في أجواء مرتبكة يرحل الغيطاني، وفي أجواء مرتبكة كتب، وفي أجواء مرتبكة اشتبك وناور وصرح ولمح، والحق أن كل أجوائنا مرتبكة؛ لذلك فقد كان الغيطاني حصيفًا حين عاد إلى الماضي مجادلاً إياه، وحين أراد بجدله هذا أن يأخذ الحاضر (المرتبك) إلى الماضي وما كان فيه من مآلات لارتباكات شبيهة بهذا الحاضر.. ومن يدري فلعل الغيطاني وهو يرسم نهاية دولة البصاصين في "الزيني بركات" معتقدًا أنه يرسل رسالة لنظام عبدالناصر الذي امتلك مشروعًا قوميا لكنه لم يهتم بالمواطن وحقوقه- تنبأ – دون قصد - بما يجري من حكم للمماليك الجدد الذين لا يملكون مشاريع ولا يأبهون بحقوق للإنسان؟! ويبقى السؤال: هل استطاع النص الأدبي أن يحجز مكانًا للبقاء في أجواء تدفع كل شيء صوب التعرية والإزالة؟ ذات مرة قال شخص: "إن أفضل ما كتب الغيطاني هو الزيني بركات؛ لأنه كان يكتب عن نفسه" عنى هذا الشخص أن الغيطاني مخبر للدولة وكاتب للتقارير السرية مثلما كان بركات كبير بصاصين.. فهل الروائي والصحفي والمثقف والأستاذ والمراسل العسكري كان محض بصاص وكاتب تقارير؟ جمال الغيطاني (8 مايو 1945 – 18 أكتوبر 2015) روائي وقاص مصري، في عام 1969عمل مراسلا حربيا في لمؤسسة أخبار اليوم، ناقلا حربي الاستنزاف والتحرير، وفي عام 1974 عمل في قسم التحقيقات الصحفية، وفي 1985 رأس القسم الأدبي بأخبار اليوم. في عام 1993 أسس جريدة أخبار الأدب ورأس تحريرها قرابة عقدين من الزمان، وحصل الغيطاني على عدد من الجوائز الإبداعية المصرية والعربية والعالمية، منها جائزة الدولة التقديرية (مصر) عام 2007، وجائزة سلطان بن علي العويس عام 1997، ووسام الاستحقاق الفرنسي من طبقة فارس، عام 1987. مشروع كتابة الغيطاني لا ينفصل عن اختياراته فهو ينحاز إلى ما يراه منتصرًا حتى لو لم يرق ذلك للسلطة؛ فقد كتب رائعته الزيني بركات ناقدًا طريقة تعامل الحقبة الناصرية مع الديمقراطية: " جاءتالزيني بركاتنتيجة لعوامل عديدة. أهمها في تقديري تجربة معاناة القهر البوليسي في مصر خلال الستينيات. كانت هناك تجربة ضخمة تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية. تهدف إلى تحقيق أحلام البسطاء. يقودها زعيم كبير هو جمال عبد الناصر، ولكن كان مقتل هذه التجربة في رأيي هو الأسلوب الذي تعامل به مع الديمقراطية. وأحيانا كنا نحجم عن الحديث بهذا الشكل لأن هذه التجربة بعد انتهائها, تعرضت وما تزال تتعرض لهجوم حاد من خصوم العدالة الاجتماعية, ومن خصوم إتاحة الفرص أمام الفقراء. ولكن أنا أتصور أن الشهادة يجب أن تكون دقيقة الآن, خاصة وأن جيلنا, جيل الستينات الذي ننتمي إليه أنا والأستاذ البساطي قد بدأ يدنو من مراحله الأخيرة. لذا يجب أن نترك كلمة حق حتى لا تتكرر تلك الأخطاء" في عام 1959 تعرف الغيطاني على نجيب محفوظ واعتبر ذلك تحولا كبيرًا، وربما لم ينافس أحد في التصريح على لسان محفوظ مثلما فعل سلماوي، وجود ظل قوي للغيطاني جعله يبقى الأكثر قربًا وانتفاعًا ونفعًا من خلال حواراته المستمرة مع محفوظ. في عام 1969 عمل الغيطاني مراسلا عسكريا لصالح أخبار اليوم، وظل في عمله حتى 1974، ويبدو أن هذه الفترة أثرت به تأثيرًا عميقًا مما جعله منحازًا بشكل واضح لرجال الجيش في السلطة وخارجها، ومما جعل له تأثيرًا يعرفه مثقفون كثيرون للدرجة التي جعلتهم يتوقعون إزاحة عصفور من وزارة الثقافة نظرًا للهجوم الضاري من الغيطاني عليه.. وقد كان.. وللدرجة التي حاول رئيسًا سابقًا في هيئة الكتاب أن يضعه على رأس سلسلة تتناول بطولات الجيش المصري مهملاً عامل السن الكبيرة ومغلبًا حدس المقامر بأن يدعمه الرجل المقرب من الحاكمين إن فاحت رائحة كوارثه. في نهايات السبعينيات (1969) التحق الغيطاني بأخبار اليوم، المؤسسة الصحفية العملاقة المشغولة بالخبر وفق تعريفه الصحفي: "شخص يعض كلب.. رجل بأذن فيل.. أيام في وكر الشياطين" وشيئًا فشيئًا شق الغيطاني طريقه ليخرج للصحافة المصرية بالصحيفة الثقافية الأولى في الوطن العربي، منذ إنشائها في بداية العقد الأخير من القرن العشرين وحتى كتابة هذه السطور. لكن المشروع الأعظم للغيطاني ليس علاقته بمحفوظ ولا بالجيش ولا بالصحافة، وإنما بالسرد الذي سيظلمه الجميع حين يقرنون بين الغيطاني ومواقفه من جهة – وهذا لا يعني أننا نحكم على مواقفه بالسوء ولكنه يعني أن هذه الموقف ستكون أشبه بالسور الحاجز- وبين كتابته ومشروعه من جهة أخرى وربما تلحق كتبه بمصير كتب نجيب محفوظ التي أخذت حقوقها دار نشر خاص – ترمى بانتمائها لجماعات محظورة – وتكاد تنفد من الأسواق دون إعادة للطبع، ومع غياب النشر الإلكتروني، ودور المكتبات الكبرى، وسوء موقع الراحل.. يبدو أننا بحاجة إلى انتفاضة عملاقة من وزارة الثقافة لعمل مكتبة إلكترونية ومكتبة ورقية كبرى تضم أعمال الكتاب الكبار.. بدلا من معارك العدم ومؤتمرات الخواء التي لا تتوقف. المشروع السردي للغيطاني لم يعكف الناس عليه لأسباب عدة منها أيضًا؛ غزارة إنتاج الكاتب وتنوعه مع كتابته المستمرة مما جعل القدرة على الملاحقة النقدية قليلة، أيضًا حتى كتابة هذه السطور فأعمال الغيطاني الكاملة يصعب العثور عليها من مكان واحد، ويبدو أن تجربة هيئة الكتاب في طباعة الأعمال الكاملة كانت لمجاملة الراحل أكثر منها لطباعة الأعمال (الكاملة) فعلاً إذ لا تضم المجلدات الخمس كتابات الغيطاني كلها، ولم تجرِ أي محاولة لتفاوض مع الدار ممتلكة الحقوق، كما لم تقم بضرب حقوق الملكية عُرض الحائط كما فعلت أكثر من مرة مع الدار نفسها. المشروع السردي للغيطاني يراه الأكاديمي يسري عبدالله في مقاله عن الغيطاني بالحياة اللندنية: "أنجز مشروعاً سردياً خلاقاً، يخصّه وحده، يعتمد في جوهر بنائه على جدل التاريخي والجمالي، فكانت رحلته مع النص ارتحالاً في التاريخ المصري ذاته، قديمه، ووسيطه. وكانت بدايته اللافتة "أوراق شاب عاش منذ ألف عام" التي مثّلت حالاً من الإرهاص بولع ما لدى الغيطاني يتشكل صوب أنسنة التاريخ والكشف عن المسكوت عنه داخله. هذا الولع صار أكثر وهجاً وإحكاماً في روايته الفاتنة "الزيني بركات"، التي رصدت مرحلة فارقة في مسيرة الأمة المصرية، وهي تنتقل من جلاد (الشهاب الأعظم زكريا بن راضي) إلى جلاد جديد (والي الحسبة الزيني بركات)، أو