصوفي الذي كسر أصفاد النفس الإنسانية ومألوف احتياجاتها ودوافعها ونوازعها إلي حيث الوجد والمعراج الروحي وثوبا إلي الحلول في تجربة منفردة.
الخروج من بعض الأطر والأشكال الفنية واللغوية كان سمت الحراك القصصي والروائي والسردي حيث تنيم الأجناس والبني والقواعد والمعايير المألوفة إلي حيث الانفتاح الكلي علي السرد الحر، والكتابة المفتوحة العصية علي التجنيس، أي الكتابة الحرة المتحررة من الأشكال والقوالب المألوفة.
من هنا نحن إزاء تجربة متعددة المراحل والطبقات اللغوية الجوانية المتفجرة بالمعاني والدلالات، في سرده يمكن أن تتجاوز البنية الظاهرة إلي المضمرة وإلي اللغة ما وراء اللغة، والظلال ما وراء الظلال. تجربة تتسم بالدنيامية والحيوية والألق.
ما ساعد الغيطاني في تأسيس وبناء مشروعه السردي داخل عالم السرد العربي، هو تعدد مصادر تكوينه وتجدده، وذلك من خلال معرفته بالتطور التاريخي والإيماني المصري المتعدد والمفتوح والمتعايش والشعبي قلب الأنماط المعيوشة لدي الإنسان المصري. التركيب الروحي والإيماني والمعتقدي والطقوس المركب والمعقد والممتد والمنكسر في البنيات النفسية شبه الجماعية التي تشكل سمت ثقافة عميقة ومستمرة في التاريخ. من هنا كان ولا يزال تاريخ الروح/ الثقافة/ القيم/ الرموز/ الأمثولات/ السلوك المصري حاضرا في وجدان وعقل ومخيلة الغيطاني، ومن ثم استطاع أن يستوعب ذلك في عمله ومنجزه، علي نحو مغاير لعديد من مجايليه وما بعدهم علي أهمية ما قدمه هؤلاء إلي الأدب والثقافة المصرية.
هذا التاريخ الروحي المتعدد والمركب، ربما يعود أيضا إلي خبرته بعالم النسيج، والسجاد. من ثم كانت خبرته الخاصة بالألوان والروائح تجعله قادرا علي قراءة الرائحة واللون، وتجلياته مما جعل من حسه اللوني والتشكيلي مدخلا له في بناء وتشكيل الأنسجة اللغوية والسردية ذات الرائحة الكتابية الخاصة.
ثمة مصدر آخر لحارس الذاكرة المصرية.. ذاكرة التاريخ.. والبشر والأمكنة والخيال.. التي قادته لفهم معني الدولة وثقافاتها ودورها كدولة نهرية "هيدروليكية" كانت تعبيرا عن توحد الدولة واندماجها وتداخلها العميق في المجتمع وروح المصريين، ورمزا لوحدتهم التاريخية وتكاملهم أيا كانت انتماءاتهم الأولية، بل وطغيانها الشرقي - وفق فوتيفجول - الساحق قبل آثاره المدمرة. يبدو لي أن حارس الذاكرة التاريخية، هي التي دفعته في الغالب إلي الدفاع عنها - أيا كانت الانتقادات الهامة والبنائية - رغما عن اختلالات هذه الدولة، وبيروقراطيتها العتيدة، وسلطاتها القامعة. عمله كمحرر عسكري استطاع من خلال معرفة دور المؤسسة العسكرية المصرية تاريخيا، ومنذ دولة محمد علي وناصر، كأحد بناة الدولة الحديثة، ومن ثم اللجوء إليها في أوقات الاضطراب والمحن القومية والفوضي كما حدث في أعقاب المراحل الانتقالية المستمرة بعد الانتفاضة الثورية المجهضة في 25 يناير 2011، وفي ظل جماعة الإخوان المسلمين، وما قامت به من أعمال تفتقر إلي الخبرة بالدولة وثقافتها ورأسمالها التاريخي في مصر، والسعي إلي تحويلها الي دولة ذات قناع ديني ومذهبي يؤدي إلي انقسام الأمة المصرية الواحدة الموحدة علي أساس الانتماء الديني الأولي - قد يتفق المرء أو يختلف معه في آرائه، لكن بعضا من آرائه تحمل معها معرفتها التاريخية.
