يبدو أن الإجراءات العقابية التي تبنّاها دونالد ترامب ضد الصين، والتي صُوّرت على أنها ضربة قاصمة ل"التنين الآسيوي"، كانت في الحقيقة الشرارة التي أيقظت العملاق النائم. فبينما كانت واشنطن تُشدد قبضتها بالرسوم الجمركية الأمريكية وتفرض حواجز على سلاسل التوريد العالمية، انطلقت بكين في مراجعة داخلية عميقة، مدفوعة بالخوف من العزلة العالمية ولكن أيضًا مدعومة برؤية استراتيجية طويلة الأمد. اقرأ أيضًا| «شيكاغو تريبيون» تهاجم الرسوم الجمركية الأمريكية: تعود للقرن السادس عشر وما كان يُفترض أن يكون حملة لكبح النمو الصيني، تحوّل دون قصد إلى عامل تسريع لمرحلة جديدة من الاكتفاء الذاتي، وإعادة التموقع في النظام العالمي. وفقًا لتحليل مجلة «ذي إيكونوميست» الأمريكية، قرارات ترامب لااخيرة لم تضعف الصين فحسب، بل أطلقت شرارة إصلاحات اقتصادية غير مسبوقة داخلها. قادة الحزب الشيوعي أدركوا أن الحرب التجارية ليست معركة على الرسوم الجمركية الأمريكية، بل اختبار لقدرتهم على تجاوز نموذج النمو القديم. وبدلاً من الانكماش، دفعت الضغوط الأمريكيةالصين لإعادة ضبط بوصلتها الاقتصادية: من اقتصاد يعتمد على التصدير.. إلى اقتصاد يراهن على السوق الداخلية، ومن استثمارات عقارية متضخمة.. إلى دعم التكنولوجيا المحلية المتقدمة. في الأثناء، وبينما كانت أمريكا تعيد حساباتها في تحالفاتها الآسيوية، كثّفت الصين من نفوذها في مبادرة الحزام والطريق، وأعادت تشكيل خطوط التجارة والتمويل في آسيا وإفريقيا. الأسلوب الذي اعتبره الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب انتصارًا تكتيكيًا، قد يكون في نظر التاريخ نقطة انعطاف استراتيجية قلبت موازين القوى العالمية: فالعقوبات لم توقف بكين، بل ربما علّمتها كيف تنمو من دون الاعتماد على الغرب. وهنا المفارقة الأكبر: ترامب أراد "أمريكا أولًا"، لكنه ربما يكون قد مهّد – من حيث لا يدري – لصعود الصين ثانيًا... ولكن بقوة العظمى هذه المرة. الصين تدخل عصر ترامب الثاني بقوة رغم الحصار الاقتصادي المتصاعد، تدخل الصين الحقبة الجديدة من "جعل أمريكا عظيمة مجددًا" وهي أكثر صلابة من أي وقت مضى، مقارنة بما كانت عليه خلال الولاية الأولى لدونالد ترامب. فلطالما أكد الرئيس الصيني شي جين بينج، أن الولاياتالمتحدة تعاني من انقسامات داخلية حادة وإرهاق إستراتيجي يمنعها من الاستمرار في لعب دور القوة المهيمنة عالميًا. شعاره الشهير عن "تغيرات هائلة لم يشهدها العالم منذ قرن" كان يُعتبر مبالغة قومية في الماضي، لكن مع التصعيد الأمريكي المتكرر، صار يُنظر إليه كرؤية استباقية للمستقبل. استراتيجية «شي»: الاكتفاء الذاتي كدرع ضد العقوبات منذ توليه السلطة في عام 2012، وضع شي، خطة طويلة الأمد استعدادًا لعالم تسوده الفوضى والمواجهة. وركّز على تعزيز الاعتماد الذاتي للصين، خاصة في مجالي الاقتصاد والتكنولوجيا، لمواجهة أي ضغوط خارجية، وعلى الرغم من بقاء النظام المصرفي الصيني بحاجة إلى الدولار، إلا أن غالبية المدفوعات الدولية غير المصرفية أصبحت تُنفذ باليوان، في مؤشر واضح على سعي الصين لتقليل هيمنته. اقرأ أيضًا| من وعود الحماية لسباق التسلح.. هل تُجبر سياسات ترامب الحلفاء على امتلاك النووي؟ شركات الصين تتفوق في صمت ورغم عدم الاعتراف الغربي الكامل، يتمتع الاقتصاد الصيني المحلي بقدرات مبهرة، حيث تدفع التكنولوجيا والمنافسة الداخلية الشركات الصينية إلى التفوق على نظيراتها الغربية في مجالات عديدة، من السيارات الكهربائية إلى ما يُعرف ب"اقتصاد الطيران المنخفض" الذي يشمل الطائرات المسيّرة وسيارات الأجرة الطائرة. ومن وجهة نظر صينية، فإن الرسوم الجمركية الأمريكية "الترامبية" قد تدمر ديترويت من جديد، تمامًا كما أضعفت حملة ترامب على الجامعات الأمريكية قدرة البلاد على الابتكار. اقرأ أيضًا| ترامب أمام معركة مزدوجة| وقف الحرب الروسية الأوكرانية وكبح التوسع الصيني في أفريقيا مشروع ذكاء اصطناعي يتحدى الحظر الأمريكي مثال حي على نجاح الصين في مواجهة القيود الأمريكية هو مشروع DeepSeek، الذي يُجسد براعة بكين في الابتكار رغم الحظر المفروض على تكنولوجيا أشباه الموصلات. ومع تركيز الحزب على الذكاء الاصطناعي المحلي، تتجه الصين لتطبيق هذه التقنية بسرعة تفوق الغرب، ما قد يُحدث طفرة في الإنتاجية. كما يُلاحظ تغير في نبرة شي تجاه رواد الأعمال، مما ساعد في رفع مؤشر MSCI للأسهم الصينية بنسبة 15% خلال عام 2025، مقابل تراجع في الأسواق الأمريكية. انتعاش سوق العقارات وإنعاش الاستهلاك بعد 4 سنوات من أزمة العقارات، بدأ هذا القطاع يتعافى تدريجيًا، خاصة في مدن كبرى مثل شنجهاي ونانجينج، حيث بدأت الأسعار في الارتفاع مجددًا. كما أطلق الحزب الشيوعي مبادرات جديدة لتحفيز الاستهلاك، بينها السماح للحكومات المحلية بإصدار سندات جديدة بقيمة 6 تريليونات يوان أي نحو 830 مليار دولار، على مدار ثلاث سنوات، إلى جانب 4.4 تريليونات أخرى من السندات "الخاصة" خلال العام الحالي، سيتم تخصيص جزء منها مباشرة لدعم الأسر. اقرأ أيضًا| ضربة اقتصادية مزدوجة.. الاتحاد الأوروبي يستعد لمعاقبة ترامب وشركات التكنولوجيا الكبرى رسالة جديدة: أوقفوا خنق القطاع الخاص لكن لكي تستفيد الصين بالكامل من هذه الفرص الاقتصادية، لا بد أن يتوقف التضييق على رواد الأعمال، بحسب تحليل مجلة «ذي إيكونوميست» الأمريكية. حتى كبار قادة الحزب الشيوعي باتوا يدركون أن حملة "الرخاء المشترك"، التي بدأت عام 2021 واستهدفت القطاع الخاص، قد خرجت عن السيطرة. ففي مارس 2025، استغل نائب الرئيس الصيني، لي تشيانج خطابًا علنيًا للإشادة برواد الأعمال في مدينة هانجتشو مركز الابتكار الصيني في محاولة لإعادة الثقة للقطاع الخاص وتوجيه رسالة ضمنية ببدء مرحلة جديدة أكثر توازنًا. مخرج ذكي من فخ العقارات لفتت مجلة «ذي إيكونوميست»، إلى أنه لا يزال الاقتصاد الصيني بحاجة إلى جرعة تحفيزية إضافية، ليس فقط لإنعاش الاستهلاك المحلي، ولكن أيضًا لاستعادة ثقة الأسر التي أثقلها ركود سوق العقارات. فدفع العائلات للإنفاق مجددًا لا يخدم الداخل فقط، بل يُسهم أيضًا في امتصاص فائض الطاقة الإنتاجية، ما يُحسّن صورة الصين التجارية