بالأحرى من الاستبداد المملوكي إلى الاستبداد العثماني. وفضلاً عن التحوّلات التاريخية التي ترصدها الرواية على مهل، مستكشفة تفاصيل المكان والزمان الروائيين بلغة تنحاز إلى المحكي عنهم، وعصرهم ووقائعهم، فإن عالماً تخييليًّا يقيمه الكاتب ويشيده بروح شفيفة، فتلوح الحكايات الفرعية عن المخدوعين والبسطاء والثوار والمحبّين لتضاف إلى المتن السردي في مساءلته القمع عبر تحرير النص/ تحرير التاريخ." أما جابر عصفور فيرى في مقاله المنشور في الأهرام أن: "ولا يكفى فى تحديد تمييز إنجاز الغيطاني القول عنه إنه كاتب غاص فى أخص الخاص من واقعه فى كل مجال، حتى وصل إلى الجذر الإنساني الذى جعله كاتبا عالميا بكل معنى الكلمة، وإنما أضيف إلى ذلك تعدد المجال من ناحية، والتجريب من ناحية ثانية، ومتابعة إن لم يكن منافسة- الكتابة العالمية فى مجاله الإبداعي النوعي من ناحية أخيرة. لقد حافظ على الصيغ القرائية التى ساعدته على تحقيق التغريب بالمعنى الذى قصد إليه الشكليون الروس، ومزج بين تجليات حضور أبيه البيولوجي وعبد الناصر أبيه الروحي بلغة الرؤى الصوفية فى التجليات. وانتقل إلى اللغة اليومية فى سرديات "أرض.. أرض"، وفى "الرفاعي"، هذه الرواية التى تصوغ تمثالا خالدا من الكلمات للشهيد إبراهيم الرفاعي الذى استشهد وهو يقود جنوده فى حرب الاستنزاف، وأفاد كل الإفادة من التقارير التى كان يكتبها ويطالعها حين كان مراسلا عسكريا، فكتب عن الأبطال المعروفين مثل الرفاعى وعن غير المعروفين مثل "الغريب". وأضف إلى هذا التنوع جرأة وعمق وصدق العودة إلى الميراث الأدبى الفرعونى والإفادة من بردياته ونقش حجاراته فى تنوع آفاق عوالمه التى وصلت إلى ذرى إبداعية لم تصل إليها، هذا، جنبا إلى جنب استبطان النفس فى محنة جراحتي القلب اللتين مر بهما. وقبل ذلك وصول وعيه التجريبي إلى أفق ما بعد الحداثة فى روايته الفاتنة "المؤسسة" التى لم تأخذ حقها النقدي بعد. وكان جمال فى كل أحواله مبدعا أصيلا ومعاصرا وأمينا مع نفسه. حفر بأظافره فى أحجار الآداب العالمية حتى دنت منه كما دنا منها، فتدلى إنجازه دالا بخصوصيته فى شبكة الكتابة العالمية. ولذلك أصبح إنتاجه الغزير (نحو خمسين عملا إبداعيًّا)من أهم مفاخر الكتابة العربية التى وصلت إلى ذرى إبداعية لم تصل إليها من قبل، وذلك بفضل إبداع الغيطاني وعدد أقل من أصابع اليد الواحدة من كتاب الستينيات. حفظ الله جمال وأعاده سالما إلى أسرته وعالمه الإبداعي الذى نفخر به نحن أبناء الجيل الذى ينتسب إليه". على كثرة من كتبوا أو تحدثوا عن الغيطاني، وعلى كثرة المصادر وتعددها فإن اللجوء لعبدالله وعصفور في مقالتين منشورتين بأكبر صحيفتين عربيتين، هو الخيار الأكثر صوابًا فلسنا بحاجة إلى تعبيرات انطباعية، وليس الغيطاني بحاجة إلى سرادق عزاء، وليس القارئ بحاجة إلى تحويل الحديث عن كاتب كبير في حجم الغيطاني إلى ملاسنة بين المتخاصمين.. نحن بحاجة إلى من يجمع أعمال جمال الغيطاني، وإلى من يقرأ أعمال جمال الغيطاني، وإلى من يدرس أعمال الغيطاني. المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية