توني وود ترجمة: أسماء يس عكرت تطورات جرت أواخر 1968 مزاج يوسا. ففي نوفمبر من ذلك العام، أرسل لماركيز رسالة محبَطة للغاية، لدرجة أن ماركيز قال إنه «اضطر إلى شرب نصف لتر ويسكي لهضمها» يحب الناس الحديث عن الكُتاب الذين كانت لديهم ميول يسارية راديكالية، ثم انجرفوا نحو اليمين. لكن التطور السياسي ليوسا كان مذهلاً لدرجة أنه أحيا هذا النمط المُستهلك. ومع أنه يصف نفسه بأنه ليبرالي، اتخذت مواقفه في السنوات الأخيرة نمطًا رجعيًّا؛ في 2018، احتفل بسجن لولا دي سيلڤا بتهم فساد مشكوك فيها، وفي العام التالي ابتهج لانقلاب يميني أطاح بإيڤو موراليس في بوليڤيا. بعدها دعم مرشحي اليمين المتطرف مثل أنطونيو كاست في تشيلي، وجاير بولسونارو في البرازيل، وفي 2023 كان من معارضين يمينيين دعموا خابيير ميلي في الأرچنتين. ولعل أكثر تصرفاته لفتًا كانت في انتخابات بيرو 2021 حين وصف كيكو فوجيموري بأنها أهون الشرين مقارنة باليساري بيدرو كاستيو. وهذا انقلاب شخصي؛ فقد خسر يوسا الانتخابات عام 1990 أمام والد فوجيموري، ألبرتو، وقضى عقودًا تالية ينتقده بدعوى الاستبداد. كان يوسا اشتراكيًّا، ومثل كثيرين من أبناء جيله تعاطف مع الثورة الكوبية، واعتبرها النسخة الأقل تعصبًا من الاشتراكية، والأكثر ملاءمة لظروف قارته. وفي حين ساورته مخاوف بشأن الرقابة السوڤيتية، رأى في معظم سنوات الستينيات الشيوعية بديلاً قابلاً للتطبيق عن الرأسمالية؛ وآمن أن الاتحاد السوڤيتي «تقدم كبير للبشرية». وفقًا لما رواه، بدأت خيبة أمله بالاشتراكية في 1968 خلال رحلة استغرقت خمسة أيام للاتحاد السوڤيتي. وذكر في سيرته (نداء القبيلة، 2018)، أن الزيارة «خلّفت مذاقًا مرًا في فمي». فما رآه لم يكن نموذجًا للمستقبل الاشتراكي، بل «فقر وسكارى في الشوارع وحالة عامة من اللامبالاة». والمناخ الفكري الخانق أسوأ «لو كنت روسيًّا لانشققت». تركته هذه التجربة «على وشك الصدمة»! لكن ليس واضحًا إن كانت إقامة يوسا القصيرة في الاتحاد السوڤيتي هي فعلاً نقطة التحول الدراماتيكية. بشأن خمسة أيام، يعتمد المؤرخ كارلوس أجيري والباحثة الروسية كريستينا بوينوڤا على مواد أرشيفية سوڤيتية ومراسلات يوسا لإعادة بناء زيارته. ويتبدى من غربلتهما الدقيقة للأدلة أن يوسا كان لديه ردود فعل أكثر تحفظًا تجاه ما طالعه، وأن الصدمة التي وصفها مؤخرًًا «بناء لاحق»؛ إعادة قراءة لذكرياته في ضوء تحولاته الفكرية اللاحقة. وقت الرحلة كان يوسا نشر روايتين، وصار أحد أعمدة الازدهار اللاتيني. لاقت روايتا (زمن البطل، 1963) و(البيت الأخضر، 1966) استقبالاً جيدًا؛ فازت الأولى بجائزة النقاد، وفازت الثانية بجائزة رومولو جاييجوس. ورغم الرقابة الفرانكوية، كان النشر بإسبانيا شرطًا أساسيًّا احتاجه كُتّاب أمريكا اللاتينية لنيل اعتراف أوسع. المثير في رواية أجيري وبوينوڤا حجم قراء الكُتّاب اللاتينيين في الاتحاد السوڤيتي؛ فقد بلغ عدد نسخ الطبعات الروسية من (زمن البطل) 115 ألف نسخة، وهو رقم نادر لرواية مترجمة. وبالمقارنة، بلغ إجمالي عدد نسخ الطبعات الست منها في إسبانيا 25 ألف نسخة، ما يدل على كتاب ناجح للغاية. دعا اتحاد الكتاب السوڤيتي يوسا لزيارة وحضور احتفالات مئوية ميلاد مكسيم جوركي. (في كتاب (نداء القبيلة) ذكر خطأً أنه كان احتفالاً ببوشكين). يشير أجيري