حوار: نوريا أثانكوت ترجمة: د. شيماء مجدى يعتبر إجناثيو مارتينِث دى بيسون (ثاراجوثا، 1960) أحد الأسماء اللامعة فى الأدب الإسبانى المعاصر، تحديدًا بعد النجاح الكبير لروايته «قلعة النار» التى صوّر فيها مدريد ما بعد الحرب الأهلية، مدريد الملأى بالدماء والخيانة. وفى «ملابس البيت»، الصادرة حديثًا عن دار سييكس بارّال، يقترب لأول مرة من ذكرياته الشخصية، وهو نوع من مذكرات الطفولة والشباب، حيث يستعرض خطواته الأولى فى عالم الأدب، وفى الوقت ذاته يقدم تحية لأصدقاء أعزاء مثل برناردو أتشاجا وفليكس روميو. هنا حوار معه. لماذا قررت كتابة كتاب عن ذكريات شبابك، ولماذا الآن بالذات؟ عندما توفيت والدتى عام 2018، شعرت برغبة شديدة فى ترتيب ذكرياتى القديمة، وحفظ جزء من ذلك الماضى الذى يختفى بوفاة أبطاله. بعد ذلك توجهت إلى الأرشيف لأبحث عن معلومات حول دور والدى كعسكرى، ما دفعنى إلى استعادة ذكرياتى عنه، إذ مات عندما كنت فى التاسعة. وبقية القصة جاءت من تلقاء نفسها. ألم تشعر بغواية كتابة رواية سيَرية؟ إذ تحفل حياتك بأصدقاء وأقارب وأحداث تصنع حكاية قوية (والدك المتوفى فى سن مبكرة، والدتك، الكاتب خابيير توميو) قليلًا ما تثير اهتمامى الرواية السيَرية. كل ما أردته كتابة سيرة ذاتية بطريقة تقليدية، أى «مذكرات» بمعناها الحرفى، دون إضافة أى خيال سوى ذلك الذى تقدمه الذاكرة نفسها بطبيعتها المعروفة بتشويه الماضى. ومع ذلك، وبعد تجربتى فى كتابة روايات عن العائلة، ربما تكون فصول «ملابس البيت» المكرسة لعائلتى قد اكتسب لمسة روائية. فى النهاية، ما كتبته شكل من أشكال الأدب. ماذا يمكن أن يقول لك أحبّاؤك الراحلون، الذين تتخيلهم فى نهاية الكتاب، عند قراءة «ملابس البيت»؟ هل سيهنئونك، هل سيتعرفون عليك حتى، هل سيفرحون أخيرًا لرؤيتك وقد أصبحت كاتبًا يحتفى به من الجمهور والنقاد؟ أتخيل بعضهم يعاتبني: «لماذا تكشف خصوصيات العائلة؟» ومع ذلك، أعتقد أنهم سيفهمون دوافعى. ففى النهاية، كتبت عنهم جميعًا بمودة وامتنان. كيف كان سيرى الطفلُ والشابُ الكاتبَ الذى صرت عليه؟ ما الذى قد يعاتبانك عليه وما الذى قد يكونان أكثر فخرًا به؟ الطفل الذى كنته لم يكن يميل إلى العتاب، كان طفلًا سعيدًا لمجرد الوجود؛ كل شىء كان يبدو لى جيدًا. أما شبابى، فلا أستطيع قول الشىء نفسه فقد كان أكثر تعقيدًا. من المحتمل أن الشاب الروائى الذى كنته لن يكون مهتمًا كثيرًا بالكتب التى أكتبها الآن، والتى تتحدث بشكل أساسى عن قصص من الماضى. الشباب عادة لا يهتمون كثيرًا بالماضى، يميلون إلى الاعتقاد بأن العالم وُلد معهم. وكذلك كنت أعتقد عندما كنت شابًا، وانتهى بى الأمر بكتابة روايات عن أمور حدثت قبل ولادتى. من تفتقد أكثر من بين جميع الشخصيات التى تجول فى الكتاب (سواء من العائلة أو من الكتّاب) ولماذا؟ من بين الأصدقاء، أفتقد فليكس روميو، الذى توفى فى سن مبكرة جدًا. حتى الآن، بعد مرور ثلاثة عشر عامًا على وفاته، أجد نفسى أحيانًا أتساءل عما كان سيظن بشأن هذا الكتاب أو ذلك الفيلم. بالمناسبة، كان فليكس يحب كتب السيرة الذاتية كثيرًا. وأنا واثق أنه كان سيستمتع بقراءة هذا الكتاب. ما الذى كان يميز صيفك فى منطقة لا ريوخا فى الستينيات ليجعلك تشعر ب»يقين أنك تعيش فى الجنة»؟ انتهت طفولتى بشكل مفاجئ للغاية: فى سبتمبر 1970 عدنا إلى ثاراجوثا، وفى أكتوبر توفى والدى بسكتة قلبية. يمكن القول إن المشاكل بدأت حينها، وكل تلك الفترة السابقة تأسطرت فى ذاكرتى. حتى الأحداث القبيحة فى طفولتى فى لا ريوخا، تكفلت ذاكرتى بمحوها. ما تأثير جدك، وهو من قدامى المحاربين فى حرب إفريقيا، وكان يبدأ قصصه بعبارة «حسنًا، يا سيدى»؟ كان بالنسبة لى والدى الثانى. كنت أحب كثيرًا الاستماع إليه وهو يروى قصصًا قديمة من الماضى، ربما كان قد سمعها هو نفسه عندما كان طفلًا من جده، وكان جنرالًا مؤيدًا لملكية دون كارلوس، وكانت تلك القصص تأخذنى بعيدًا إلى الماضى، قافزة عبر عدة أجيال. كيف صار الكاتب الذى كان يريد أن يكون سورياليًا راويًا واقعيًا؟ عندما كنت طفلاً وحتى مراهقًا، أردت أن أكون سورياليًا دون أن أفهم جيدًا ما السوريالية. كانت حقيقة أن لويس بونيويل، مثلى من أراجون، كافية لجعل السوريالية تجذبنى. تحولى إلى الواقعية حدث بعد أن نشرت عدة روايات، وفى الواقع، لم يبعدنى ذلك عن بونيويل بل قربنى منه: فقد كان معجبًا ب جالدوس، الذى قام بونيويل باقتباس عدة روايات له. كيف انتهى الشاب الذى كان يشعر بالملل من روايات الحرب الأهلية أحد أفضل الروائيين عن تلك الفترة وما بعدها؟ أعتقد أن الأمر يتعلق بظاهرة أوسع. لقد كان المجتمع الإسبانى، وخاصة جيلى، هو من عاد مع القرن الجديد للاهتمام بالحرب الأهلية وعواقبها. كانت لدينا روايات أولئك الذين خاضوا الحرب، وروايات من نشأوا خلال حقبة فرانكو. لكن كان ينقصنا روايتنا نحن، أحفاد الحرب، الذين نشأوا خلال فترة الانتقال أو فى ظل الديمقراطية. تشرح فى الكتاب انقطاع صداقتك ب خابيير مارياس بسبب انفصاله عن دار نشر إيرالدى، ولكنك لم تذكر أسباب انفصالك عن دار أناجراما: هل ستترك ذلك للجزء الثانى من مذكراتك، إذا كان هناك جزء ثانٍ؟ لا أعلم إن كان هناك جزء ثانٍ من المذكرات. إذا أطلقت على هذا الجزء ملابس البيت، فربما فى يوم ما ستكون هناك ملابس الشارع، حيث لا أتحدث عن عائلتى وخروجى من القوقعة، بل أحكى عن حياتى ككاتب. لكن فى هذه اللحظة، يبدو لى أن هذا الجزء الثانى من حياتى غير مثير للاهتمام على الإطلاق. فى الثمانينات كنت تعتقد أن الكتاب هم أشخاص كبار فى السن «أشخاص ناضجون، يبدو أنهم يعرفون كل شىء ولديهم إجابات لكل شىء». الآن وبعد أن أصبحت كاتبًا مرموقًا، هل لديك الكثير من اليقين؟ نشرت كتابى الأول منذ أربعين عامًا، لذا فأنا على الأقل ناضج إلى حد ما. لكن القراءة والكتابة أكثر جعلتنى أملك المزيد من الأسئلة، وليس المزيد من الإجابات. لماذا انتهت مسيرتك القصيرة جدًا كشاعر بهذه السرعة؟ وماذا عن المسرح؟ دعينا نقول إن الوحى الذى يلهم الشعر والمسرح لم يهتم بى كثيرًا. كنت جزءًا من جيل أُطلِق عليه «الرواية الجديدة»، ينتمى إليه العديد من المؤلفين الذين يعتبرون مرجعًا اليوم، مثل مارياس ومونيوث مولينا، ولكن أى كاتب من تلك الفترة ستنقذه من النسيان؟ من الكاتب الذى أساء الزمن والنقد معاملته؟ بالنسبة لى، هناك كاتب حظى بإعجاب العديد من الزملاء، ولكنه لم يحصل أبدًا على القراء الكثر الذين يستحقهم. أعنى خوسيه ماريا كونخت، الذى نشر فى ذلك الوقت العديد من الروايات الممتازة، رغم أن عناوينها لم تكن جذابة، مثل «ذوات الأربعة» فى الكتاب، تهدى نوعًا من التحية للكتاب والأصدقاء مثل برناردو أتكسا، وإنريكى بيلا ماتاس، وكريستينا فرناندِث كوباس، وخوسيه لويس مِلِرو: ماذا تدين لكل منهم كروائى وكشخص وكقارئ؟ بالإضافة إلى الصداقة، التى تعد من أغلى الأشياء، أدين لهم بفتح عينىَّ على تقاليد أدبية لم أكن على دراية بها آنذاك. لقد ساعدنى كل منهم، بطريقته الخاصة، على توسيع آفاقى كقارئ وكاتب. إذا كانت الصفحات التى تتحدث عن روميو مثيرة للمشاعر، فإن الصفحات التى تكرسها لزوجتك ماريا خوسيه وأولادك ليست أقل إثارة: ربما الأكثر جرأة وخصوصية من بين كل ما كتبته على مر مسيرتك؟ أميل إلى الاختباء فى كتبى، بحيث لا يتم التعرف علىَّ. فى هذا الكتاب، على العكس، أتحدث عن مشاعر عميقة: الروابط العائلية، والوقوع فى الحب، والأبوة... الأمور التى أرويها شخصية بحتة، ولكن فى الوقت نفسه، أقول إنها عالمية. أعتقد أن أكثر من قارئ سيرى انعكاسًا لتجربته الخاصة.