أدرك المثقفون العرب بعد حرب حزيران أيضاً أن العودة إلى الجذور ضرورية ليس من أجل الانغلاق على الذات وتقديس الأجداد وتمجيد الماضى والحنين الرومانسى إلى إعادته، بل لمساءلة الذات من خلال مساءلة الماضى والوقوف على الخصائص المميزة والهوية الخاصة من أجل مواجهة الاغتراب الثقافى وتعالى النخبة على الواقع من خلال انتقائيتها لأحداث التاريخ فى محاولة لصياغة هوية روائية عربية. وقد مهد لظاهرة توظيف التراث فى الرواية العربية المعاصرة ما بذله بعض النقاد والباحثين من جهود للعودة بالرواية العربية إلى تلك الأصول والجذور التراثية بدلاً من ربطها بالرواية الغربية، وقد وجد هؤلاء الباحثون أن كتب التراث تنطوى على ألوان كثيرة من القصص كالقص الدينى والقص البطولى وقصص الفرسان والقص الإخبارى والمقامات والقص الفلسفى.لم يحظ كتاب قديم بالاهتمام والتقدير الذى حظيت بهما حكايات ألف ليلة وليلة التى تبوأت مكانة مرموقة فى سلم الأدب العالمى وأثرت فى كثير من الأعمال الفنية فى العصر الحديث وتأسست عليها أعمال إبداعية كثيرة فى المسرح والرواية والموسيقى. وتعد الدكتورة «نبيلة إبراهيم» والكاتب «فاروق خورشيد» أبرز الرواد فى دراسة التراث السردى ربما كانت العلة الكبرى فى دراسة العلاقة بين الرواية والتراث هى (وهم معارضة الأصل). فَتَحتَ وطأة سحر ذلك الأصل التراثى برزت الواقعة أو الشخصية أو المقتطف أو اللغة أو الأسلوبية كزينة خارجية استعراضية. وتحت وطأة الحاضر برز البحث عن الحكمة والأمثولة والعبرة فى الماضى، فراراً من الحاضر. استلهام التراث فى الرواية العربية المعاصرة مر بمرحلتين مهمتين؛ تكمن الأولى فى التعامل الساذج لهذا التراث عبر توظيفه بطريقة غايتها إثارة التشويق والتعليم، والثانية استطاعت هضم هذا التراث وكيفته حسب الوعى الجمالى الذى تنطلق منه مما أدى إلى تحقيق تفاعل بناء ومتميز بين الرواية والتراث. لقد أظهرت جهود المبدعين الروائيين العرب أنّ ثمة رغبة شديدة وطموحًا كبيرًا لإبداع رواية تاريخية حقيقية حداثية، بعد أن حاول الروائيون الأوائل أمثال جرجى زيدان ثم نجيب محفوظ وضع أسس هذا النوع من الكتابات، وقد تعزز هذا المسعى أكثر فى أواخر القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة مع أسماء بارزة فى المشرق العربى، كما فى مغربه مثل: عبدالرحمن منيف وبنسالم حميش وواسينى الأعرج وغيرهم، لا سيما إذا أضفنا معرفة هؤلاء الروائيين بأحدث تقنيات الرواية الجديدة وبأبرز إجراءات مناهج النقد المعاصر، الأمر الذى يسهل على المبدع التعامل الذكى والواعى مع المادة التاريخية، أى ما هى النقاط أو العناصر المهمة فى تاريخ المجتمع التى يجب أن يسلط الروائى عليها الضوء لتكون درسًا للحاضر المتأزم فكريًا وسياسيًا، ومن ثم تستشرف آفاقًا جديدة مرتقبة قد تغيّر حياة الأجيال القادمة. فالتاريخ كمادة والرواية كفن يشتركان فى تقنية مهمة هى تقنية السرد أو الحكى، فأضحى علمًا قائمًا ومع ذلك تتميز الرواية بتقنيات فنية أخرى أصبحت تمثل مركز اهتمام الباحثين والنقاد والقراء من ذوى الاختصاص. ويرجع اتصال الرواية العربية إلى أواخر القرن التاسع عشر، حيث عمد الروائيون الأوائل إلى مراعاة ذوق القراء الذين كانوا من أنصاف المثقفين والذين وجدوا فى أعمال هؤلاء