الآن فقط تكتب دفترك الأخير، أمتعتنا فى دفتر الإقامة، ومتألمون نحن لدفتر الرحيل، لكنك تعرف الطريق جيدا، ونحن ممتنون لك كثيرا، ومؤمنون أن فى رحيلك إقامة، تشبه الغياب الذى يشى بالحضور. يمثل جمال الغيطانى (1945- 2015) قيمة فنية وإنسانية فى مسيرة الثقافة المصرية، وكاتبا متمرسا فى مسيرة السردية العربية، تتجلى ملامح مشروعه الإبداعى بدءا من أوراق شاب عاش منذ ألف عام، حيث يصبح التخييل بناء جماليا رهيفا، ومرورا بروايته البديعة الزينى بركات، حيث يضع الغيطانى يده على مفتاح التعاطى الناجع للرواية مع التاريخ، ويصنع هذا الجدل الخلاق ما بين التسجيلى والتخييلي، أو ما بين التاريخى والفني، ويعيد استجلاء الذائقة الشعبية حين يعيد الاعتبار للمؤرخ المصرى ابن إياس، ويوظف لغته توظيفا دالا فى متن النص، محتفيا بالحرية، ومسائلا الاستبداد، فيدين البصاصين، ويرمز إليهم بالشهاب الأعظم زكريا بن راضي، ويدين الحواة والراقصين على جثث الشعوب ويرمز إليهم بوالى الحسبة بركات بن موسى، ومن استنفاد طاقات التاريخ، والقدرة على محاكمته، إلى الولع بالإرث الصوفي، والتماس مع محيى الدين بن عربي، فى التجليات، التى تصبح تعبيرا جماليا دالا على علاقة الإنسان بالعوالم المختلفة، والنظر إلى الأشياء من منظورات متعددة، تتجاوز التصورات التقليدية عن الحياة والعالم والأشياء اعتمادا على النظر الكلي، والتأمل الذاتى والحدس العميق. ومن المنحيين التاريخى والصوفى إلى المنحى الفلسفى الحاضر بقوة فى كثير من مؤلفاته. لقد أسهم جمال الغيطانى فى منح ما يسمى بأدب الحرب خصوصية جمالية حقيقية تجلت فى مشاريعه الإبداعية المختلفة مثل الرفاعى وحكايات الغريب، وغيرهما، حيث وظف الغيطانى فترة عمله مراسلا حربيا على الجبهة المصرية فى أدبه توظيفا دالا، وبدا مدافعا عن الوطن ومقولاته وقضاياه الكبرى. فى معية القيمة الكبرى نجيب محفوظ كتب الغيطانى المجالس المحفوظية، ومن أهم ما فيه حكى موضوعى وشفيف عن محاولة اغتيال صاحب نوبل عام 1994 على يد الجماعات المتطرفة، وفى مجابهة قوى الإسلام السياسى أيضا كان للغيطانى مواقف واضحة ضد التيارات الرجعية المتحالفة مع قوى الاستعمار الجديد، ومن أبرزها مشاركاته الفاعلة فى الثورة على حكم المرشد والتمهيد لثورة الثلاثين من يونيو. وعلى ضفاف السياق الموضوعى الذى حاولت الإشارة إليه هنا، فإن ثمة ظلالا إنسانية تحف علاقة الكاتب الراحل جمال الغيطانى بالثقافة والمثقفين، يصعب على أن أتجاهلها، فالغيطانى لم يكن محض أديب كبير، ولا روائى يملك مشروعا سرديا خلاقا فحسب، بل كان رجلا نبيلا، أسهم فى التكريس لعشرات الأسماء الإبداعية التى رفدت الإبداع والثقافة المصرية. ولا يمكن لى على الإطلاق أن أنسى أبدا مواقفه الداعمة لي، وحدبه الشديد على ما أكتب فى جريدة « أخبار الأدب» المصرية فى عز وهجها أيام توليه رئاسة تحريرها، كان جمال الغيطانى من فتح لى ولغيرى صفحات الجريدة محتفيا بما أكتبه من نقد أدبي، ومكثت حوالى خمس سنوات بدءا من 2002 وحتى 2007 أكتب المقالات النقدية هناك ، عن كتاب معظمهم من جيلي، ومن الأجيال الجديدة التى كان جمال يحتفى بها ويحضورها كثيرا، كنت وقتها معيدا ثم مدرسا مساعدا فى كلية الآداب، وفى الحقيقة كنت أحتفى كثيرا ولم أزل بدور النقد والناقد، ولم أكن من راغبى التحول القسرى إلى النقد بحكم الدراسة كما يفعل كثيرون للأسف الشديد، باختصار طرحتُ نفسى ناقدا أدبيا منذ الوهلة الأولى، ووجدت فى أخبار الأدب ترحيبا موضوعيا، وكانت ثمة سلسلة من الكتابات عما يسمى ب «الكتابة الجديدة»، أودعتها فيما بعد فى متن كتابى : الرواية المصرية: سؤال الحرية ومساءلة الاستبداد، وحينما هاجم أحد المدعين نجيب محفوظ فى الجريدة نفسها، كتبت مقالا شهيرا آنذاك أدافع فيه عن محفوظ، وأحلل ذهنية الفتى الغض الذى رأى أن الجلوس على الانترنت أفضل من قراءة أعمال محفوظ!، وذهبت حاملا المقال وقابلت الأستاذ جمال الذى كان نبيلا دوما وموضوعيا وراقيا، واحتفى بالمقال، وهاجمنى البعض، وانتصر لموقفى كثيرون وقتها، وأخذ الغيطانى جانبا من مقال منصف نشرته الدستور فى إصدارها الثانى لمعالجة هذه الأزمة، ووضع فى الهوامش عبارة الصوت الناقد، وكان يقول لى دائما: الشخص الخامل لا يلتفت إليه أحد، ولأنك وضعت قدمك على نحو صحيح فستجد بعض السهام، ومعها فى الاتجاه المعاكس كثير من المحبة. لن أنسى للأستاذ جمال دعمه المعنوى فى البدايات، ولا نصائحه الناضجة، وظللنا على المحبة حتى بعد أن بدأت الكتابة النقدية مع جريدة كبيرة ومؤثرة فى العالم العربى أعتز بها كثيرا ، كنا نلتقى على استحياء مرات قليلة فى مؤتمرات أو ندوات، من بينها مؤتمر الرواية فى المجلس الأعلى للثقافة عام 2010 وكان رئيسا للجلسة التى أتحدث فيها وقتها، وتكلمنا كثيرا بعد الندوة، وقال لى أتابع ما تكتبه وفخور بك، وأنا شكرته صادقا، لأننى اعتبرت نفسى مدينا لنزاهته. كان الغيطانى صلبا ومحاربا من طراز فريد، وربما سيزعج الخوض فى ذلك بعض الأصدقاء، لكنى فى الحقيقة كنت أرى الصواب فى جانبه فى كثير من الأحايين، وكان الغيطانى مثار حديث بينى وبين العم الأنبل صديقى الكاتب الراحل الفذ محمد البساطي، حين يحكى لى عم محمد عما قاله مع الأستاذ جمال يوم الجمعة، فى المكالمة التى ظلت عنوانا على صداقة حقيقية بينهما. فى الحقيقة بموت جمال ينقضى زمن ما، وعصر ما، لكنى أثق فى قدرة نصه الأدبى على البقاء، وأثق فى محبة كل من دعمهم له. رحم الله كاتبنا الكبير جمال الغيطانى صاحب الموقف والمشروع والقيمة الإبداعية والإنسانية النبيلة. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله