البنك المركزي المصري: ارتفاع طفيف في معدل النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي ليسجل 5.2% في الربع الثالث    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الإماراتي أوضاع السودان في إطار جهود الرباعية الدولية    رسميا.. أبو ظبي تعلن نقل مباريات كأس العرب    مستشفى الناس تحتفل بتدشين أول وأكبر مركز مجاني لزراعة الكبد بالشرق الأوسط وتعلن تحولها لمدينة طبية    الاتحاد الأوروبى: فرض عقوبات على شقيق قائد الدعم السريع على عبد الرحيم دقلو    سعر الجنيه السوداني مقابل الدولار في بنك الخرطوم المركزي (آخر تحديث)    القبض على صاحب فيديو البلطجة يكشف ملابسات الواقعة في الجيزة    الأعلى للإعلام منع ظهور بسمة وهبة وياسمين الخطيب لمدة ثلاثة أشهر    «سمات روايات الأطفال.. مؤتمر مركز بحوث أدب الطفل تناقش آفاق فهم البنية السردية وصور الفقد والبطل والفتاة في أدب اليافع    عضو الحزب الجمهورى: إسرائيل لا تعترف بأى قرار ولا تحترم أى قرار دولى    تعيين عبد الناصر عبد الحميد عميدًا لكلية التربية بجامعة المنوفية    في اليوم العالمي للطفل، تعلمي طرق دعم ثقة طفلك بنفسه    محافظة الجيزة: غلق كلي بطريق امتداد محور 26 يوليو أمام جامعة النيل غدا الجمعة    رئيس كوريا الجنوبية: أحب الحضارة المصرية وشعبنا يحبكم    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 20نوفمبر 2025 فى المنيا    الشيخ رمضان عبد المعز: العمل الصالح هو قرين الإيمان وبرهان صدقه    جينارو جاتوزو: منتخب إيطاليا لا يزال هشا    وكالة الطاقة الذرية تدعو إلى مزيد من عمليات التفتيش على المواقع النووية الإيرانية    محافظ القليوبية يُهدي ماكينات خياطة ل 15 متدربة من خريجات دورات المهنة    إيقاف بسمة وهبة وياسمين الخطيب.. الأعلى للإعلام يقرر    شركة مياه القليوبية ترفع درجة الاستعداد للمرحلة الثانية من انتخابات النواب    الموسيقار عمر خيرت يتعافى ويغادر المستشفى    ارتفاع أسعار العملات العربية في ختام تعاملات اليوم 20 نوفمبر 2025    وزير الرياضة: نمتلك 55 محترفاً في دوري كرة السلة الأمريكي NBA    «الزراعة»: تحصين 6.5 مليون جرعة ضد الحمى القلاعية والوادي المتصدع    محافظات المرحلة الثانية من انتخابات النواب وعدد المرشحين بها    وزير الصحة يبحث مع سفير المملكة المتحدة تعزيز السياحة العلاجية بمصر    من زيورخ إلى المكسيك.. ملحق مونديال 2026 على الأبواب    الإثنين المقبل.. انطلاق القمة السابعة للاتحاد الأوروبي و الإفريقي في أنجولا    دوري أبطال أفريقيا.. تغيير حكام مباراة الأهلي والجيش الملكي المغربي    دوري أبطال إفريقيا.. توروب والشناوي يحضران المؤتمر الصحفي لمباراة شبيبة القبائل غدا    النائب محمد إبراهيم موسى: تصنيف الإخوان إرهابية وCAIR خطوة حاسمة لمواجهة التطرف    مجلس الوزراء يُوافق على إصدار لائحة تنظيم التصوير الأجنبي داخل مصر    محافظات المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب وعدد المترشحين بها    يوم الطفل العالمى.. كتب عن الطفولة الإيجابية    حل الأحزاب السياسية في مصر.. نظرة تاريخية    محافظ الأقصر يوجه بتحسين الخدمة بوحدة