مع تولى فلاديمير بوتين، الحكم فى روسيا، عقب فترة حكم يلتسين، التى أقل ما يُمكن أن توصف به بأنها فترة اضمحلال فى كافة مناحى الحياة بهذا البلد، حتى أن الأغلبية ظنت أن روسيا كدولة عظمى ذهبت بلا رجعة، وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من التفكك إلى دويلات صغيرة لا قيمة لها. ولكن ما إن تولى بوتين الحكم حتى أعلن أن نهجه سيقوم على مبادئ البراجماتية، لذلك سنلاحظ أن الفترات الأولى من حكمه ركزت على البناء الداخلى، وتعزيز مختلف ركائز قوة الدولة وتماسكها، وعندما تحقق له ذلك انتقل إلى المرحلة الثانية، وهى إحكام السيطرة على أهم دوائر الأمن القومى للدولة الروسية، وهى بطبيعة الحال دول الجوار، وعلى الأخص دول الاتحاد السوفيتى السابق. ◄ روسيا تحقق المنفعة فى إطار مجموعة قواعد ◄ القيم مجرد ورق سلوفان عند واشنطن لتجميل المشهد ◄ الصين حققت معجزة اقتصادية ولن تجازف بدخول أى معركة وفى إطار العمل بهذا الاتجاه، ربما أدركت روسيا، أن النهج السوفيتى من حيث الترهيب وفرض الإرادة بالقوة لن يصلح فى العهد الجديد لذلك فضلت بناء علاقاتها الوطيدة مع دول الجوار، والاتحاد السوفيتى السابق، على أساس من المنفعة والاحترام المتبادلين، وربما أن هذا النهج أفلح مع العديد من الدول، لكنه فى نفس الوقت كان فرصة لفكاك البعض الآخر ومحاولات من بعض ثالث للفكاك، ومن هنا بدأنا نرى محاولات من بعض الدول للعب على وتر علاقات الشك والريبة بين روسيا ودول الغرب وعلى الأخص الولاياتالمتحدة، ومثال هذه الدول بيلاروسيا فى بعض مراحلها ودول أخرى رأت أن فى معاداة واستفزاز روسيا وسيلة لخطب ود الغرب، ومن أمثال هؤلاء بعض دول البلطيق وبولندا وغيرها، لكن ظلت أوكرانيا فى مختلف عهودها تسعى للمزيد من التقارب مع الغرب عن طريق معاداة واستفزاز روسيا. ◄ أمريكا البراجماتية وعلى الجانب الآخر، وهو الولاياتالمتحدة التى شهدت نشأة الفكر البراجماتى على يد المفكر والفيلسوف الشهير تشارلز ساندرس بيرس، فقد ظلت تُطبق مبدأ البراجماتية على مدار تاريخها القصير نسبيًا، لكن كان التطبيق يقوم على أساس تحقيق المنفعة، وخلق الذرائع، التى تمهد الطريق لهذه المنفعة، حيث لا يمكن القول بأى شكل من الأشكال بأن الولاياتالمتحدة، كانت تطبق البراجماتية بمعناها الحقيقى، وهو التخلى عن النظريات، والأيديولوجيات القديمة والمُسبقة، والتركيز بشكل أساسى على الواقع، وتحقيق كل ما يُصلح هذا الواقع، ويؤدى لنتائج ومستقبل أفضل. والدليل على ذلك هو التنافس الذى كانت تقوده الولاياتالمتحدة ضد الفكرة الشيوعية متمثلة فى الاتحاد السوفيتى، وكانت فى هذا التنافس تنطلق تارة من الانتصار للرأسمالية أو الفردية، وتارة أخرى من الديمقراطية وحقوق الإنسان، ونلاحظ هنا أن الولاياتالمتحدة، كانت تختار ساحات معينة للتنافس، حيث إنها لا تقف إلى جوار هذه أو تلك من الدول أو المجتمعات ما لم يحقق لها ذلك منفعة معينة من وراء هذه المساندة، وهو ما يتجلى اليوم فى أوضح صوره بأوكرانيا. ◄ نماذج واقعية وحتى تتضح لنا الصورة بشكل أكبر دعونا نتذكر المثال العراقىوالكويتى، حيث شجعت الولاياتالمتحدة، العراق على غزو الكويت، ثم قادت بعد ذلك التحالف الدولى ضد العراق، وبذلك تكون قد حققت الكثير من المنافع بالسيطرة على البترول العراقي دون رقيب أو حسيب، وفى نفس الوقت السيطرة على منطقة الخليج بأكملها ،وهنا ربما لا يختلف اثنان على «أن الولاياتالمتحدة قد حصلت فاتورة حرب تحرير الكويت ثم تأمين دول الخليج أضعافًا مضاعفة عما تكبدته من نفقات»، الأمر الذى انعكس على المنفعة العامة فيما يخص الخزانة الأمريكية، والمنفعة الخاصة، فيما يخص أشخاصا ودوائر معينة ممن بسطوا سيطرتهم على نفط العراق، وظلوا يستنزفونه لسنوات طويلة دون حسيب أو رقيب. ◄ منظور بوتين ونفس الأمر، انطبق على ليبيا، وحتى عداء الولاياتالمتحدة لإيران لم يكن دون مقابل أو منفعة خاصة قبل المنفعة العامة، فالمنفعة العامة تمثلت فى مبيعات سلاح للكثير من الدول فى إطار العداء والعداء المقابل، بينما المنفعة الخاصة هى الشركات الوسيطة التى تتاجر بالنفط، وتورد مختلف السلع المحظورة لإيران التفافًا على القرارات الدولية والأمريكية ذاتها. البراجماتية من المنظور الروسى أو منظور بوتين هى تحقيق المنفعة العامة للدولة فى إطار الالتزام بمجموعة من القيم والقواعد الأساسية للدولة، أما الولاياتالمتحدة فالبراجماتية كانت هى النفعية، وتحقيق المنفعة بأية وسيلة، أما مسألة القيم، والقواعد الأخلاقية، والقانونية، لم تكن سوى مجرد غلاف سلوفانى لتجميل المشهد ليس أكثر. بإمعان النظر إلى منطلقات الرئيس الروسى فى النظر إلى النهاية الحتمية للنزاع فى أوكرانيا، ولسنا هنا بصدد النظر فى دوافع النزاع ومشروعية منطق كل طرف فيها، سنجد أن الرئيس الروسى مازال يتمسك ببراجماتيته التى تقوم على أساس مجموعة من القيم التى يرغب فى أن تظهر بها بلاده أو أن تُمثل السمة الرئيسية لها، فهو لا يتحدث عن الحقوق التاريخية كأساس للنزاع ولا يتحدث عن ضرورة مكتسبات النزاع، لكنه يؤكد أن النزاع قام على أساس مجموعة من المُبررات المشروعة، التى لن يتخلى عنها فى أى تسوية للنزاع الذى يرى أنه لا ينبغى أن تكون له نهاية سوى السلام الدائم والراسخ تأسيسًا على معاهدة دولية وقانونية تثبت نتائج التسوية، وهو هنا لا يتحدث عن احتلال أراض، وإنما عن التدخل لحماية بشر كانوا يتعرضون للتصفية العرقية، ولا يتحدث عن بسط سيطرة ونفوذ بلاده على أحد، ولكن عن احترام مصالح بلاده وأمنها القومى، وفى نهاية الأمر لا يتحدث عن نشر الكراهية ضد قومية أو دولة بعينها، لكنه يتحدث عن ضرورة عودة المشاعر المتأصلة للمحبة والإخاء بين الشعبين الشقيقين الروسى والأوكرانى، واللذين لا يعتبرهما قوميتين مختلفتين بل قومية واحدة تعيش فى أرض ممتدة، وبالتالى وفى نهاية الأمر ستكون روسيا قد حلت جانبًا من مشكلتها الأساسية، وهى المشكلة السكانية بانضمام الملايين من ذات القومية للشعب الروسى، وستخرج روسيا من النزاع ربما باعتراف دولى بتبعية القرم، وسيفوستوبول لها، وهما أساس المشكلة من البداية، بل وتضيف إليهما دونيتسك، ولوجانسك، وخيرسون، وزابوروجسك، وكلها مكاسب عظيمة وتاريخية، لكن الأهم منها جميعًا هو الاحتفاظ باحترام العالم أو غالبيته لروسيا، وإذا ما وضعنا فى الاعتبار تاريخ سياسات بوتين فسنتأكد أنه سيحقق أكثر مما كان يهدف إليه من البداية، دون تقديم أية تنازلات للغرب والولاياتالمتحدة بل