تستهوينى فكرة العودة إلى (التاريخ) فى تفسير (وقائع الحاضر)، وهذا ما فعلته لمحاولة فهم حقيقة التقارير العديدة، عن (طلاق بائن) أو حتى (صدود ونفور) بلغة المحبين، بين سيد البيت الأبيض رونالد ترامب ورجل إسرائيل القوى بنيامين نتنياهو، والتى كشفت لى أن هناك (ثوابت) (ومتغيرات)، فى العلاقة العضوية بين واشنطن وتل أبيب، منذ هارى ترومان الرئيس ال 33 لأمريكا، والذى تصادف وجوده إعلان دولة إسرائيل، وكان أول من أعلن الاعتراف بها، وخلال تلك الفترة، توالى على حكم أمريكا 14 رئيسًا، آخرهم ترامب فى دورته الثانية، منهم من ينتمى للحزب الجمهورى مثل ريجان، والديمقراطى مثل أوباما، و(الثابت الوحيد) طوال تلك الحقب، أن العلاقات بين البلدين مبنية على قاعدة أساسية، هى أن أمريكا أهم حليف وداعم لإسرائيل، وتضمن تفوقها عسكريًا، وتتبنى مواقفها السياسية، كما أن واشنطن ترى فى تل أبيب حجر الزاوية فى سياستها فى منطقة الشرق الأوسط، أما (المتغير) والذى يتمثل فى وجود (سحابة صيف) فى سماء العلاقات سرعان ما تمر. وتتعدد النماذج على ذلك، أتوقف عند بعضها، الرئيس أيزنهاور اعترض على العدوان الثلاثى على مصر عام 1956، وأجبر إسرائيل على الانسحاب من سيناء، لتحقيق هدف وراثة دول الاستعمار القديم بريطانيا وفرنسا فى منطقة الشرق الأوسط، ريجان علق توريد أسلحة وقنابل عنقودية لإسرائيل، وعارض دخول جيش الاحتلال إلى العاصمة اللبنانية بيروت يونيو 1982، كارتر اعترض على استمرار جهود الاستيطان الإسرائيلى نتيجة هجرة اليهود الروس، بعد تفكك الاتحاد السوفيتى القديم، أما جورج بوش الأب، فقد علق ضمانات قروض ب 10 مليارات دولار، لوقف بناء المستوطنات، وأخرهم بايدن نفسه، والذى قام بتعليق تسليم الجيش الإسرائيلى بعض الأسلحة والقنابل، فى مايو من العام الماضى والأمثلة الأخرى عديدة. وعلينا ألا ننسى، ونحن نتحدث عن الأزمة الأخيرة فى العلاقات بين ترامب ونتنياهو، ضرورة رصد هدايا ترامب لإسرائيل خلال المائة يوم الأولى من رئاسته، آخرها الإفراج عن كل صفقات الأسلحة التى جمدها بايدن، وكذلك فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية بعد إصدارها مذكرة توقيف دولية بحق نتنياهو، وإلغاء فرض عقوبات طالت الآلاف من المستوطنين اليهود، استخدم اسم يهودا والسامرة على الضفة الغربية، وهو الاسم التوراتى لها، يضاف إلى ذلك سجل دعمه فى ولايته الأولى والتى استمرت حتى عام 2020، حيث نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، واعترف بسيادة إسرائيل على الجولان، وأقر حق إسرائيل فى توسيع الاستيطان. وفى هذا الإطار فقط، يمكن فهم طبيعة الخلافات الأخيرة بين الرجلين، وهناك مؤشرات عديدة لذلك، ومنها رؤية أمريكا للوضع فى قطاع غزة، وفتح حوار مع حماس، والاتفاق مع جماعة الحوثى على وقف الهجمات الجوية عليها، دون التشاور مع تل أبيب، أو اشتراط وقف استهداف إسرائيل، والإقرار بدور رئيسى لتركيا فى سوريا، ولعل ملف