الغسيل الكلوى بمركزى طب أسرة الدير واصفون    أسهم الإسكندرية لتداول الحاويات تواصل الصعود وتقفز 7% بعد صفقة موانئ أبوظبي    إيقاف إبراهيم صلاح 8 مباريات    حكم صلاة الجنازة والقيام بالدفن فى أوقات الكراهة.. دار الإفتاء توضح    رئيس أزهر سوهاج يتفقد فعاليات التصفيات الأولية لمسابقة القرآن الكريم    التضامن: نخطط لتحويل العاصمة الجديدة إلى مدينة صديقة للأطفال    إيمان كريم: المجلس يضع حقوق الطفل ذوي الإعاقة في قلب برامجه وخطط عمله    الغرفة التجارية بالقاهرة تنعى والدة وزير التموين    الهلال الأحمر المصري يطلق «زاد العزة» ال77 محمّلة بأكثر من 11 ألف طن مساعدات    تأثير الطقس البارد على الصحة النفسية وكيفية التكيف مع الشتاء    جثة طائرة من السماء.. مصرع شاب عثروا عليه ملقى بشوارع الحلمية    تموين القليوبية: جنح ضد سوبر ماركت ومخالفي الأسعار    السبت المقبل.. «التضامن» تعلن أسعار برامج حج الجمعيات الأهلية    جنايات سوهاج تقضى بإعدام قاتل شقيقه بمركز البلينا بسبب خلافات بينهما    الرقابة المالية تصدر ضوابط عمل لجنة حماية المتعاملين وتسوية المنازعات في مجال التأمين    مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبى: سنفرض عقوبات على عدد من الجهات السودانية    طقس الإسكندرية اليوم: ارتفاع تدريجي فى درجات الحرارة.. والعظمى 27 درجة مئوية    وزارة «التضامن» تقر قيد جمعيتين في محافظة الغربية    د. شريف حلمى رئيس هيئة المحطات النووية فى حوار ل«روزاليوسف»: الضبعة توفر 7 مليارات متر مكعب من الغاز سنويًا والمحطة تنتقل إلى أهم مرحلة فى تاريخها    مواجهات قوية في دوري المحترفين المصري اليوم الخميس    أدعية الرزق وأفضل الطرق لطلب البركة والتوفيق من الله    عصام صاصا عن طليقته: مشوفتش منها غير كل خير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حارس الذاكرة ..حارس المدينة ..حارس الظلال
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 05 - 2015

أحد أبرز ملامح شخصية الغيطاني تتمثل في تكوينه المزيج ما بين العصامية والتكوين المنظم والدأب والكد علي روافده التكوينية، ما بين التراث الأدبي العربي في مظانه الرئيسية والفرعية، واستطاع أن يستوعب العديد من الجوانب الجوهرية والإبداعية في هذا التراث علي نحو ما تشير إليه اختياراته لعيون التراث في السلسلة التي كان يشرف عليها في هيئة قصور الثقافة، وقدم أعمالا بالغة التميز تدل علي معرفته وذائقته اللغوية البصيرة القادرة علي الفرز والتمييز بين التراكمات الموروثة عن الأجيال المؤسسة لهذا التراث الغائر في عمق الثقافات العربية، والتي حاول بعضهم لأسبابه السياسية المقنعة بالدين أن يحجب هذه الأعمال عن الحضور الراهن والحي للثقافة والإبداع في مواجهة سلطات دينية حاولت ولا تزال أن تعطي لنفسها سلطة الرقابة علي الجوانب اللامعة للموروث، وتسمح لنفسها بأن تكون حارسة بوابات المعرفة والدين والقيم ولا تسمح بمرور الأعمال التي تغاير إدراكها وذائقتها ولغتها وموروثها النقلي. قلة قليلة هي التي استطاعت أن تغوص عميقا في قلب الظلام والنور والظلال والأطياف المتعددة التي يسكن فيها جوهر الألباب التراثية.
