لا أدرى لماذا يفتح السفر مسام الدماغ على أفكار لا يجود بها المخ فى القاهرة. أثناء جلوسى على دكة خشبية مواجهة للمحيط فى نيويورك غفوت بسبب الإرهاق والنسيم العليل، فحلمت حلما شديد الغرابة أرجو أن تتسع له صدوركم. رأيت نفسى فى قرية صغيرة فى إحدى الجزر اليونانية، ولم أكن نفسى التى أعرفها لكنى كنت شخصا آخر يقوم بدور قسيس القرية. لا أدرى لماذا راودنى هذا الحلم، ولماذا لم أحلم بأن أكون البابا فى روما أو أكون أحد الكرادلة فى كنيسة كبيرة مثل نوتردام فى باريس أو شتيفنبلاتز فى النمسا مثلا طالما أن الأمر لا يتعدى نطاق الأحلام؟. أعتقد أن العقل الباطن الذى يشتغل دون إذن منا أحس بأن الأفكار المتعلقة بكتابة القصص والروايات قد تقلصت، لهذا فقد رأى أن وظيفة كهذه أو دعنا نقول دورا روحيا كهذا يجعل المرء محل ثقة سكان القرية جميعا، وهم على قلتهم فإن معظمهم يرتادون الكنيسة خاصة فى مجتمع أرثوذكسى محافظ مثل اليونان بأريافها وجزرها الصغيرة. ويعود حب الناس فى القرى الصغيرة لكاهن القرية إلى أنه لا يحاكم ولا يلوم، لكن يلتمس الأعذار ويحنو على الضعف الإنسانى ويكتم الأسرار. هالنى فى الحلم كنز القصص والحكايات التى تهاطلت علىّ كالمطر فى طقس الاعتراف الذى يتخفف فيه الناس من الآثام التى ارتكبوها مؤخرا، وبذلك يستطيعون الخروج بنفوس صافية حتى يتمكنوا من ارتكاب آثام جديدة.! كان الحلم مثيرا للغاية وكشف لى أسرار القرية كلها.. كل الناس وضعت أثقالها على أعتابى مطمئنين أن السر فى بير وأنه مهما كان ما يعترفون به فمن المستحيل أن يطلّع عليه مخلوق ولو وضعوا السكين على رقبتى. هى أمانة، وقد حملتها فى الحلم واستمعت إلى عشرات الحكايات بعضها ثقيل عنيف والبعض الآخر خفيف هين وأغلبها من النوع المتوسط. تذكرت فى الحلم الفيلم الشهير لألفريد هتشكوك «اعتراف» الذى قام ببطولته وأدّى فيه دور القسيس الفنان «مونتجومرى كليفت» حينما أتاه أحد المجرمين للاعتراف مباشرة بعد ارتكابه لجريمة قتل. يعرض الفيلم حيرة رجل الدين وهو يرى بريئا يُحاكم ويوشك أن يساق إلى الإعدام، بينما هو لا يستطيع أن يخون شرفه ويبوح للسلطات بما يعرفه عن القاتل الحقيقى. انزعجت فى الحلم من مرور هذا الطيف على خاطرى لأننى كنت أريد من أهل القرية أن يطلعونى على أسرار مثيرة لكن دون توريطى فى التستر على مجرمين جنائيين. وبالفعل لم يبخل علىّ الرعية من زوار الكنيسة بالاعترافات الدرامية التى تفيد فى كتابة الأعمال الأدبية، فمنهم من قص علىّ رحلته مع تفريغ جيوب والده من الفكة بعد أن يعود سكرانا فى الليل، ومنهم من جاء باكيا لأنه اضطر أن يغش فى امتحان البكالوريا ويستخرج البرشام الذى أعده ليلة الامتحان، كما أن أحد المزارعين روى لى كيف عزم جاره على العشاء وذبح له وزة طبخها مع بطاطس وأرز، لكن المشكلة أنها لم تكن وزته لكن وزة جاره العجوز تسيميكاس. لا أدرى لماذا اختار هذا اللص فى الحلم أن يكون الجار الضحية اسمه تسيميكاس وهو نفس اسم اللاعب اليونانى فى فريق ليفربول. مر بخيالى خاطر مزعج هو أن يقوم أحد المعترفين فى الحلم بإدخال اسم محمد صلاح فى أى موضوع يتعلق بآثام ارتكبوها!. بعد ذلك تتصاعد دراما الاعترافات عندما ندخل فى قصص الخيانة الزوجية وكيف قام الراوى بالإقرار بأنه تعرف على امرأة من الغجر كانت تزور القرية لقراءة الكف وبيع بعض المشغولات اليدوية ثم تطور الأمر بينهما لدرجة العلاقة الآثمة، وأذكر أننى نهرته فى الحلم عندما أراد أن يقص علىّ تفاصيل ما حدث بينهما وقلت إننى أريد الخلاصة ولا أريده أن يغرقنى معه فى فيلم بورنو!. الغريب أن المرأة الغجرية أتت أيضا للاعتراف وحكت قصة مختلفة، وهو الأمر الذى سبب لى ارتباكا.. أتراه كان يكذب حين اعترف أمامى وهو ذنب عظيم لا يفعله سوى مختل، أم أن هذه المرأة هى غجرية أخرى تحكى عن رجل آخر؟. عموما هذا الموقف يصلح لمعالجته دراميا فى رواية أو مسرحية. هناك أيضا أحد الشباب الذى باح بقيامه ومجموعة من أصدقائه باستئجار غرفة فى قرية مجاورة ليدخنوا الحشيش بعيدا عن رقابة الأهل. وجدت نفسى محتارا فى الحلم مع هذا الشاب لأن تدخين الحشيش طبقا لبعض الفقهاء لا غبار عليه بينما المشكلة كلها فى الخمر!. عند هذا الحد انتبهت من النوم بعد أن أوغل الحلم فى مناطق عبثية من اللامعقول، لأننى مزجت دون قصد منى بين كونى قسيس قرية جريجية وبين كونى شيخا فى زاوية فى الريف المصرى!. طبعاً آخر ما يلزمنى هنا أن يخرج أحد الأشخاص معترضا لأننى أتحدث فى الدين وأتناول شخصية رجل دين يسمع الاعترافات، والحقيقة أن احترامى لكل الأديان والعقائد لا يحتاج لشرح، لكن هذا الحلم قدم لى أفكارا للدراما لا يستطيع القس الحقيقى أن يستفيد منها، بينما يستطيع كاتب أن يعيش عليها ردحا من الزمن.