خلال السنوات القليلة الماضية قام ناشطون بيئيون بطلاء نسخة من لوحة «الصرخة» ل«إدوارد مونش» باللون الأسود، ووصفوا الأمر بأنه صرخة الأرض. ورش ناشطان لوحة الموناليزا في متحف اللوفر بعصير البرتقال لأسباب بيئية أيضا، وكانت قد تعرضت عام 56 للرش بحمض من طرف مختل عقليا. كما أحرق ناشطون في إيطاليا نسخة من لوحة «الربيع» ل«بوتيتشيللي» لأسباب تتعلق بقضايا المناخ. وهو ما يعيد إلى الذاكرة جانبا مظلما من تاريخ الفن، ارتبط بالاعتداء على الأعمال الفنية، لأسباب عقائدية وسياسية ونفسية. ◄ حرق الأيقونات المسيحية بين الأباطرة وحركة الإصلاح ◄ آثار إخناتون تعرضت للإتلاف على أيدى خلفائه ◄ الراهب سافونارولا أشهر حارقى اللوحات ◄ ثوار فرنسا اعتدوا على فنون العهد الملكي ◄ تحطيم الأعمال الفنية تحت شعارات التطهير في العصور الوسطى ■ مارتن لوثر أبو الحركة الإصلاحية التي طالبت بعض أتباعها بتحطيم الأيقونات عرف تاريخ الفن موجات كبيرة من العدوان الممنهج على الإبداع الفني، تمثل في حرق وتحطيم وإغراق وطمر. مما يكشف عن وجه للفن، كان فيه ساحة للتناقضات والصراعات، وهدفاً لمحو ذاكرة الشعوب، أو للتطهير العقائدى، وتصفية الحسابات السياسية، ووسيلة للقمع، وكلها مثلت حربا على رمزية الجمال. ■ لوحة تصور أحد أحداث الحرب على الأيقونات ◄ تطهير عرفت مصر الفرعونية واحدة من أكبر موجات الاعتداء على الأعمال الفنية بعد موت إخناتون منتصف القرن 14 ق.م، حيث شن خلفاؤه حربا على تراثه الفنى، لسان حال ثورته الدينية التى نصّبت «آتون» كإله واحد، وألغت عبادة الآلهة الأخرى، وصادرت ممتلكات الكهنة. وكان الفن فى تلك الحقبة قد اتجه نحو نوع من الواقعية، اختلفت عن مثالية الفن المصرى، وهو ما يتضح فيما تبقى من تماثيل ورسوم تلك الفترة. وتزعم كل من «توت عنخ آمون» و«حور محب»، بدعم كهنة آمون، الحرب على تلك الأعمال. فتم تدمير عاصمته، وتحولت إلى محجر. ونقل حطام عمارتها وتماثيلها لبناء معابد الآلهة التقليدية، مثل تلك المقصورات التى بناها حورمحب فى الكرنك. كما تم تشويه التماثيل واللوحات التى تصور إخناتون، وعبادته، وطمست بعض نقوش مقبرته الملكية. ودفنت بعض التماثيل. كذلك شهدت الإسكندرية خلال الفترة بين القرنين الرابع والسادس الميلاديين موجات من التحطيم لأعمال فنية باعتبارها من مخلفات الوثنية على أيدى مسيحيين متدينين، وهو ما تكرر فى مناطق عديدة من الإمبراطورية الرومانية. ومن أبرزها تدمير معبد السرابيوم الذى كان مكرسا لعبادة «سيرابيس»، وتدمير مكتبة الإسكندرية. كما هدم معبد «ديونيسيوس» فى القرن 4م واستهدفت تماثيل إيزيس وأوزوريس فى الاسكندرية. وفى القسطنطينية عاصمة البيزنطيين حطمت تماثيل زيوس وأبولو فى الساحات العامة. كما تم تدمير معبد أرتيميس فى «أفسس» بعمارته الرخامية الفريدة وتماثيله. وكان ذلك تعبيرا عن النصر بعد أن أصبحت المسيحية دينا رسميا للإمبراطورية بعد قرون من الاضطهاد، أسفر عن محو الكثير من الآثار اليونانية والهلنستية. ◄ اقرأ أيضًا | «ماكرون» يعلن عن خطط لتجديد متحف اللوفر ونقل «الموناليزا» إلى غرفة مخصصة لها ■ أيقونة من القرن 14 تصور انتصار الأرثوذوكسية على تحطيم الأيقونات ◄ حرب الأيقونات عرفت الإمبراطورية البيزنطية خلال القرنين 8 و9 مرحلتين للحرب على الأيقونات الدينية، وتحطيمها وحرقها بدعوى مخالفتها لنص فى العهد القديم ينهى عن اتخاذ الصور والتماثيل. وهو ما أدى إلى تدمير الآلاف منها وخلق فجوة فى تاريخ الفن البيزنطى. وكانت حجة المحطمين هو اعتبار الأيقونات نوعا من عبادة الأصنام، وقد وصفوا فيما بعد بالمهرطقين. امتد الصراع من 726م وحتى 843م. ويرى محللون أنه تأثر بتيارات يهودية وإسلامية، خلال فترة توسع الإسلام باتجاه بيزنطة. كما حاول بعض الأباطرة توحيد الإمبراطورية تحت فكر دينى صارم، بعد الهزائم العسكرية أمام المسلمين، التى فسروها كعقاب إلهى على «عبادة الأصنام». وكان أبرز دعاة التحطيم الإمبراطور «ليو الثالث»، حيث الذى نزع أيقونات المسيح، ما تسبب فى أعمال شغب. كذلك الإمبراطور قسطنطين الخامس، والذى كان أكثر عدائية، ودعا لمجمع «هيريا» عام 754 والذى حرم صنع الأيقونات واعتبر تبجيلها هرطقة. وتحولت الكنائس فى عهده إلى جدران بيضاء، وعذب حتى الموت بعض الرهبان من مقدسى الأيقونات مثل القديس ستيفان الأصغر. وكان أبرز ما تم تدميره فى تلك الحقبة أيقونة «المسيح خالكى» البرونزية العملاقة على باب القصر الإمبراطورى، وأيقونة «العذراء بلاخيرنيتيسا» فى إحدى الكنائس المهمة بالقسطنطية. وهو ما ترتب عليه دفاع من مبجلى الأيقونات ومنهم القديس يوحنا الدمشقى والذى أكد أن الأيقونات نوافذ للسماء وليست أصناما. وقد تم استعادة الأيقونات خلال مجمع «نيقية الثانى»، قبل أن أن تنشأ موجة جديدة من التحطيم تحت حكم «ليو الخامس». وفى النهاية انتصرت الأيقونات على يد الإمبراطورة ثيودورا عام 843، وأعلن انتصار الأرثوذوكسية. ولولا ذلك لتغير تماما مسار تاريخ الفن كما نعرفه منذ القرن التاسع وإلى الآن، حيث قامت الأيقونات بدور مهم فى مسيرة الفنون طوال العصور الوسطى، ومهدت للنقلات التى حدثت منذ عصر النهضة وإلى الآن. ■ الثورة الفرنسية تسببت في حرق وإتلاف بعض الأعمال الفنية من العصر البائد ◄ إصلاح عادت الحرب على الأيقونات المسيحية مجددا خلال القرن 16، مع حركة الإصلاح البروتوستانتى للأسباب نفسها. وتم إتلاف العديد من الأيقونات فى ألمانياوهولندا، بسبب آراء مصلحين مثل «مارتن لوثر»، و«هولدرخ زوينكلي» و«جوم كلفن». وشهدت سويسرا موجة من التحطيم فدمرت تماثيل للعذراء والقديسين فى كاتدرائية «جروس مونستر»، وحطمت نوافذ من الزجاج المعشق فى كنيسة «فراو مونستر». وفى ألمانيا دمرت مذابح وتماثيل ضمن أعمال شغب. كما اندلعت أعمال عنف فى كل من هولنداوبلجيكا حطمت خلالها الأيقونات كجزء من التمرد ضد الكاثوليكية. ودمرت أعمال دينية للفنانين «بيتر بول روبنسون»، و«يان فان دايك»، و«روخير فان درفايدن»، وأشعلت هذه الحركة حرب الثمانين عاما ضد إسبانيا الكاثوليكية التى كانت تحتل بلجيكاوهولندا. وفى إنجلترا صودرت كنوز فنية من الأديرة وأحرقت كتب مذهبة، وصدرت الأوامر بإخلاء الكنائس من الأيقونات والمذابح الحجرية واستبدالها بموائد خشبية. ورغم ذلك حافظت اللوثرية المعتدلة على بعض الأيقونات فى بعض مناطق ألمانيا، كما خبأ البعض أيقونات، أو قاموا بتهريبها إلى مناطق آمنة. ورغم الآثار السلبية على التراث الفنى، إلا أن هذه الحركة كان لها أثرها فى اتجاه الفن إلى موضوعات علمانية ودنيوية ورمزية ومجردة. ■ أحد تمثالي بوذا قبل التدمير على يد حركة طالبان في أفغانستان ◄ بدعة عرفت أوروبا العصور الوسطى محاكم التفتيش التى قمعت تحت شعار التطهير الإبداع الفنى الذى رأت فيه الكنيسة الكاثوليكية خطرا على النظام الأخلاقى أو العقائدى. وشمل ذلك قصائد الحب الدنيوية أو الساخرة، والأعمال التى اعتبرت فاضحة أو سحرية. أما محاكم التفتيش الإسبانية، فتعتبر ذروة التطهير الثقافى خلال الفترة (1478–1834) وقد بدأ الأمر بعد توحيد إسبانيا تحت حكم «فرناندو الثانى» و«إيزابيلا الأولى»، حيث أسست محاكم التفتيش لمحاربة الهرطقة، وخاصة بين اليهود والمسلمين المُتنصّرين (الموريسكيين). لكنها توسعت لمراقبة كل أشكال التعبير. وتعرض بعض الفنانين للمحاكمات مثل «فرانشيسكو جويا». وقد أدت أجواء العصور الوسطى إلى تأخير نهضة أوروبا قرابة الألف عام. وفى العصور الوسطى أيضا عرف العالم الإسلامى نماذج العداء للفنون كما فى دولة الموحدين فى القرن 12م والتى حكمت المغرب والأندلس. ونظر للأعمال الفنية كبدعة. ■ أحد الأيقونات احتفال بالانتصار على حارقي الأيقونات ◄ مصير وفى ذروة عصر النهضة الذى اشتهر برعاية الفنون، قاد الراهب الدومينيكانى «جيرولامو سافونارولا» فى فلورنسا حملة ضد الفن وأحرق العديد من الأعمال الفنية. وكان ذا شعبية، هيمن بها على فلورنسا بعد طرد عائلة «ميدتشى» منها، وحولها إلى جمهورية مسيحية، تحت شعارات الزهد ومحاربة الفساد الأخلاقى. واعتبر الفنون المترفة جزءا من خطيئة التكبر. وفى عام 1497 أقام محرقة شملت أعمالا فنية أسطورية، وأخرى غير محتشمة. ووصف فلورنسا بأنها بابل جديدة تحتاج إلى تطهير، واستخدم الحرق كطقس جماعى لإثبات التوبة، وحرض أتباعه على التبرع بممتلكاتهم الفنية والباذخة لإحراقها فى ساحة «سينيوريا». وبعد عام واحد انقلب الشعب عليه بعد فشل نبوءاته، واتُّهم بالهرطقة، وأعدم مع اثنين من أتباعه ثم أحرقت جثثهم فى الساحة نفسها التى شهدت محرقته. وقد ألهمت شخصيته أعمالا فنية وأدبية مثل أوبرا «سافونارولا» للشاعر الإنجليزى توماس إليوت، أو لوحة «إحراق سافونارولا» للفنان الإسبانى «خوسيه مورينو كاربونيرو». وحتى الثورة الفرنسية بشعاراتها البراقة، تورطت فى حرق وإتلاف وتبديد العديد من الأعمال الفنية كجزء من محو تراث وثقافة العهد البائد. كما شهد العصر الحديث موجات لحرق الأعمال الفنية، ومنها ما فعلته النازية ضد الفنون الحداثية، التى وصفتها بالمنحطة خلال فترة الثلاثينيات. كما عرفت الثورة الثقافية الصينية (1966-1976) أيضا محوا للتراث الرأسمالى والكونفيشيوسى. شمل تحطيم العديد من اللوحات. ولا يمكن أن ننسى ما قامت به الحركات الجهادية الإسلامية مثل «طالبان» التى قامت بتفجير تمثالى «بوذا» العملاقين فى «باميان» عام 2001، وما قامت به جماعة داعش من تدمير مواقع أثرية فى الموصل وتدمر، وتمثال الثور المجنح فى نينوى.