هذا الدأب المعرفي، شكل ذائقة وحساسية لغوية متميزة لدي الكاتب الكبير منذ بواكير عمله في يوميات شاب عاش منذ ألف عام، وامتدت إليه العديد من أعماله الإبداعية الهامة.
أدرك الغيطاني منذ بداياته أن اللغة ليست محض أدوات لنقل أفكاره وصوره ومجازاته وأبنيته القصصية، أو الروائية، وإنما اللغة هي بناء العالم، هي الأخيل، والصور والمنامات، والتشكيلات البصرية، هي اللعب مع العالم ومشاكسته واستخلاص جوهره، وشرط الوجود الإنساني، الذي لولا اللغة لما كان ثمة وجود في الوجود.
من هنا نستطيع فهم التحولات في النسق اللغوي، واستيطانه، والتجربة مع اللغة/ العالم/ الوجود/ الكينونة، لأنه استطاع أن يشكل حالة من المكابدة مع اللغة، من البلاغة العربية الرصينة، وانتقالاته وتحولاته في إطار لغة المتصوفة المشعة بالنور والجلال والتجربة ، من هنا كان عمله علي اللغة وبها، في كتاباته المتعددة القصية والروائية واختياراته في يومياته أو كتاباته المفتوحة للعديد من الحكم والأمثولات والأشعار وتجليات المتصوفة الذين انتقلوا عبر المكابدة والألم والعذاب الذاتي للوصول إلي معارج الحلول، وهي مسارات لغوية/ كينونية وإبداعية بامتياز ، هذا المسار متعدد الأبعاد والنتوءات، استطاع من خلاله جمال الغيطاني أن يستكشف طريقه الخاص في القص والسرد الروائي، من خلال الفوضي في التاريخ وموروثاته، وإعادة اكتشافه وإحيائه وتجديد خلاياه، في شكل جديد ومختلف عن هؤلاء الذين حاولوا ارتياد الشكل واللغة التاريخية الموروثة وتوظيفه في بنية السرد المعاصر، كالمسعدي في عمله الرائد "حدث أبوهريرة فقال". الغيطاني سلك طريقا آخر اتخذ من الحياة والقيم واللغة والسلطة المملوكية قناعا تاريخيا وشكلا للسرد عن الحياة المعاصرة مثل الجوانب القمعية والرقابية التي تحيط بحياة الفرد والمجتمع المعاصر، وتكبل إرادته وتنمطه لكي يغدو جزءا من عالم الأب/ البطريرك السياسي، ومراكز القوة حوله. عوالم فاتنة، حاولت الإفلات من معتقلات اللغة والأفكار والأخيلة والمجازات المهيمنة في جيله، سيطر علي هذا الجيل عديد المصادر السردية علي رأسها السرد المحفوظي المرجعي الذي جعل من عالم الحارة المصرية هي العالم/ الكون كله بحيواته وظلاله وبناء القوة وتوزيعات الحظوظ والقيم والفرص داخله، ومن ثم ناقش بعض قضايا الوجود داخل عالمه المتفرد الذي أعطي للرواية كجنس وفن شرعية حداثية في بنية الثقافة المصرية والعربية. هذا الاتجاه شكل مرجعا سرديا لبعض مجايليه والأجيال اللاحقة له.
بعض جيل الغيطاني تأثر في القصة القصيرة بالمنجز التشيكوفي الفذ، وبالأدب الروسي رفيع المكانة في تاريخ الرواية العالمية، وفي انعطافاته نحو الواقعية الاشتراكية علي صراط المعايير الفنية والنقدية السوفيتية وسواها. وبعضهم الاخر تأثر بالمرجع الروائي الفرنسي، والأمريكي لاسيما أرنست هيمنجواي.
بعض هؤلاء القصاصين والروائيين شكلوا نقطة تحول في السرديات المصرية والعربية وعلي رأسهم صنع الله ابراهيم الذي ظهرت موهبته اللافتة من أول عمل له وهو »تلك الرائحة« وما بعدها من أعمال. وآخرون.. هم جزء من الخريطة الفاتنة للسرد المصري، لا يمكن نكرانها.
الغيطاني اتخذ مسارا مختلفا استوعب ما ترجم عن الآداب الروسية، والأوروبية والأمريكية شأن جيله، لكن في ذات الوقت بدأ في التأسيس لمشروعه في البنية التراثية كأشكال، ولغة وتجاوزها علي نحو نستطيع القول معه أنه أحد أهم المشاريع الروائية العربية المهجوسة بالقوة والسلطة والألم واللذة والموت والهدم وهي انشغالات ذهنية ووجدانية وبصرية وتخيلية قادته إلي الخروج من أسر اللغة والخيال والعصور التراثية إلي عالم الوجود الصوفي الذي كسر أصفاد النفس الإنسانية ومألوف احتياجاتها ودوافعها ونوازعها إلي حيث الوجد والمعراج الروحي وثوبا إلي الحلول في تجربة منفردة.
الخروج من بعض الأطر والأشكال الفنية واللغوية كان سمت الحراك القصصي والروائي والسردي حيث تنيم الأجناس والبني والقواعد والمعايير المألوفة إلي حيث الانفتاح الكلي علي السرد الحر، والكتابة المفتوحة العصية علي التجنيس، أي الكتابة الحرة المتحررة من الأشكال والقوالب المألوفة.
من هنا نحن إزاء تجربة متعددة المراحل والطبقات اللغوية الجوانية المتفجرة بالمعاني والدلالات، في سرده يمكن أن تتجاوز البنية الظاهرة إلي المضمرة وإلي اللغة ما وراء اللغة، والظلال ما وراء الظلال. تجربة تتسم بالدنيامية والحيوية والألق.
ما ساعد الغيطاني في تأسيس وبناء مشروعه السردي داخل عالم السرد العربي، هو تعدد مصادر تكوينه وتجدده، وذلك من خلال معرفته بالتطور التاريخي والإيماني المصري المتعدد والمفتوح والمتعايش والشعبي قلب الأنماط المعيوشة لدي الإنسان المصري. التركيب الروحي والإيماني والمعتقدي والطقوس المركب والمعقد والممتد والمنكسر في البنيات النفسية شبه الجماعية التي تشكل سمت ثقافة عميقة ومستمرة في التاريخ. من هنا كان ولا يزال تاريخ الروح/ الثقافة/ القيم/ الرموز/ الأمثولات/ السلوك المصري حاضرا في وجدان وعقل ومخيلة الغيطاني، ومن ثم استطاع أن يستوعب ذلك في عمله ومنجزه، علي نحو مغاير لعديد من مجايليه وما بعدهم علي أهمية ما قدمه هؤلاء إلي الأدب والثقافة المصرية.
هذا التاريخ الروحي المتعدد والمركب، ربما يعود أيضا إلي خبرته بعالم النسيج، والسجاد. من ثم كانت خبرته الخاصة بالألوان والروائح تجعله قادرا علي قراءة الرائحة واللون، وتجلياته مما جعل من حسه اللوني والتشكيلي مدخلا له في بناء وتشكيل الأنسجة اللغوية والسردية ذات الرائحة الكتابية الخاصة.