إن عكس ذلك هو الأقرب إلى التوقع. ◄ براجماتية ترامب أما بالنسبة لبراجماتية ترامب، فهو رئيس الدولة التى شجعت أوكرانيا على مدار بضع عقود على استفزاز روسيا، وظلت فى إطار هذا التشجيع تلوح للقيادات الأوكرانية المُتعاقبة بمزايا التقارب مع الغرب بما فى ذلك إمكانية الانضمام للاتحاد الأوروبى وحلف الناتو، رغم أن لوائح وقواعد الانضمام لهما لا تنطبق بأى حال من الأحوال على أوكرانيا. والحقيقة أن فرص أوكرانيا للانضمام كانت ومازالت تقترب من الصفر، وخير دليل على أن مؤازرة الغرب لأوكرانيا لم تكن جادة، ولكن هشة ولا قيمة لها، هو أن روسيا ما كانت لتهجم على أوكرانيا لو أن لديها أدنى شك فى أن الدعم العسكرى واللوجستى لأوكرانيا لا يُمكن أن يجعلها فى أى وضع يسمح لها بالمقاومة.. ترامب لا يختلف فى شىء عمن سبقوه بهذا المنصب بما فى ذلك الديمقراطيون باراك أوباما أو جو بايدن، فجميعهم كانوا يخططون لنشوب هذا النزاع لإضعاف روسيا، ونشر الرعب فى أوروبا، مما يزيد من احتياج أوروبا وتبعيتها للولايات المتحدة، وفى النهاية الاستفادة مما قد يتبقى من ثروات فى أوكرانيا، والفارق الوحيد هو أن النفعية فى ظل أوباما وبايدن كانت على المدى المتوسط والبعيد أما ترامب فهو يدرك أنه ليس أمامه وقت طويل، وأنه يحتاج لتحقيق نتائج تُبرر عودته للسلطة، فهو على استعداد للقيام بأى شىء يُحقق المكاسب المُخطط لها من البداية، لكن على المدى القصير أو القريب، حتى وإن كانت هذه المكاسب وقتية وستؤثر على أسس علاقات ونظرة الغرب، وربما العالم إلى الولاياتالمتحدة على المدى البعيد. ◄ الفرق في التطبيق الفارق بين البراجماتية الأمريكية والروسية يكمن فيمن يطبقها، فبوتين ربما حقق ما كانت تخطط له روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفيتى سواء من ضم القرم، وسيفوستوبول، وبعض الأقاليم التى آلت إلى أوكرانيا، لكنه ظل يُمهد للأسس القانونية والقيمية التى لا تجعل بلاده تبدو فى أعين الرأى العام الدولى كدولة احتلال أو استعمار أو دولة غاصبة، وساعده فى ذلك ما نجح فى تحقيقه داخليًا من طفرة اقتصادية جعلت السائح الروسى مغنمًا لكافة الدول المعنية بالسياحة، وحقق طفرة عظيمة فى مجال الزراعة جعل الكثير من الدول تعتمد على القمح الروسى مُعتدل الأسعار، وعلى الغاز الروسى معتدل السعر خصوصًا بالنسبة لأوروبا، وبعد كل ذلك قام بقفزته وهو على يقين من أن كل من سيتخذ موقفًا مُعارضًا لموقف بلاده سيخسر الكثير. البراجماتية الروسية تهتم أكثر بالقيم والأسس الشرعية والقانونية التى تمهد لمنفعتها، بينما الولاياتالمتحدة لا مانع لديها عند الضرورة من التضحية بالقيم والأسس الشرعية إن تعارضت مع تحقيق المنفعة أو أطالت أمد المساحة الزمنية لتحقيقها، وهى فى ذلك تنطلق مما تتمتع به من قدرات وانتشار عسكرى، وهو ما يجعل الكثيرين يتقبلون البراجماتية الروسية لأنها لا تضحى بالشركاء والأصدقاء بينما البراجماتية الأمريكية لا مانع لديها من التضحية بأقرب الشركاء والحلفاء إن تعارضوا مع النفعية ولا أقول المصلحة الأمريكية. ◄ موقف الصين ربما نتفق معا فى أن الصين حققت مبدأ البراجماتية بشكل عالى الاحتراف، وربما أنها تّقدم المثال والدروس الإيجابية للبراجماتية