هذا الاتجاه نستطيع أن نجده لدي بعض المثقفين والكتاب الذين يعرفون دور المثقف في بناء الدولة المصرية الحديثة، ومن ثم وعيه بالدولة مغاير للمثقف الغربي أو العربي في علاقته بالدولة وسلطاتها، ونخبتها الحاكمة. بعضهم يخلط بين هذا النوع من المواقف والآراء، وبين الشخص ومشروعه وعمله الإبداعي، وهو من مألوف سلبيات التداخل والخلط بين السياسي والأيديولوجي، وبين الانتاج والإنجاز الفكري والإبداعي، وهي جزء من موروثات نفسية تسود بعض الأوساط الثقافية، وروح الأفكار والنفي المتبادل لبعضهم بعضا لاسيما بين الكبار، أو ما دونهم مكانة وقامة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه قانون الإزاحة المتبادل الذي يحتاج إلي دراسة سوسيو - نفسية، وجيليه للعلاقة بين المجايلين في الوسط الثقافي عموما، ولدي جماعات الباحثين في العلوم الاجتماعية، وبين جماعة النقاد، وجماعة المصورين التشكيليين والنحاتين والممثلين والمخرجين.. إلخ لأنها ظاهرة عامة ومستمرة قد نجد بعض النظائر لها غربا، وفي المنطقة العربية، لكنها في مصر متزايدة، ويبدو أن ذلك يعود إلي أن هيكل الفرص المتاحة محدود، من هنا تتحول العلاقات التنافسية المشروعة والإيجابية إلي علاقات نميمة وتنابذ وإنكار وجحد متبادل، واختلطت بعلاقات ومواقف السلطة السياسية والعلاقة معها، لاسيما السلطة الثقافية الرسمية، والسلطة الدينية وأجهزة الدولة الأيديولوجية.
جمال الغيطاني هو حارس المدينة وذاكرتها وخيالها وأحلامها ورغباتها المكبوتة والمعلنة ومضمراتها وأسرارها، ورموزها، وجحرها الذي استطاع عبر حسه الصوفي الرهيف أن يستنطقه حتي خايلته أن يسمع موسيقاه الخاصة. كان صديقي المعماري الكبير حسن فتحي يقول لي أن أحد الفلاسفة الألمان قال إن العمارة موسيقي مجففة في تعبيره عن ضرورة حساسية المعماري لمعني العمارة وهندساتها وطرزها في مواجهة أنماط من النفايات المعمارية التي أسس لها بعض المهندسين الجهلة والمتواطئين مع المقاولين وانصياعهم الي نمط من عمارة وظيفية رثة وقبيحة أدت الي سيادة القبح المعماري الذي يملأ فضاءات المدن والقري المصرية، وأدي إلي انهيار جماليات المدن وشخصياتها وحياتها، وأصبحت المدن والقري أطلالا معمارية متداعية.
سمعت الموسيقي تنطلق من أحجار مسجد السلطان حسن كما قال الغيطاني قد يبدو أنها مقولة متصوف أخذه الولع والعشق لعمارة وتاريخ وصفاء وسلام المسجد العريق، المسجد الفلتة كي تخايله الموسيقي التي تنبعث في هدوء أبدي من بين الحجارة، لكن علاقته بالموسيقي العالمية والمصرية بالغة الخصوصية لأنه يمتلك علاقة استثنائية بها من خلال مكتبته الموسيقية النادرة التي يمنح بعضها لأصدقائه في كرم غامر.
ميراث موسيقي متعدد المصادر في غرفة وأدوات خاصة بالخلوة والاستماع للموسيقي كجزء من طقوس حياته، في مكتبة نادرة ومتنوعة، وبها كتب نادرة.
الموسيقي والعمارة والتاريخ واللغة والمكان هي أحد أجهزة الوعي والبصيرة في محاولته للبحث عن منطق الوجود وتحيل تجربته مع الموسيقي إلي ما قاله فيليني العظيم ذات يوم إلي أين تذهب الموسيقي؟ ربما لدي الغيطاني ذهبت إلي الحجر والمدنية والوجدان والعقل والدم والعظام والمخيلة وإلي صور الحياة المتدافعة والمتحركة، حافظ المدنية/ الفاطمية، وقاهرة نهاية القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، ولا يزال يعرف بعض مناطقها وفي حي الحسين الفاتن وحواريه وأبنيته ومساجده وأزقته يعرف تاريخها ومحمولاته علي نحو يبدو وكأنه يقرأ في كتاب محفوظ محمول علي الحب ومُس من القداسة. ذاكرة بصرية استثنائية، كنا معا في العام الماضي في مدينة الأنوار باريس في ندوة مشتركة في معهد الدراسات العربية، نزلنا في فندق كان يسكنه الأديب المصري الفرنسي ألبير قصير، وأصر علي أن أقطن الغرفة التي كان يسكنها وكانت تجربة استعادة تاريخه وأعماله. الأهم أنه كان يعرف بعمق المدينة المُشعة بالتألق والمعرفة، والتاريخ التليد في مضمار الحداثة وما بعدها.