ثمة مصدر آخر لحارس الذاكرة المصرية.. ذاكرة التاريخ.. والبشر والأمكنة والخيال.. التي قادته لفهم معني الدولة وثقافاتها ودورها كدولة نهرية "هيدروليكية" كانت تعبيرا عن توحد الدولة واندماجها وتداخلها العميق في المجتمع وروح المصريين، ورمزا لوحدتهم التاريخية وتكاملهم أيا كانت انتماءاتهم الأولية، بل وطغيانها الشرقي - وفق فوتيفجول - الساحق قبل آثاره المدمرة. يبدو لي أن حارس الذاكرة التاريخية، هي التي دفعته في الغالب إلي الدفاع عنها - أيا كانت الانتقادات الهامة والبنائية - رغما عن اختلالات هذه الدولة، وبيروقراطيتها العتيدة، وسلطاتها القامعة. عمله كمحرر عسكري استطاع من خلال معرفة دور المؤسسة العسكرية المصرية تاريخيا، ومنذ دولة محمد علي وناصر، كأحد بناة الدولة الحديثة، ومن ثم اللجوء إليها في أوقات الاضطراب والمحن القومية والفوضي كما حدث في أعقاب المراحل الانتقالية المستمرة بعد الانتفاضة الثورية المجهضة في 25 يناير 2011، وفي ظل جماعة الإخوان المسلمين، وما قامت به من أعمال تفتقر إلي الخبرة بالدولة وثقافتها ورأسمالها التاريخي في مصر، والسعي إلي تحويلها الي دولة ذات قناع ديني ومذهبي يؤدي إلي انقسام الأمة المصرية الواحدة الموحدة علي أساس الانتماء الديني الأولي - قد يتفق المرء أو يختلف معه في آرائه، لكن بعضا من آرائه تحمل معها معرفتها التاريخية.
هذا الاتجاه نستطيع أن نجده لدي بعض المثقفين والكتاب الذين يعرفون دور المثقف في بناء الدولة المصرية الحديثة، ومن ثم وعيه بالدولة مغاير للمثقف الغربي أو العربي في علاقته بالدولة وسلطاتها، ونخبتها الحاكمة. بعضهم يخلط بين هذا النوع من المواقف والآراء، وبين الشخص ومشروعه وعمله الإبداعي، وهو من مألوف سلبيات التداخل والخلط بين السياسي والأيديولوجي، وبين الانتاج والإنجاز الفكري والإبداعي، وهي جزء من موروثات نفسية تسود بعض الأوساط الثقافية، وروح الأفكار والنفي المتبادل لبعضهم بعضا لاسيما بين الكبار، أو ما دونهم مكانة وقامة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه قانون الإزاحة المتبادل الذي يحتاج إلي دراسة سوسيو - نفسية، وجيليه للعلاقة بين المجايلين في الوسط الثقافي عموما، ولدي جماعات الباحثين في العلوم الاجتماعية، وبين جماعة النقاد، وجماعة المصورين التشكيليين والنحاتين والممثلين والمخرجين.. إلخ لأنها ظاهرة عامة ومستمرة قد نجد بعض النظائر لها غربا، وفي المنطقة العربية، لكنها في مصر متزايدة، ويبدو أن ذلك يعود إلي أن هيكل الفرص المتاحة محدود، من هنا تتحول العلاقات التنافسية المشروعة والإيجابية إلي علاقات نميمة وتنابذ وإنكار وجحد متبادل، واختلطت بعلاقات ومواقف السلطة السياسية والعلاقة معها، لاسيما السلطة الثقافية الرسمية، والسلطة الدينية وأجهزة الدولة الأيديولوجية.
جمال الغيطاني هو حارس المدينة وذاكرتها وخيالها وأحلامها ورغباتها المكبوتة والمعلنة ومضمراتها وأسرارها، ورموزها، وجحرها الذي استطاع عبر حسه الصوفي الرهيف أن يستنطقه حتي خايلته أن يسمع موسيقاه الخاصة. كان صديقي المعماري الكبير حسن فتحي يقول لي أن أحد الفلاسفة الألمان قال إن العمارة موسيقي مجففة في تعبيره عن ضرورة حساسية المعماري لمعني العمارة وهندساتها وطرزها في مواجهة أنماط من النفايات المعمارية التي أسس لها بعض المهندسين الجهلة والمتواطئين مع المقاولين وانصياعهم الي نمط من عمارة وظيفية رثة وقبيحة أدت الي سيادة القبح المعماري الذي يملأ فضاءات المدن والقري المصرية، وأدي إلي انهيار جماليات المدن وشخصياتها وحياتها، وأصبحت المدن والقري أطلالا معمارية متداعية.