المفاوضات مع إيران هو الأهم، حيث بدأت فى 12 أبريل الماضى، وتفاجأ بها نتنياهو، الذى تم استدعاؤه إلى البيت الأبيض بشكل مذل، فى نفس التوقيت الذى كان يمنى نفسه بالحصول على إذن أمريكى، بالتشارك فى الهجوم عليها، أو السماح له بخوض الجولة بنفسه، فى ظل رؤية تقول إنها فرصة نادرة فى هذا التوقيت،، بل إن رئيس الأركان ايال أزمير، حدد عندما تولى مهمته، عام 2025 بعام المواجهة مع إيران. ودعونا نتفق على أن هناك تغييرًا مهمًا، لدى الطرفين الإيرانى والأمريكى، ساعدهما فى الوصول إلى منتصف الطريق، ويكفى أن نشير إلى أن ترامب هو فى ولايته الأولى وفى عام 2018 هو من انسحب من الاتفاق النووى، وأعاد فرض العقوبات، ومارس سياسة الضغوط القصوى، بينما انحاز هذه المرة إلى التفاوض بواسطة عمانية، وقدم (الجزرة بدل العصا) وأوقف التلويح بالحرب، إيران أيضًا تغيرت، من الرفض والحظر المطلق، من آيه الله على خامنئى للحوار مع أمريكا، ورفض تقديم التنازلات تحت الضغط، إلى الاقتناع برؤية الرئيس الإصلاحى مسعود بزشكيان، من أن إيران ستواجه خطرًا كارثيًا، بدون الدخول فى الحوار، والتى يتمثل فى حرب كبرى، واضطرابات داخلية، وفرص سقوط النظام بأسره، خاصة مع الأزمة الاقتصادية، ويستشعر نتنياهو بالأزمة، خاصة أن حلفاءه يضغطون عليه باتجاه السير فى التصعيد ضد إيران، وتجاهل مواقف ترامب، والذى قد يطلب منها ما لا تتحمله، ومنهم وزير الدفاع، الذى هدد طهران بمصير حماس، وطالب بالذهاب إلى الهجوم الفورى على إيران، مع قناعة لدى النخب الإسرائيلية بغياب قدرتها على الدفاع عن نفسها بشكل منفرد بشكل عام، فماذا عن مواجهة مع إيران؟، والتى تحتاج موارد واستعدادات ضخمة، وتحديًا لوجستيًا، وأى ضربة لمشروعها النووى لن يقضى عليه، ولكنه قد يؤخره عامًا أو أكثر. الخلاصة تتمثل، فى أن الأزمة الأخيرة مع نتنياهو وحكومته، وليس مع إسرائيل، رغم أنهم على قناعة، على أنه أفضل صديق لإسرائيل، وتقر بعض النخب الإسرائيلية بأنه الأقرب منذ هارى ترومان، ولكنه غير مستقر، ولا يمكن الاعتماد عليه، مثلما ما قال مايكل أورن سفير إسرائيل السابق فى واشنطن، كما أنه يعمل وفقًا لمبدأ يتبناه، وأعلنه منذ يومه الأول، وشعاره (أمريكا أولا)، مع ذلك فالخلافات ليست بالعمق، ولا بالتأثير الذى يروج له البعض، ولا يمثل تغييرًا دراماتيكيًا فى طبيعة العلاقة، والأسس التى بنيت عليها، وقد يكون الأمر، مرتبطًا بأبعاد تتعلق بطبيعة شخصية كلٍ منهما، ونظرته إلى نفسه، بين (النرجسية) عند نتنياهو، والإحساس (بالعظمة) لدى ترامب، والحل قد يكون فى تشجيع ومساهمة الإدارة الأمريكية، على إسقاط نتنياهو وتحالفه اليمينى المتطرف، وهناك عوامل داخلية تساعد فى ذلك، والتعامل مع حكومة إسرائيل جديدة، تتماهى مع مشروع ترامب للمنطقة، دون المساس بأسس العلاقة العضوية بين الجانبين، أو (الزواج الكاثوليكى بدون طلاق) الذى يحميه ويرعاها اللوبى اليهودى، ومكونات الدولة العميقة فى أمريكا.