كان يقول هنا سكن الروائي أو الشاعر أو النحات، وعندما أنظر إلي قطعة النحاس المكتوب عليها اسم الكاتب أو الشاعر أجده صحيحا ، عشت سنوات في المدينة طالبا للمعرفة في رواق أستاذنا المرحوم دومنيك شيفالييه بالسوربون - باريس الرابعة - وكنت أعرف بعض أماكنها ومساكن كبارها، ولكن لم أمتلك هذه الذاكرة البصرية الحادة والشفافة.. والذاكرة ليست قاصرة علي هذه الأماكن، ولكن دروبها ومطاعمها وماتقدمه من بعض أنواع متخصصة من أطايب الطعام. أمدت خبرة حارس المدينة والذاكرة والظلال الغيطاني القدرة علي استنطاق الأبنية والأزقة من السان جيرمان ومقاهيها إلي السان ميشيل إلي متحف العالم في اللوفر، إلي مركز جورج بومبيدو، ومتحف الفن الحديث.. إلخ. النفاذ إلي روح المكان هو مدخل الغيطاني إلي المدن.
أتذكر مقابلتنا وزوجته الزميلة الأخت ماجدة الجندي مع صديقنا العزيز الغالي المقيم بيننا المرحوم محمد ناجي، وكان لقاء ساحرا بروح ناجي الندية الشفيفة، وأخذ من ناجي آخر عمل له ونشره في الأخبار.
عمل الغيطاني الصحفي شكل جزءا هاما من عطائه لاسيما في تأسيسه لأخبار الأدب، التي كانت ولا تزال أهم صحيفة ثقافية في مصر والعالم العربي.. استطاع من خلالها أن يشغل فراغا كبيرا في الصحافة العربية، وقدم فيها كتابات ابداعية ونقدية لجيل الكبار والشباب في عالمنا العربي، وكانت ولا تزال - إلا في لحظات اضطراب قصيرة - إحدي بقايا القوة الناعمة المصرية التي تراجعت في الإقليم. الأهم أنه قدم عديدا من الكتاب والشعراء والنقاد المصريين الشباب، أصبح بعضهم لامعا، والأهم.. الأهم عدد من شباب الجريدة الذين أصبحوا أهم صحفيين ثقافيين في مصر، وفي المنطقة العربية.
إن تجربة أخبار الأدب اتسمت بالثراء، وأضفي عليها ذوقه ورؤيته البصرية، وتستطيع أن تلمح فيها اختياراته للصور الفوتوغرافية من التراث البصري العالمي، وفي اللوحات والمنحوتات لكبار الفنانين الذين صاغوا الحس والجمال البصري والتشكيل العالمي، لأنه يمتلك أهم ألبومات كبار الفنانين المصريين والعالميين.
لا يمكن أن ننسي ولعه بجماليات الحروف العربية، وكبار الخطاطين المصريين والعرب والأتراك والإيرانيين، شغف خاص بالخطوط والروح السائلة والساكنة فيها والسائرة إلي المطلق رغم مقولاتها الخطية من المقدس القرآني، أو من السنة أو الأمثولات والحكم التي تحملها خطوط كبار الخطاطين الجميلة والفاتنة.
جمال الغيطاني الصديق هو من بين قلة من أصدقائي الطيبين لكنها الطيبة الذكية اللطيفة التي تضفي الحميمية والألق علي الصداقة التي يفيض عليها حيويته وحديثه الشجي كأحد سادة الكلام بلا لغو أو ثرثرة، حديث حامل لخبرة متعددة الأبعاد والمكونات.. (واللقاء القادم أنا الذي سأتحدث فقط للعلم). في معرض القاهرة الأخير وكان معي الأستاذ الكبير محمد الشرفي صاحب المدرسة البحثية والفكرية المتميزة في تونس الشقيقة، وبعد محاضرته الهامة قلت له، هيا نذهب للاستماع لتجربة الغيطاني الروائية، قال فورا، هذا حدث.. هذا رجل لا يتحدث كثيرا، واذا تكلم أو كتب يستمع ويقرأ له الجادون والبارزون، وخرجنا جميعا إلي مقهي ريش، وكانت أمسية ممتدة حتي بدايات صباح اليوم التالي ومعنا الصديق أحمد مجاهد، ومجموعتنا من الأصدقاء في المقهي التاريخي.
الغيطاني من أكثر الروائيين المصريين ذيوعا في فرنسا وبلدان أخري لأن ناشري أعماله من دور النشر الكبري التي لديها سياسة صارمة في النشر، لا تنشر عن مصر الكتابات الغرائبية التي تعيد إنتاج الخيال الاستشراقي المولع بها وببعض عصورها، وإنما معاييرها النقدية، صارمة في تقييم الأعمال الإبداعية التي تنشرها، كما في دار نشر seuil سيي، وacte sude من هنا كان الاحتفاء بنصه الفاتن الزيني بركات.
الغيطاني حارس الذاكرة والمدينة.. حارس الظلال بلغ السبعين من عمره المديد، أقول ما قاله طاغور لغاندي أبلغ المائة.. يا صديقي، مد الله في عمرك موفورا بالإنتاج الوفير والصحة والسعادة. كل عقد وأنت طيب وسعيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.