سمعت الموسيقي تنطلق من أحجار مسجد السلطان حسن كما قال الغيطاني قد يبدو أنها مقولة متصوف أخذه الولع والعشق لعمارة وتاريخ وصفاء وسلام المسجد العريق، المسجد الفلتة كي تخايله الموسيقي التي تنبعث في هدوء أبدي من بين الحجارة، لكن علاقته بالموسيقي العالمية والمصرية بالغة الخصوصية لأنه يمتلك علاقة استثنائية بها من خلال مكتبته الموسيقية النادرة التي يمنح بعضها لأصدقائه في كرم غامر.
ميراث موسيقي متعدد المصادر في غرفة وأدوات خاصة بالخلوة والاستماع للموسيقي كجزء من طقوس حياته، في مكتبة نادرة ومتنوعة، وبها كتب نادرة.
الموسيقي والعمارة والتاريخ واللغة والمكان هي أحد أجهزة الوعي والبصيرة في محاولته للبحث عن منطق الوجود وتحيل تجربته مع الموسيقي إلي ما قاله فيليني العظيم ذات يوم إلي أين تذهب الموسيقي؟ ربما لدي الغيطاني ذهبت إلي الحجر والمدنية والوجدان والعقل والدم والعظام والمخيلة وإلي صور الحياة المتدافعة والمتحركة، حافظ المدنية/ الفاطمية، وقاهرة نهاية القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، ولا يزال يعرف بعض مناطقها وفي حي الحسين الفاتن وحواريه وأبنيته ومساجده وأزقته يعرف تاريخها ومحمولاته علي نحو يبدو وكأنه يقرأ في كتاب محفوظ محمول علي الحب ومُس من القداسة. ذاكرة بصرية استثنائية، كنا معا في العام الماضي في مدينة الأنوار باريس في ندوة مشتركة في معهد الدراسات العربية، نزلنا في فندق كان يسكنه الأديب المصري الفرنسي ألبير قصير، وأصر علي أن أقطن الغرفة التي كان يسكنها وكانت تجربة استعادة تاريخه وأعماله. الأهم أنه كان يعرف بعمق المدينة المُشعة بالتألق والمعرفة، والتاريخ التليد في مضمار الحداثة وما بعدها.
كان يقول هنا سكن الروائي أو الشاعر أو النحات، وعندما أنظر إلي قطعة النحاس المكتوب عليها اسم الكاتب أو الشاعر أجده صحيحا ، عشت سنوات في المدينة طالبا للمعرفة في رواق أستاذنا المرحوم دومنيك شيفالييه بالسوربون - باريس الرابعة - وكنت أعرف بعض أماكنها ومساكن كبارها، ولكن لم أمتلك هذه الذاكرة البصرية الحادة والشفافة.. والذاكرة ليست قاصرة علي هذه الأماكن، ولكن دروبها ومطاعمها وماتقدمه من بعض أنواع متخصصة من أطايب الطعام. أمدت خبرة حارس المدينة والذاكرة والظلال الغيطاني القدرة علي استنطاق الأبنية والأزقة من السان جيرمان ومقاهيها إلي السان ميشيل إلي متحف العالم في اللوفر، إلي مركز جورج بومبيدو، ومتحف الفن الحديث.. إلخ. النفاذ إلي روح المكان هو مدخل الغيطاني إلي المدن.
أتذكر مقابلتنا وزوجته الزميلة الأخت ماجدة الجندي مع صديقنا العزيز الغالي المقيم بيننا المرحوم محمد ناجي، وكان لقاء ساحرا بروح ناجي الندية الشفيفة، وأخذ من ناجي آخر عمل له ونشره في الأخبار.
