في أروقة السلطة الأمريكية، لم تكن المواجهة مع الصين يومًا صراع تجاري أو سباق تكنولوجي فحسب.. بل كانت أيضًا معركة خفية بين نخب واشنطن المتنافسة على تحديد ملامح السياسة الخارجية. خلال 100 يوم من حكم ترامب، لم تكن الكلمة العليا في هذا الملف الحساس (سياسة واشنطن تجاه بكين) لصقور السياسة المخضرمين، بل لأولئك أنصار "أمريكا أولًا".. وبينما يزداد النفوذ الصيني تعقيدًا، يتراجع حضور أصحاب الخبرة، ويُعاد رسم المشهد الاستراتيجي الأمريكي تجاه بكين على إيقاع المزاج الشخصي ل الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب لا وفق رؤية مؤسسات الولاياتالمتحدة، بحسب صحيفة «ذي إيكونوميست» البريطانية. اقرأ أيضًا| في أقل من 90 يومًا.. ترامب يغرق أمريكا في فوضى اقتصادية حتى قبل قرارات ترامب بفرض الرسوم الجمركية الأمريكية القاسية على الصين، لم تكن سياسة إدارته تجاه بكين واضحة المعالم، فقرارات كثيرة اعتمدت على مزاج الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، فيما انقسم مستشاروه إلى معسكرات.. الأول يريد الهيمنة الأمريكية الكاملة عالميًا، والثاني يرى أن الصين هي الخصم الأهم ويجب التركيز عليها فقط، والثالث يدعو للانعزال والتركيز على الداخل. وبعد فرض ترامب الرسوم الجمركية الأمريكية على بكين، تزايدت الفوضى، لكن المؤكد أن "صقور الصين" - أي الداعين لسياسات متشددة ضد بكين - بدأوا يفقدون تأثيرهم بإدارة ترامب، وفقًا لما أشارت له «ذي إيكونوميست». ظهر هذا التراجع بوضوح في بداية أبريل الجاري، حيث أُقيل أو نُقل 6 مسؤولين بارزين من مجلس الأمن القومي الأمريكي، وراء هذه الإقالات كانت لورا لومر، إحدى الناشطات اليمينيّات المتطرفات، والتي اتهمت هؤلاء بأنهم لا يخدمون مصالح ترامب، بينما هذا التحرك صبّ في صالح تيار "الانعزاليين"، ومنهم نجل ترامب، ممن يرون في هؤلاء الخبراء بقايا "المحافظين الجدد" الراغبين في إشعال حرب مع الصين. أحد أبرز المُقالين كان ديفيد فيث، المسؤول عن ملف التكنولوجيا في مجلس الأمن القومي الأمريكي، والذي يحمل إرثًا عائليًا ثقيلًا في السياسة الخارجية الأمريكية، رغم كفاءته العالية وخبرته الطويلة في التعامل مع الصين، أُقيل على الأرجح لأنه يمثل نهجًا مؤسسيًا متشددًا لا يروق للمحيطين بالرئيس الأمريكي ترامب/ وخسارته تُعدّ مؤشرًا على صعود تيار العزلة وضعف خبرة إدارة ترامب الحالية تجاه الصين. أما مستقبل شخصيات أخرى مسؤولون سابقون في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض مثل إيفان كاناباثي وأليكس وونج أصبح غير مضمون، لومر هاجمتهما علنًا، وركزت على أصول وونج العرقية، ما أضعف من نفوذهما رغم بقائهما في مناصبهما آنذاك، وهذه الضغوط أثرت على سلطة رئيسهما (خلال ولاية ترامب الأولى)، بالإضافة إلى مايك وولتز، المعروف بتشدده تجاه الصين أيضًا في إدارة ترامب حاليا. اقرأ أيضًا| من الرسوم الجمركية للتوترات الاقتصادية.. رد فعل الصين على سياسات ترامب كاناباثي بالذات يُعدّ من أبرز المؤيدين لتايوان داخل البيت الأبيض، وله تاريخ طويل في دعمها، سواء أثناء عمله العسكري هناك أو في مساهماته الفكرية، يُراقبه الصينيون عن كثب، إذ كان جزءًا من لقاءات مهمة مع رئيسة تايوان، وينظر إليه كمحرك رئيسي للسياسات الأمريكية الداعمة للجزيرة التايوانية،لكن ضعف سلطته الآن يُقلق حلفاء أمريكا في آسيا. ومن غير الواضح حتى الآن كيف ستتأثر سياسة واشنطن تجاه بكين بعد هذه التغييرات في أروقة البيت الأبيض، فترامب لا يُبدي اهتمامًا كبيرًا إلا بالملف التجاري، ولا يبدو أنه يعي تفاصيل الصراع بين موظفيه، ولكن من المؤكد أن تمرير أي سياسات ضد الصين لم يعد بنفس السهولة كما في ولايته الأولى، ومع تزايد الحذر من استفزاز الصين ردًا على رسوم ترامب الجمركية، فإن أي إشارة أمريكية للضعف، خصوصًا في قضية تايوان، قد تُفسَّر كفرصة لبكين للتحرك عسكريًا، بحسب «ذي إيكونوميست». كما طالت التحولات أيضًا البنتاجون، رغم أن وزير الدفاع الأمريكي الحالي، بيت هيجسيث، لا يمتلك خلفية عسكرية قوية، فخلال جولته في آسيا، كرر تعهدات جو بايدن السابقة لطمأنة الحلفاء، لكن الاتجاه الاستراتيجي الحقيقي قد يظهر بعد تعيين إلبريدج كولبي كنائب وزير الدفاع للسياسات. حيث إن كولبي، المعروف بتشدده ضد الصين، عمل على وضع استراتيجية تحدد بكين وروسيا كخصمين رئيسيين، لكنه بدأ مؤخرًا يتبنى لهجة أكثر حذرًا، قائلاً إن على تايوان رفع إنفاقها الدفاعي بشكل غير واقعي، وإن أمريكا لا ينبغي أن تعتبر الدفاع عن الجزيرة التايوانية أولوية "وجودية". هذا التغير أكسبه دعمًا من رموز التيار الانعزالي المقرب من ترامب، مثل نائبه جي دي فانس ونجله، فهما يؤيدان السعي لاتفاق متوازن مع الصين وتجنب المواجهة، لكن هذا التحول يثير قلق دوائر الدفاع الأمريكية، التي تخشى أن يفضي ذلك إلى صفقة أمريكية-صينية تهدد أمن تايوان مقابل مكاسب تجارية. أما وزارة الخارجية الأمريكية، فقد تراجع دورها في ملف الصين، فمثلا وزير الخارجية الأمريكية ماركو روبيو معروف بمواقفه المتشددة، لكن مستشاره مايكل أنطون يرى أن الدفاع عن تايوان ليس من أولويات أمريكا، كما قد تقاعد بعض المسؤولين المخضرمين مؤخرًا، فيما المرشح لإدارة ملف شرق آسيا لا يملك سوى خبرة محدودة كسفير في تايلاند. أما الصين.. فتتابع هذه التحولات عن كثب، وفقًا ل «ذي إيكونوميست» يرى بعض الباحثين الصينيين أن إدارة ترامب الأولى كانت أكثر صقورية، أما الحالية فهي أضعف وتفتقر إلى العمق الاستراتيجي.. ويتوقعون أن تستمر في التصعيد الاقتصادي والتكنولوجي، ولكن دون أن تدخل في مواجهة عسكرية أو أيديولوجية حادة، نظرًا لضعف الخبرات داخل فريق ترامب. ورغم كل هذه المتغيرات، فإن سياسة ترامب تجاه الصين ما زالت تُرسم وفق أهوائه الشخصية بحسب صحيفة «ذي إيكونوميست» والتي قد تتبدل في لحظة، لكن من يدير التفاصيل اليومية، ويقرر الخطوات الدقيقة، بالتأكيد سيكون له تأثير بالغ الأهمية، خصوصًا إذا تصاعدت الحرب التجارية نحو المواجهة الأمنية،، «وقتها، ستكون الحسابات الخاطئة والقرارات المرتبكة أكثر من مجرد خطر.. بل تهديد جدي للاستقرار العالمي». اقرأ أيضًا| الصحف البريطانية تقرأ بين سطور ترامب: «هذه ليست مجرد رسوم.. إنها رسالة»