عالميًا. وبينما تُغلق أمريكا أبوابها أمام التجارة العالمية، ترى بكين فرصة لإعادة صياغة علاقتها الاقتصادية مع شركائها، من خلال تقديم عروض استثمارية في قطاع التصنيع بدلاً من إغراق الأسواق بالواردات الصينية. تحالفات جديدة وتكتيك تجاري صيني مضاد للعزلة تتقاطع هذه الفرص الاقتصادية مع مكاسب جيوسياسية محتملة، ففي حين تتخذ السياسة الأمريكية تجاه الصين طابعًا غامضًا ومتناقضًا، يواصل المتشددون في واشنطن الدفع باتجاه احتواء بكين، مستفيدين من انسحاب الولاياتالمتحدة التدريجي من أوروبا. لكن في المقابل، يُبدي الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب إعجابه العلني بالرئيس الصيني، شي جين بينج، بل أوفد حليفه السيناتور ستيف داينز إلى بكين لاستكشاف إمكانية التوصل إلى صفقة جديدة. في ولايته الأولى، تفاوض ترامب على اتفاق تجاري مع الصين، أما الآن، فتبدو أولويته عقد صفقة جديدة ، ولكن هذه المرة تتعلق بتطبيق «تيك توك»، رمز الحرب التكنولوجية بين البلدين. «صفقة كيسنجر مقلوبة؟» تُراهن الصين على أن الحديث الأمريكي عن إعادة تشكيل التحالفات عبر ما يُعرف ب"صفقة كيسنجر العكسية" التي تفترض إبعاد روسيا عن الصين مجرد وهم.. فالحماية التجارية التي ينتهجها دونالد ترامب، واستغلاله لحلفاء أمريكا، وتجاهله لملف حقوق الإنسان، تُظهر بوضوح أن "منارة العالم الحر" باتت غير مستقرة، بل وخطيرة. في هذه اللحظة، لا يسعى شي جين بينج، إلى الحلول محل أمريكا كقوة عالمية، لكنه يرى فرصة نادرة لتوسيع نفوذ الصين، خصوصًا في دول الجنوب العالمي، وإذا قررت بكين، إلى جانب نشرها للتقنيات النظيفة، خفض الانبعاثات الكربونية داخليًا، فقد تبرز كقوة رائدة عالميًا في ملف التغير المناخي، وهو مجال تنسحب منه واشنطن تدريجيًا. اقرأ أيضًا| ترامب و«الفوضى المنظمة».. كيف تواجه الدول نهجه غير المتوقع؟ انسحاب أمريكا من أوكرانيا والناتو.. «هدية غير مباشرة لبكين» سلوك ترامب المتكرر في التقليل من شأن حلف شمال الأطلسي «الناتو» والتخلي عن دعم أوكرانيا ترك أثرًا عميقًا على مصداقية التزامه تجاه حلفاء الولاياتالمتحدة في آسيا. وهناك تساؤلات جدية حول استعداده للدفاع عن تايوان إذا اندلع الصراع، وإذا واصلت أمريكا تعزيز إنتاجها المحلي من أشباه الموصلات المتقدمة، فقد تتضاءل دوافعها الاستراتيجية للدخول في نزاع لحماية الجزيرة، ما يُعد فرصة استراتيجية نادرة للرئيس الصيني شي جين بينج. مخاطر أمام التوسع الصيني رغم هذه الفرص، فإن المخاطر ما تزال قائمة أمام الصين، فحرب تجارية شاملة قد تدفع الاقتصاد العالمي نحو الركود، وإذا لم تنجح إدارة ترامب في التوصل إلى اتفاق جديد مع بكين، قد يتجه إلى تصعيد العقوبات أو شن هجمات على العملات. والأسوأ، أن الصين نفسها قد تضر بصورتها الدولية إن عادت إلى إغراق الأسواق العالمية بصادرات رخيصة. في نهاية الأمر، نجاح الصين في اقتناص هذه الفرصة الآن يعتمد على قرارات رجل واحد، ألا وهو: شي جين بينج، لكن من المفارقات، أن هذه الفرصة ما كانت لتظهر لولا سياسات رجل آخر، وهو دونالد ترامب...