عمل الغيطاني الصحفي شكل جزءا هاما من عطائه لاسيما في تأسيسه لأخبار الأدب، التي كانت ولا تزال أهم صحيفة ثقافية في مصر والعالم العربي.. استطاع من خلالها أن يشغل فراغا كبيرا في الصحافة العربية، وقدم فيها كتابات ابداعية ونقدية لجيل الكبار والشباب في عالمنا العربي، وكانت ولا تزال - إلا في لحظات اضطراب قصيرة - إحدي بقايا القوة الناعمة المصرية التي تراجعت في الإقليم. الأهم أنه قدم عديدا من الكتاب والشعراء والنقاد المصريين الشباب، أصبح بعضهم لامعا، والأهم.. الأهم عدد من شباب الجريدة الذين أصبحوا أهم صحفيين ثقافيين في مصر، وفي المنطقة العربية.
إن تجربة أخبار الأدب اتسمت بالثراء، وأضفي عليها ذوقه ورؤيته البصرية، وتستطيع أن تلمح فيها اختياراته للصور الفوتوغرافية من التراث البصري العالمي، وفي اللوحات والمنحوتات لكبار الفنانين الذين صاغوا الحس والجمال البصري والتشكيل العالمي، لأنه يمتلك أهم ألبومات كبار الفنانين المصريين والعالميين.
لا يمكن أن ننسي ولعه بجماليات الحروف العربية، وكبار الخطاطين المصريين والعرب والأتراك والإيرانيين، شغف خاص بالخطوط والروح السائلة والساكنة فيها والسائرة إلي المطلق رغم مقولاتها الخطية من المقدس القرآني، أو من السنة أو الأمثولات والحكم التي تحملها خطوط كبار الخطاطين الجميلة والفاتنة.
جمال الغيطاني الصديق هو من بين قلة من أصدقائي الطيبين لكنها الطيبة الذكية اللطيفة التي تضفي الحميمية والألق علي الصداقة التي يفيض عليها حيويته وحديثه الشجي كأحد سادة الكلام بلا لغو أو ثرثرة، حديث حامل لخبرة متعددة الأبعاد والمكونات.. (واللقاء القادم أنا الذي سأتحدث فقط للعلم). في معرض القاهرة الأخير وكان معي الأستاذ الكبير محمد الشرفي صاحب المدرسة البحثية والفكرية المتميزة في تونس الشقيقة، وبعد محاضرته الهامة قلت له، هيا نذهب للاستماع لتجربة الغيطاني الروائية، قال فورا، هذا حدث.. هذا رجل لا يتحدث كثيرا، واذا تكلم أو كتب يستمع ويقرأ له الجادون والبارزون، وخرجنا جميعا إلي مقهي ريش، وكانت أمسية ممتدة حتي بدايات صباح اليوم التالي ومعنا الصديق أحمد مجاهد، ومجموعتنا من الأصدقاء في المقهي التاريخي.
الغيطاني من أكثر الروائيين المصريين ذيوعا في فرنسا وبلدان أخري لأن ناشري أعماله من دور النشر الكبري التي لديها سياسة صارمة في النشر، لا تنشر عن مصر الكتابات الغرائبية التي تعيد إنتاج الخيال الاستشراقي المولع بها وببعض عصورها، وإنما معاييرها النقدية، صارمة في تقييم الأعمال الإبداعية التي تنشرها، كما في دار نشر seuil سيي، وacte sude من هنا كان الاحتفاء بنصه الفاتن الزيني بركات.
الغيطاني حارس الذاكرة والمدينة.. حارس الظلال بلغ السبعين من عمره المديد، أقول ما قاله طاغور لغاندي أبلغ المائة.. يا صديقي، مد الله في عمرك موفورا بالإنتاج الوفير والصحة والسعادة. كل عقد وأنت طيب وسعيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.