الأخلاقية إن جاز التعبير، فالصين لديها رؤية واضحة وثابتة لمصالحها، وليس لديها أى استعداد للتنازل عن مصالحها أو التضحية بها تحت أى مُسمى مهما كان، ومن هنا لا ينبغى الاستسلام لوهم أن الصين حليف لهذا أو ذاك من الدول، فالصين فى واقع الأمر هى حليف لمصالحها، ومصالح شعبها قبل كل شىء، وعلاقاتها سواء مع الولاياتالمتحدة أو الغرب أو روسيا تقوم على أساس هذه القاعدة، فرغم أن تاريخ علاقات الصين مع روسيا على مدار الكثير من الحقب التاريخية كان يقوم على العداء إلا أن تلاقى المصالح عدل كثيرًا من طبيعة العلاقات لترتقى إلى مستوى الشريك المؤتمن، لكنها بأى حال من الأحوال ليست حليفًا عسكريًا أو استراتيجيًا، فالصين لن تُضحى بمصالحها الضخمة مع الغرب، وعلى رأسه الولاياتالمتحدة، من أجل روسيا، كما أنها تُدرك جيدًا أن روسيا لها نفوذ كبير فى مناطق عديدة تُمثل دوائر أمن قومى لها، وترغب فى الاطمئنان على بقاء هذه المناطق هادئة بالنسبة لها، وعلى الأخص فى وسط آسيا، لذلك فهى تحرص على الحفاظ على شراكتها مع روسيا، وعلى تعزيز مشاعر روسيا، بأنها لا تُمثل مُنافسا لها فى مناطق نفوذها لا فى وسط آسيا، ولا فى أى منطقة أخرى فى القارة الآسيوية، ناهيك عن إفريقيا وغيرها من مناطق العالم، لذلك تحرص على التنسيق الذى تنتفى معه أية إرهاصات للشك. كما أن الصين تُدرك أنها حققت معجزة اقتصادية، وليس لديها أى استعداد للمخاطرة بهذه المُنجزات من أجل أحد، لذلك فهى لن تنساق ولن تتورط فى أى نزاع مُسلح مهما كانت الأسباب، وبات ذلك واضحًا خلال النزاع فى أوكرانيا، فالصين ظلت من المؤيدين للشرعية الدولية ودور الأمم المُتحدة لذلك فهى لم تُعبر لا بشكل مُباشر ولا غير مُباشر عن مُساندتها للتدخل الروسى فى أوكرانيا، كما أنها لم تؤيد ولم تنسق وراء السياسات الغربيةوالأمريكية فى مُساندة أوكرانيا عن طريق العقوبات على روسيا لأنها تدرك حقيقة هذه المواقف النفعية، التى لا تستهدف منفعة أوكرانيا بقدر الإضرار بروسيا. ◄ تعزيز الشراكات وفي المرحلة المُقبلة، ستواصل الصين الحرص على تعزيز شراكاتها مع الغرب سواء بشكل جماعى أو مُنفرد، كما ستواصل تعزيز شراكتها مع روسيا، بل وستواصل تنسيق تحركاتها على مُختلف الساحات الدولية معها، بما فى ذلك بمجال بناء العالم مُتعدد الأقطاب، ولكن بالشروط الصينية والتى ربما تعلمت منها روسيا الكثير أى النظام العالمى الذى يُحقق المُنافسة الشريفة والمساواة بين الدول دون أن تتورط فى أية تحركات عنيفة أو الاضطرار للتدخل بقواتها هنا أو هناك، وهو ما لا تمانع فيه الولاياتالمتحدة بقدر كبير وروسيا بقدر محدود. البراجماتية أو النفعية أو الذرائعية أو العملية سمها كما تريد هى مذهب جيد يحقق مصالح الدول إذا ما اقترن بالاستناد على القيم الإنسانية العليا، ولكنها قد تنقلب إلى انتهازية إذا كانت تقوم على أساس تحقيق المنفعة على حساب مصالح وحياة الآخرين، وإذا كان الرئيس الروسى بوتين قد أثبت عمليًا انتماءه إلى أى من التصنيفين فمازال من السابق لأوانه الحكم على ترامب قبل التوصل لنتائج ملموسة، فترامب حتى الآن يطرح مُقدمات، لكنه لم يصل لنتائج توحى بملامح فترته الرئاسية الثانية بعد الفشل الواضح بفترته الأولى.