أحمد الزناتى أثق فى ذوق بيتر هاندكه؛ فهو قارئ نهم ذو ثقافة موسوعية، وأثق فى اختياراته عندما يترجم. عرفتُ اسم ووكر بيرسى من هاندكه، حيث ترجَم له الأخير روايتين. الأولى هى Moviegoer، وهى رواية بيرسى الأولى، ثم رواية The Last Gentleman، ويشير النقاد إلى أن بيرسى مارس تأثيرًا قويًا فى تطور أدب هاندكه (راجع: Cecile Cazort Zorach – (South Atlantic Review. ووكر بيرسى (1916- 1990)، الذى تحلّ ذكرى وفاته الخامسة والثلاثين فى العاشر من مايو الجاري، كاتب أمريكى بارز، هجر الطب إلى عالم الأدب بعد إصابته بالسل. نشأ فى جنوبالولاياتالمتحدة، أثَّرتْ خلفيته الكاثوليكية المتدينة، وأفكار دوستويفسكى وكيركجارد فى تكوين رؤيته الكلية للعالم. تنتمى روايته الأولى Moviegoer، إلى السلالة الأدبية التى يحبّها هاندكه، ومن قبله روبرت فالزر، وهيرمان هسّه، ويوزيف فون أيشيندورف، وربما لو ترجمتُ العنوان لابتعدت عن الأصل، واستعرت ترجمة عبد الرحمن بدوى (من حياة حائر بائر)، فبطل رواية بيرسى شاب اسمه جاك بنكس، يعمل سمسار أسهم فى نيوأورلينز، شاب حائر بائر، ضاجر من حياته، باحثٌ عن الخلاص، فيقرر الهروب من حياته اليومية المقيّدة، ويبدأ رحلة بحث عن نفسه وعن الله، وهكذا، وبلا بوصلة يهيم البطل على وجهه (كأبطال روايات هسه، وهاندكه)، ويتأمل البشر والمواقف والأشياء من حوله. ربما يكون كتابه الذى سأسلِّط عليه الضوء هنا وهو تجربة غير سردية ممتعة، لا يقل إبداعًا عن مُنجزه الروائي؛ ففى عصر تتراكم فيه كتب التنمية الذاتية التى تَعِدُ القارئ بتحقيق ذاته واكتشاف إمكاناته، يأتى ووكر بيرسى ليقلب الطاولة على الجميع فى كتابه «ضائع فى هذا العالم: آخر كتاب مساعدة ذاتية». بأسلوبه الماكر الطافح بالسخرية يقدم بيرسى ما قد يبدو للوهلة الأولى كتاب مساعدة ذاتية، لكنه فى الحقيقة يسخر من هذا النوع من الكتب ويستخدمه كوسيلة لطرح أسئلة عميقة. يتناول الكتاب أزمة الإنسان الحديث الذى فقد بوصلته فى عالم معقد، رغم تقدمه العلمى والتقني، ويشعر بالضياع، والانفصال عن ذاته وعن الكون. صحيح أن فى الكتاب سخرية لاذعة من كُتب المساعدة الذاتية، ولكنه يطرح أيضًا أسئلة الذات والهوية التى تؤرق الإنسان الأمريكى المعاصر، والإنسان عمومًا (أو هكذا أظن). الكتاب ممتلئ بالاختبارات والتجارب الذهنية، ويتخذ فى بنيته الشكل التفاعلى لكتب المساعدة الذاتية المعتادة، غير أن أسئلته غريبة ومعقدة، وتجاربه الذهنية أشدَّ غرابة وإزعاجًا كما سنرى. لفت نظرى مثلًا سؤال: اشرح لماذا كان موسى [النبى عليه السلام] يتلعثم ويهاب التحدث أمام قومه، بينما لم يكن يجد صعوبة فى مناجاة الله؟). وهو سؤال ذكي، يكشف عن روحه الإيمانية العميقة. سأبدأ مباشرةً بالفصل الأول: الذات فاقدة الذاكرة، ونقرأ سؤال بيرسي: (لماذا ترغب النفس فى التخلّص من ذاتها؟ فى جميع المسلسلات الدرامية تقريبًا، وفى كثير من الأفلام والروايات، لا بد أن يُصاب أحد الشخصيات الرئيسية بفقدان الذاكرة ، عاجلًا أم آجلًا. إذ لا يُصاب المرء بالتهاب رئوي، أو السرطان، أو الفصام، لكنه يُصاب بفقدان الذاكرة. يجد نفسه (أو تجد نفسها) فى مكان غريب، وقد نسى كل ما يتعلق بماضيه: منزله، أسرته، أصدقاءه، عمله. ويبدأ حياة جديدة فى مكان جديد، مع حبيبة جديدة، ووظيفة جديدة. لكن بعد حين، وأثناء انخراطه فى حياته الجديدة، تبدأ بعض الإشارات فى الظهور، تلمّح إلى حياته القديمة. شخص غريب يوقفه فى الشارع ويناديه باسم غير مألوف. يتجسد أفضل استغلال لمتعة فقدان الذاكرة فى فيلم Spellbound لألفريد هيتشكوك، حيث يُصاب جريجورى بيك بفقدان الذاكرة، وكانت إنجريد بيرغمان طبيبته النفسية. فما سر هذا الانجذاب؟ ولماذا يشعر المشاهد بالارتياح حين يرى الشخصية تنفصل عن ماضيها؟) (انتهى الاقتباس). ليس الجواب عند بيرسى بسيطًا، فهو يرى أن فكرة فقدان الذاكرة ليست مجرد حبكة درامية، بل تجسيد لرغبة دفينة داخل الإنسان فى التخلص من ذاته التى لم يعد يطيقها. هنا تتكشف السخرية السوداء: فالإنسان المعاصر، بالرغم من امتلاك أدوات التحليل النفسي، والوعى الذاتي، والتقدم المعرفي، يعانى من غربة عن نفسه تجعله يحلم بنوع من «إعادة التشغيل»!!. ما أعجبنى فى الكتاب هو أن بيرسى يتوسع فى تفسير الظاهرة عبر طرح مجموعة من الأسئلة الساخرة التى تتنكر فى هيئة «اختبار تنمية ذاتية»، لكنها فى الحقيقة تعرّى أزمة الذات الحديثة. فيقول مثلًا: هل الشخصية الدرامية تفقد ذاكرتها لأن الكاتب (أو المشاهد) قد سأم من نفسه؟ هل فقدان الذاكرة مجرد حيلة نفسية جماعية للهروب من سأم الحياة اليومية؟ هنا يدخل بيرسى فى صلب الإشكال الفلسفي: هل الذات الحديثة—بوعيها الحاد وإدراكها المؤلم لفراغها—تصل إلى نقطة تصبح فيها رغبة الإنسان الأولى هى محو هويته ؟ وكأن الذات عوضًا أن تكون بؤرة المعنى، تصير العقبة التى تمنع تحقّق المعنى، وكلما زاد المرء من تسفيه هذه الأسئلة والسخرية منها، زادت مآسيه وكآبته وعقده النفسية. ولعل حُلم الهروب من الذات يتجلى اليوم فى هوس ب السوشيال ميديا، حيث يحاول الأفراد إعادة اختراع أنفسهم عبر صور مزيفة، لكنهم يجدون أنفسهم أكثر ضياعًا. لا يعيش بيرسى فى عصرنا، حيث تُمسخ هويات البشر واهتماماتهم كل يوم مع كل تريند جديد (مسلسل جديد، أو ملابس ممثلة، أو خناقة زوجية مُفتعلة لايف، إلخ). لو عاش الرجل فى عصرنا ربما لغيَّر عنوان كتابه من (ضائع فى الكون) إلى (ضائع فى التريندات!) سأنتقل إلى فصلٍ ثان بعنوان (شعور الذات بالنقص: لماذا تخضع أغلب النساء، وبعض الرجال لهيمنة الموضة؟) يقدم الفصل نقدًا لاذعًا لثقافة الاستهلاك، معتبرًا إياها تعبيرًا عن أزمة الذات البشرية. بدلاً من رؤية الموضة بوصفها تعبيرًا عن الإبداع أو الفردية، يصورها بيرسى بحسبانها آليةً يجرى من خلالها ملء الفراغ الداخلى للذات التى تدرك نقصها. يقول بيرسى نصًا: (لا توجد موضة، أيًا ما كانت سخيفة أو حتى شاذة، لا يمكن تبنيها إذا توافر شرطان: سلطة مُحدد الموضة (مثل ديور أو جاكى أوناسيس) وفراغ أو نقص الذات لدى المستهلك. على سبيل المثال: الأرداف الاصطناعية المنفوخة فى الغرب. يحدث أن ترى امرأة موضة جديدة، كقبعة، أو طريقة جديدة لتصفيف الشَعر، أو ثوب سباحة على الطريقة الفرنسية. غالبًا ما يكون مصدر الموضة شخصية مشهورة ذائعة الصيت، أو مصمم أزياء معروفاً. تعتمد فعالية الموضة على إدراك الذات لنفسها إما لشعورٍ بالنقص أو على الأقل كشعور فقد شيء ما. سؤال: ماذا تعنى البائعة عندما تقيس ملابس لزبونة وتقول لها: «إنها أنتِ»؟ (أ) إنها تعنى نفس ما تعنيه الزبونة لو سُئلت: إنها تليق بي، تبدو جميلة، ليس لدىّ شيء أرتديه (ب) إنها تعنى أن القطعة - القبعة، البلوزة، تسريحة الشعر، الفستان - تبرز أفضل ملامحكِ فعليًا - عينيكِ، شعركِ - بينما تقلل من عيوبكِ: رقبة قصيرة، إلخ. (ج) إنها سترضى زوجكِ أو حبيبكِ. عزيزى القارىء: اختر إجابة واحدة، وستدرك أنَّ العالم فى حالة تخبّط شديد) (انتهى الاقتباس). الحقيقة أن نقد بيرسى للموضة ينطبق على عصرنا، حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعى منصة لفرض معايير جمال مستحيلة، بل أقول أحيانًا معايير مقرفة، تُجبر الذات على ملء خوائها بمظاهر غريبة عنها. يطرح المؤلف فى فصل تالٍ سؤالًا آخر ، يحسن أن نتوقف أمامه قليلًا، وسأترجم منه الفقرة المطولة التالية: (لِمَ تُعد الذات الإنسانية هى الكيان الوحيد فى العالم الذى يشعر بالملل؟ لماذا لا يشعر أى كائن آخر بالملل سوى الإنسان؟. لمْ تدخل كلمة «ملل» إلى اللغة إلا فى القرن الثامن عشر. ولا أحد يعرف أصلها اللغوى على سبيل اليقين. تقول أحد التخمينات إنها قد تكون مشتقة من الفعل الفرنسى bourrer، الذى يعنى «حشو» أو «ملء». السؤال: لماذا لم توجد هذه الكلمة قبل القرن الثامن عشر؟ (أ) لأن الناس لم يكونوا يشعرون بالملل قبل ذلك القرن؟ (لكن ألم يكن الامبراطور «كاليجولا» يشعر بالملل؟) (ب) لأن الناس كانوا يشعرون بالملل لكن لم تكن لديهم كلمة تعبر عنه؟ (ج) لأن الناس انشغلوا بمصارعة البقاء على قيد الحياة إلى حدّ أنهم لم يجدوا وقتًا للملل؟ (لكن ماذا عن النبلاء والمُلوك الإنجليز الذين كانوا يعيشون فى فراغ وخمول؟) مع زيادة الوعى الذاتي، وتوافّر وقت الفراغ، وسائل الترفيه والثقافة، وكثرة نصائح «تطوير الذات» و«إثرائها»، تشعر الذات بأنها مسجونة داخل نفسها، بل تشعر بحالةٍ أسوأ من وجودها فى السجن، فالسجين يعرف على الأقل أنه مسجون ويحلم بالحرية، بينما الذات ليست كذلك،، وهذا الوضع لا يمكن وصفه إلا بكلمة أخرى غير «السجن»، مثل: الملل. فالملل هو الذات المحشوة بنفسها حتى الاختناق. (اختر إجابة واحدة أو أكثر) (انتهى الاقتباس). والحق أن تعريف بيرسى للملل بأنه (الذات المحشوّة بنفسها حتى الاختناق) يصيب الحقيقة فى مقتل. تكلَّم الأدباء والفلاسفة عن فكرة اختناق الإنسان بذاته، وأنها أس البلايا (راجع مقالات رالف والدو إيمرسون مثلًا)، وليفكِّر كل قارىء فى حالة الملل ومرادفاتها من ضجر أو فقدان رغبة فى كل شيء، إنه الشعور الذى ينتاب المرء بعد تحقيق هدفٍ غالٍ وسامٍ (حدث سعيد، جائزة، مال، سيارة جديدة، رحلة إلى مكان منشود، إلخ). النفس مجبولة على طلب المزيد، والذات الملولة هى التى