الكتاب ما يمتعهم ويسليهم، بوصفها بديلاً للمؤلفات الشعبية التى عاشت فى وجدانهم فترة طويلة من الزمن. فخضعت الأحداث للمغامرات والغرائب والعجائب والمصادفات والاستطراد والتوسل بالحيل لبلوغ الغايات ، والاستشهاد بالشعر، وتأثرت الشخصيات بشخوص ألف ليلة وليلة، فبدت إما خيرة وإما شريرة لا يؤثر فيها الزمن ولا البيئة من هذه الروايات رواية «ليالى ألف ليلة «لنجيب محفوظ ورواية «ألف ليلة وليلتان» لهانى الراهب، وفاجعة الليلة السابعة بعد الألف لواسينى الأعرج وغيرها كثير. وقد تعددت طرائق الروائيين فى توظيف «ألف ليلة وليلة» فبعضهم أقام بناء روايته على بناء ألف ليلة وليلة ووظفها بشكل كلى وبعضهم ضمن روايته حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة فى حين اكتفى بعض الروائيين بالإشارة إلى بعض الصور والموضوعات. وإذا كانت البدايات الأولى قد أدت إلى تدشين مشروع الرواية العربية، بروايات تاريخية، لجرجى زيدان وسليم البستانى وفرح أنطون وصولا إلى مرحلة نجيب محفوظ، فإن الرواية العربية الجديدة تظل شكلًا إبداعيًا على نحو خاص. لأنه كما يرى إبراهيم السعافين، يتفاعل بالمكتوب الروائى العربى ويحتفظ بشكله وبنائه داخل أساليب السرد. فبدأت تظهر حسب ما يرى محمد برادة، كتابات روائية جديدة تتميز بحساسية مغايرة للحساسية الرومانسية والواقعية والمثالية التى طبعت أعمال الرواد والمؤسسين، ستعرف - على أثرها - الرواية العربية تحولات مختلفة. فعلى مستوى الدلالة، برزت تيمات يتداخل فيها الموضوعى والذاتى. من أهمها: جحيم المدينة، تمزق الذات، الهوية فى مواجهة الآخر، التمرد والاحتجاج، تجارب الحب والجنس. كما أصبح التعامل مع التراث، يجرى بشكل مخالف لما تناوله به الأوائل. وفى هذا الإطار نلتقى بتجارب كل من عبدالرحمن منيف، حيدر حيدر وغيرهما. دشن نجيب محفوظ مسار الإنتاج الروائى العربى، واستطاع أن يؤسس بناءها الفنى، بدأت مرحلة جديدة. ففى فترة تاريخية معينة ذات خصوصيات واضحة استطاعت الرواية - كشكل أدبى مستحدث - أن تنشأ وتتطور عبر كثير من التجارب. إلا أن ثمة عوامل أخرى ساعدت على ظهور ما اصطلح على تسميته بالرواية الجديدة. هذه الأخيرة التى عرفت تحويرات فى مضامينها وأشكالها. بالمقارنة مع الشكل الروائى السابق. فالرواية العربية الحديثة، قد خرجت عن نمطها الكلاسيكى. والمتمثل أساسا، فى الرواية التعليمية، المترجمة، الرومانسية والواقعية، لتصبح ضمن الإطار العام، حاملة لخلفية فكرية وراء عمليتها الإبداعية. الرواية ذات الحساسية الجديدة لم توظف ذلك توظيفا ساذجا، بقدر ما رامت الاشتغال العميق على البنيات اللغوية والأسلوبية التراثية لتفجير طاقات المعانى والدلالات، ومن أبرز ممثلى هذا الاتجاه جمال الغيطانى الذى كان له قصب السبق فى استرفاد ماهو تاريخى وفكرى وثقافى ودينى فى الرواية، مخصّبا النص ومُثَوِّرَهُ بشحنات دلالية جديدة بنيات مستحدثة، وقد تميز بهذا التجاوب العميق مع ما هو تراثى كزخم لإعطاء الكتابة الروائية حيوية وحركية على مستوى البنى والدلالات؛ حيث يمتزج الغريب بالواقعى فى سبك محكم وأصيل؛ مثل ثلاثية غرناطة رضوى عاشور، ومجنون الحكم للمغربى بنسالم حميش، وليال عربية لخيرى الذهبى، ورواية يقين العطش لإدوار الخراط. ففى «الزينى بركات» وغيرها