«جئنا إلى الدنيا وسنمضي عنها، وسنترك آخرين يأملون في قدوم الأيام السعيدة» فى الساعات الأولى من صباح الأحد الماضي، استيقظنا على خبر رحيل صاحب هذه الكلمات الكاتب الكبير جمال الغيطاني، الذى نعى أمه قائلًا: «فى أى يوم سيكون مختتمي؟ لا تدري نفس ماذا تكسب غدًا، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، أمي ودعت أبي، وأنا أعيش وداعها، فمن سيسعى في إثري، من سيشيعني، وأي لحظات دامعة سيذكرها ولدي و ابنتي أو امرأتي إذا لم أقض غريبًا، وشهدوا ذهابي، وعلى أي مشهد سأغمض مقلتي إلى الأبد؟ أي موقف سيبرق من الماضي بينما العتمة تهوى عليًّ». رحل عنا بجسده فقط لكن بقيت كتاباته ورواياته تتحدث عنه، انتمى إلى جيل من الروائيين وكتاب القصة المصريين الذين بزغوا بعد هزيمة عام 1967، مشكلين موجة جديدة في السرد، ترك للثقافة المصرية والعربية أكثر من 50 كتابًا فما بين أول قصة قصيرة كتبها عام 1959 بعنوان «نهاية السكير» ومجموعته القصصية «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» كتب الغيطاني ما يقرب على خمسين قصة قصيرة، ثم اتجه إلى الكتابة الروائية. «الغيطاني» هو جمال أحمد الغيطاني، ولد في التاسع من مايو عام 1945، في مركز جهينة، أحد مراكز محافظة سوهاج ضمن صعيد مصر، تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة عبد الرحمن كتخدا، وأكمله في مدرسة الجمالية الابتدائية، وفي عام 1959 أنهى الإعدادية من مدرسة محمد علي الإعدادية، ثم التحق بمدرسة الفنون والصنائع بالعباسية. استطاع «الغيطاني» أن يعمل كرسام في المؤسسة المصرية العامة للتعاون الإنتاجي عام 1963، استمر بالعمل مع المؤسسة إلى عام 1965، تم اعتقاله في أكتوبر 1966 على خلفيات سياسية، وأطلق سراحه في مارس 1967، حيث عمل سكرتيرًا للجمعية التعاونية المصرية لصناع وفناني خان الخليلي وذلك إلى عام 1969. في عام 1969، استبدل عمله ليصبح مراسلًا حربيًّا في جبهات القتال، وذلك لحساب مؤسسة أخبار اليوم، وفي عام 1974 انتقل للعمل في قسم التحقيقات الصحفية، وبعد 11 عامًا وتحديدًا عام 1985، تمت ترقيته ليصبح رئيسًا للقسم الأدبي بأخبار اليوم، ثم أصبح رئيسًا لتحرير «كتاب اليوم»، ثم رئيسًا لتحرير أخبار الأدب في إصدارها الأول عام 1993. «الزيني بركات» كتب «الغيطاني»، روايته «الزيني بركات» لتُصبح من أقوى الروايات في الأدب العربي للقرن العشرين التي ناقشت مبدأ «البصاصين» أو «العصفور» بدايةً من المنزل مرورًا بالمدرسة والجامعة والعمل، لكن في الفترة المملوكية التي وجدها الكاتب تشبه فترة الستينيات التي كثرت فيها شخصية العصفورة، شخصية «بركات بن موسى» الملقب بالزيني وبطل الرواية، كان شخصية حقيقية رآها «الغيطاني» في كتاب بدائع الزهور في وقائع الدهور للمؤرخ ابن إياس. لم تكن الرواية هي وليد الصدفة، فقد جاءت لعوامل عدة، أهمها حسبما قال الكاتب جمال الغيطاني، تجربة معاناة القهر البوليسي ووجود عنصر «العصفورة» بشكل دائم وظاهر في الجامعات، خاصةً لحذر أنشطة طلابها ومتابعتها خلال فترة الستينيات، وبعد تجربة الزعيم جمال عبد الناصر التي هدفت إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وأحلام البسطاء، فكانت تلك الرواية كلمة حق من أحد جيل الستينيات لتكون علامة في تلك الحقبة الزمنية. حكاياته اتخذ «الغيطاني» لغة سردية، وعاد إلى التاريخ والتراث ينهل منه حكاياته، وارتبط بعلاقة وثيقة مع المعلم الأكبر للرواية المصرية والعربية نجيب محفوظ فإن أسماء الأماكن ذاتها قد تتردد في أعمال ونصوص الكاتبين مع اختلاف المعالجات؛ نظرًا لأن الكاتبين معًا وقعا في هوي القاهرة المعزية والوله والهيام بحي الحسين، كما أنهما يشتركان معًا في صفة الانضباط والانصياع لنظام في الحياة. وهكذا يمكن للقارئ أن يرى في كتابات ونصوص نجيب محفوظ وجمال الغيطاني أسماء أماكن مثل قصر الشوق والغورية وخان الخليلي وشارع المعز وخوش قدم حيث تشكلت ظاهرة «الشيخ إمام أحمد فؤاد نجم »، أو هذا المزيج العبقري المصري بين المطرب والشاعر الراحلين والخالدين في الثقافة المصرية فيما يصف جمال الغيطاني هذه الظاهرة بأنها: «حدث عجيب دبرته الأقدار» و«صارت رمزًا على حقبة ودلالة على روح جديدة رغم هزيمة الخامس من يونيو 1967»، تحدث «الغيطاني» فى «كتاب التجليات» عن الفرح والحزن والفراق واللقاء، لكن الموت كان له نصيب كبير، رأى أن وفاة أمه كانت المرحلة الفاصلة فى حياته، وكان يرى أن الموت مرحلة لبدء جديد، وسكة مغيرة. حاز على العديد من الجوائز المحلية والعالمية، منها جائزة الدولة التشجيعية للرواية عام 1980، جائزة سلطان بن على العويس عام 1997، وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وسام الاستحقاق الفرنسى من طبقة فارس عام 1987، وجائزة لورباتليو لأفضل عمل أدبى مترجم إلى الفرنسية عن روايته التجليات مشاركة مع المترجم خالد عثمان فى 19 نوفمبر 2005، بالإضافة لجائزة الدولة التقديرية عام 2007 والتى رشحته لها جامعة سوهاج، وتشرفت الجائزة بقيمة الكاتب الكبير، كما حصل على جائزة النيل عام 2014. أبرز أعماله له عدد كبير من الأعمال الروائية منها «أوراق شاب عاش منذ ألف عام، الزويل، حراس البوابة الشرقية، متون الأهرام، سفر البنيان، خلسات الكرى، الزينى بركات، التي تحولت لعمل درامى، الرفاعي، رشحات الحمراء، المجالس المحفوظية، أيام الحصر، مقاربة الأبد، خطط الغيطاني، وقائع حارة الطبلاوي، هاتف المغيب، توفيق الحكيم يتذكر، نجيب محفوظ يتذكر، أسفار المشتاق» وغيرهم الكثير. كما تُرجم عدد من روايته إلى الألمانية والفرنسية مثل «الزيني بركات، وقائع حارة الزعفراني، رسالة البصائر والمصائر، سطح المدينة، متون الأهرام، حكايات المؤسسة، التجليات بأجزائها الثلاثة فى مجلد واحد». من الصعب وضع رائد الكتابة العربية في إطار ضيق، هو ليس فقط الروائي، والصحفي، والمفكر، والسياسي، والمثقف الكبير، وعاشق الموسيقى، والفن التشكيلي، هو كل هؤلاء، عجينة متفردة، هو منقال إن الإنسان يحاول مقاومة الزمن بالإبداع أو الكتابة التي تبقى حتى بعد فناء صاحبها، معبرًا عن انشغاله بفكرة الأبدية وسؤال «لماذا يمكن مقاومة أي شيء ما عدا الزمن؟».