لا ترى سوى صورتها، ونفسها وطموحاتها، وإظهار سعادتها (حقيقية كانت أم مزيّفة) أمام الآخرين. قالها الحلاج قديمًا: (هى نفسك، إن لم تشغلها شغلتك). الإنسان مخلوق للسعي، ليس للراحة؛ سمعت مرة من جارٍ أستاذ جامعى يتساءل: لماذا يسخر بعض الناس ممن يطالب الشاب فى مقتبل حياته بالعمل 18 ساعة يوميًا كيلا يمدَّ يده بالسؤال، ويصون كرامته، ويلبى احتياجات أسرته فى عالمٍ يموج بالفوضى والحروب، والصراع على الموارد الشحيحة، بدعوى أن ذلك يدمر التوازن بين الحياة الشخصية وحياة العمل، ولا يستطيعون توجيه كلمة إلى شاب قادر على جرّ مقطورة نقل ثقيل خلفه، ويصرف 24 ساعة يوميًا على السوشيال ميديا فى الثرثرة وتسفيه قيمة كل شيء؟ أكتشفُ بمرور الوقت أن الناس بارعون فى السخرية من الحقائق التى تزعجهم، ولا يريدون سماعها. هل الاكتئاب دليل على خلل فى الذات، أم أنه استجابة طبيعية لعالم مختل؟ هذا هو عنوان فصل/سؤال مهم فى كتاب بيرسي، الذى يقول نصًا: (ارتفع معدل الانتحار بين الأشخاص تحت سن الخامسة والعشرين ارتفاعًا حادًا فى العشرين عامًا الأخيرة. أظهر استطلاع حديث أن أعراض الاكتئاب تجاوزت فى عددها جميع الأعراض الطبية الأخرى مجتمعة. فى أحد برامج العلاج النفسى الإذاعية ، ذكرت نحو 80% من النساء المتصلات أنهن مكتئبات. بلغت نسبة تعاطى المخدرات بين المراهقين والأطفال قبل سن المراهقة زيادة تقدَّر ب 3000 حالة خلال الثلاثين عامًا الماضية. وفى برنامج حوارى تناول «الحب القاسي»، زُعم أن ثلث المراهقين يعانون من الاكتئاب، وأن 75% منهم يتعاطون المخدرات. سؤال: هل الناس مكتئبون، بالرغم من توافر فرص غير مسبوقة فى التعليم والعمل ونمو الذات والثقافة والسفر والترفيه...؟ (أ) لأن الحياة الحديثة أصعب وأعقد من أى وقت مضى؟ (ب) لأن المنافسة فى سوق العمل، بالنسبة إلى الرجال، أصبحت أشرس؟ (ج) لأن الحياة المنزلية للمرأة أصبحت أكثر وحدة من أى وقت مضى، مع زوال المجتمع التقليدي، مثل: الجلوس حول البئر أو على العتبات للثرثرة وتفريغ الكبت؟ (د) لأن التعليم الذى يتلقاه الشباب أصبح أكثر تدنيًا من أى وقت مضى، مما يتركهم غير مهيئين لمواجهة العالم الحقيقي؟ (ه) لأن الإيمان بالله والدين قد تراجع، ومع تراجعه فقد الإنسان ثقته فى مكانة الذات ضمن الكون، فى سلسلة الوجود، وفى علاقاتها بالآخرين؟ لأن الذات أصبحت موجّهة نحو الخارج لا نحو الداخل، وتستمد تقديرها لذاتها من نظرة الآخرين إليها، كالمتسوّل فى الزحام بيده الممدودة (يتسوّل إعجاب الآخرين بما يقول ويفعل ويكتب ويلبس؟) فكِّر فى الانتحار كخيار رومانى نبيل [المقصود رفض الحياة المُهينة على عادة الرومان الأقدمين] (انتهى الاقتباس). فى تصوّري: اقتراح بيرسى التفكير فى الانتحار بوصفه «خيارًا رومانيًا نبيلًا، هو استفزاز فلسفى جريء يهدف إلى زعزعة استقرار الذات. لا يدعو بيرسى إلى الانتحار بقدر ما يستعمله كأداة لمواجهة سؤال: لماذا أعيش؟ بالنسبة إليه فالتفكير الجاد فى الموت قد يحرر الإنسان من خوفه من الحياة، مما يتيح له رؤية العالم بعيون جديدة، كما يصف «المنتحر السابق» الذى يعيش بلا قيود. ومع ذلك، هذا الاقتراح محفوف بالمخاطر، إذ قد يُساء فهمه كتساهل مع فكرة الانتحار، خاصة فى عصر يعانى فيه الشباب من أزمات نفسية متفاقمة. هنا تظهر براعة بيرسى فى استفزاز القارئ، لكنه يتركنا مع سؤال مفتوح: هل يمكن لمثل هذا التأمل أن يقود إلى المعنى، أم أنه مجرد لعبة فلسفية خطرة؟ هيكل كتاب بيرسى جدير بالإشادة، وجديد فى أسلوب طرح الأسئلة ومناقشتها. ليس الرجل فى الأساس معالجًا نفسيًا، ولا تعنيه المسألة، ورواياته عميقة، وعرة لكن طريقة طرحه للأسئلة تنمُّ عن حالة نقمة على سلوكيات البشر وكذبهم ومزاعمهم بالمظلومية، والجأر بالشكوى، بالرغم من وفرة كل شيء كما بيّن. وتتمثل إحدى أعظم مزايا الكتاب فى قدرته على توصيف الحالة الذهنية التى تصاحب الملل العصرى والرتابة اليومية، وهى الحالة التى تدفعنا إلى التوق للكوارث أو الأخبار السيئة، أو إلى الهرب من واقعنا باستهلاك لا يشبع، أو سفر، أو لهو، أو تطرف. يكمن نجاح بيرسى فى كشف الحاجة الحقيقية: رؤية أكثر عمقًا لذواتنا، وفهم أصدق لما نحن عليه فعلًا. وقد وُجّه هذا الطرح تحديدًا إلى الأمريكيين (والبشر عمومًا) الذين يميلون إما نحو الدروشة المريضة، أو المادية البحتة، وهو ما دفعنى لتأمّل موقف عابر مرَّ بى فى العمل. قبل أيام وقعت مشادة عنيفة فى أحد الأقسام. طَلب منى مدير القسم الدردشة معه مبدئيًا فى مكان واسع عما جرى، وأخذ يتكلم ويحكي، ومع أنى بطبعى أنفر من الثرثرة، والرطرطة فى الكلام، لكنى سمعته من باب الاستمتاع بنسمة صباحية منعشة وأنا أشرب فنجان شاى بالتوت. بعدها بدقائق مرّ بنا فنى من ذوى الهمم (أصم وأبكم) يحمل سلماً وأشار إلى مديره الواقف إلى جوارى إشارة عابرة، فردَّ عليه المدير، وأفهم الفنى المهمة، ثم حيّانا الرجل ومضى إلى مهمته بهدوء. شردت بعيداً عن الثرثرة بخصوص أسباب المشادة (أصل فلان عمل وفلان شتم، وبعدين قلت له: أنا مش شغال عندك، أو مش فارق معايا الشغل.. تلك الجُمل التى أوصلت كثيرين إلى ما هم عليه)، وتأملت حال الأصم الذى ابتلاه الله، بل الأصح منَّ عليه الله بألا يلوث سمعه بتفاهات البشر. طبعاً هو بنى آدم تحرّكه مشاعر غضب وغيرة وانفعال، ويفهم قطعًا كل ما يجرى حوله، لكن أظن أن لانفعالاته منفذًا آخر. لم أستغرب أن هذا الرجل ترقى ثلاث مرات فى غضون سبع سنوات من بين كل زملائه من عامل عادى إلى فني، ثم مشرف، وتضاعف راتبه، وهى ليست قاعدة بالطبع، لكنها ملاحظة، كل ذلك فى ظنى لسبب بسيط؛ أنه عارف حدوده، عارف شغلته على المركب، عرف بفطرته لِمَ خلقه الله، وأى مهمة عليه أن يؤديها حتى يُرد إلى خالقه. أراقبه أحيانًا بعد الانصراف مع زميلين آخرين أصمين أبكمين، يمشى الثلاثة إلى جوار بعضهم؛ ثمة حوار غامض خفى بينهم، ربما يكون «كلامهم» شكاوى أو غضبًا أو تنفيسًا ذا طبيعة خاصة، يتكلمون بلغة أشبه بمنطق الطير. من المؤكد أنهم لا يحتاجون إلى كتب ووكر بيرسى أو غيره، ومن المؤكد أيضًا أنهم كانوا سيكتبون عملًا أفضل من كتاب بيرسي، لكنهم مشغولون حتمًا بما هو أهم.