يستوحى الأساليب التراثية والتراكيب التعبيرية التى كان يوظفها مؤرخو العهد المملوكى، وعلى رأسهم ابن إياس فى «بدائع الزهور» حيث حاكاه الغيطانى ولكن تميز عنه آخذين بعين الاعتبار أن « ابن إياس» يسرد أحداثه على وجه السرعة دون تطويل أو حشو، بينما الغيطانى يتناول جزئيات الحدث الواقعة ويضيف إليها أبعادًا معاصرة، فيطول وصفه وسرده لهذه الحادثة، مما يؤدى إلى طول الجمل والعبارات. لقد استطاع جمال الغيطانى أن يعيد تشكيل المعطى التاريخى وفق تصور يمزج الأساليب التراثية لخلق طرائق سرد محدثة تروم تحقيق رواية واقعية تعيد الاعتبار من جديد للنبالة اللسانية من خلال تركيب الجمل النصية السردية، والتعامل مع المعجم حيث نلاحظ إحياء حادًا لمفردات المعجم العتيق، وإعادة الاعتبار للصياغة اللسانية التراثية، والأساليب البلاغية المعتمدة فى ذلك من سجع وترادف موازنة وإطناب» وبالتالى فهو يزاوج بين الشكل التقليدى والشكل الجديد ليعطى للرواية بعدها المعاصر، موظفا لغة سردية تراثية وصوفية كما واضح فى روايتيه «رسالة الصبابة والوجد» و«كتاب التجليات» حيث النسق الأسلوبى التراثى حاضر بقوة؛ مما يدفعنا إلى القول إن النص يشيد أفق كتابة روائية مسكونة بهاجس المغامرة والفرادة فى خلخلة الحداثة الروائية العربية المعاصرة، ويطرح أسئلة جديدة بالنسبة إلى هذه الحداثة من حيث التخلص من الإحساس الداخلى بسيطرة المقاييس المتمثلة فى الرواية الكلاسيكية أو الروايات التى كتبت فى أوروبا وأمريكا فى إطار موجات التجديد المنبثقة من هذه الأشكال ونفس الأمر ينسحب على كتابات الروائى إميل حبيبى التى تتسم بإيغالها فى النهل من التراث من أجل تأصيل التجربة التى تراهن على التحديث؛ فالاسترفاد من التراث منطلقه الوعى العميق بالدور الفعال، الذى يلعبه المتن التراثى فى إخصاب النص الروائى المعاصر. وإثراء الجوانب التخيلية واللغوية، لذا فهو يوظف كل الإمكانات الأسلوبية المتمثلة فى الحكايات الشعبية والأمثال والحكم الدالة التى بمستطاعها إضافة الجدّة على بنية النص السردى؛ فرواية «المتشائل» يمكن عدُّها مرآة تنجلى عليها هذه الأوصاف التعبيرية كفن المقامة، من خلال الاعتماد على المحسنات البديعية كالسجع والطباق إضافة إلى العنعنة والأشعار والأمثال، وكذلك التلاعب بالعبارات وفسح المجال للشعر والخرافة والرحلة وألف ليلة وليلة؛ ليمنح النص طابعه الساخر المُتَفَكّه، وهذا ينطبق أيضا على رواياته «سرايا بنت الغول» و«سداسية الأيام الستة». وفى نفس السياق تندرج تجربة الطيب صالح فى روايته «بندر شاه» التى تعتبر نصًا يتفاعل مع النص التراثى تفاعلًا إيجابيًا يزيد من فاعلية آليات السرد؛ فالروائى يحاول قدر الإمكان استثمار كل التعابير التراثية بأسلوب منفتح على النص الكلاسيكى والنصوص الشفوية والسردية، مما حقق حوارًا متفاعلًا بين نصوص مختلفة صوفية وعجائبية فى السردية العربية وشفوية ضاربة فى الموروث الشعبى السودانى الشىء الذى يكشف «أننا بصدد نص يتناص مع النص الكلاسيكى العربى ويتفاعل معه، لا ينصاع له، ولا يتركه يمارس عليه سلطته الاستبدادية، بل يخضعه للتحويل بجعله يتداخل مع نصوص بنوعيات مغايرة مثلما يخضعه للتوظيف بحيث لا يستحضر هذا النص تقديسًا له بقدرما يوظفه لخدمة استراتيجية النص الجديد.