وبوينوڤا إلى سفر كتاب من أمريكا اللاتينية للاتحاد السوڤيتي في الستينيات؛ بعضهم من باب الحج للشيوعية؛ والبعض الآخر، الأقل ارتباطًا بالكتلة السوڤيتية، مجرد فضول. حالة يوسا أكثر غرابة؛ في عام 1968 بالذات رفض كُتّاب غربيون هذه الدعوات احتجاجًا على الرقابة السوڤيتية، خصوصًا بعد محاكمة سينياڤسكي ويولي دانيال عام 1966 بتهمة «التحريض والدعاية المعادية للسوڤيت». وكان يوسا نفسه جزءًا من جوقة احتجاج دولية ضد المحاكمة، معتبرًا أنه «إما أن تقرر الاشتراكية أن تقمع إلى الأبد مَلَكة إنسانية هي الإبداع الفني، وتقضي تمامًا على جماعة اجتماعية تسمى الكُتّاب، أو أن تحتوي الأدب تحت جناحها». يكشف أجيري وبوينوڤا تفصيلاً غريبًا آخر: تلقى يوسا نصف أمواله مقدمًا وبالعملة الأجنبية. فيما كان على معظم الكتاب السفر للاتحاد السوڤيتي للحصول على مستحقات متواضعة، وبالروبل؛ ما يعني أيضًا أنهم مضطرون لإنفاق هذه الأموال قبل المغادرة. وهذا أحد أسباب قدمها ماركيز، الذي قام بجولة في الكتلة الشرقية 1957، لرفض دعوة الاحتفال بمئوية جوركي. قال لصديق: «أفضل أن أخسر المال ولا أضطر إلى الذهاب لهناك». وأضاف إن موسكو «القرية الأكثر مللاً في العالم.. وأن الماركسية لا يمكن أن تتقدم لما هو أبعد». ربما كوفئ يوسا على موافقته على الزيارة. لكن أجيري وبوينوڤا يشيران لسبب آخر. لم يعامل كُتّاب شيوعيون «مخلصون» معاملة حسنة، لأن التزامهم بالقضية بديهي. لكن المسؤولين الأدبيين السوڤيت وضعوا يوسا بخانة مختلفة: فقد كان متعاطفًا برجوازيًّا مع الثورة الكوبية. وكانوا حريصين على كسب ود هؤلاء المثقفين في ظل التوترات المستمرة بين موسكو وهاڤانا. وفقًا لتقرير قدمته مترجمته ومرافقته في الرحله تمارا زلوتشيفسكايا؛ فإن يوسا «أوْلى كل ما رآه في موسكو اهتمامًا بالغًا»، و»أعطى انطباعًا بأنه رجل ذو شخصية قوية، تقدمي، جريء في أحكامه وتصريحاته». لكن يبدو أن تحفظه لم يكن مجرد مسألة تأدب فبعد ثلاثة أشهر، كتب انطباعاته عن الرحلة، وكانت إيجابية لحد ما: وأشار إلى أن «نصف قرن من الاشتراكية قلَّص الظلم الاجتماعي إلى مستوى ضئيل مقارنةً بدول الغرب». ويبدو أن انتقاده الرئيسي للاشتراكية السوڤيتية أنها لم تحقق تحولاً كافيًا في المجتمع؛ وفي محادثاته الخاصة، أفاد بأن الاهتمامات المادية الدنيوية، كالعطلات والسكن وشراء سيارة، تطفو على السطح أكثر بكثير من الأفكار السياسية، وأن موسكو قدمت مشهدًا «روتينيًّا وغير موضوعي ورتيب» تُقدمه «أي مدينة رأسمالية كبرى». لكن إن لم تُفض زيارة موسكو إلى قطيعة مع الاشتراكية، فماذا فعلت؟ يتجلى رد فعله على الرقابة بوضوح في سردية أجيري وبوينوڤا، فحتى قبل الرحلة، أعرب يوسا عن مخاوفه في هذا الشأن، ليس فقط تضامنًا مع سينيافسكي ودانيال، بل لأن الترجمة شوَّهت رواياته. لقد أُبلغ بإجراء سلسلة من المحذوفات والتعديلات على رواياته. اتضح أن معظمها متزمت، فقد خُففت حدة الإشارات إلى الجسم، وحدة الكلمات البذيئة، وأزيلت المواد المتعلقة بالمثلية الجنسية. (يقدم أجوير وبوينوڤا تفصيلات مفيدة هنا تقطع بأن «الخصيتين» ترجمت إلى «منطقة العانة»، و»المستمنين» إلى «أغبياء»، وتم إغفال مشاهد المثلية الجنسية تمامًا). لم يكن هذا النوع من التهذيب غير مألوف. فقد حذفت كذلك مشاهد جنسية من الطبعات الروسية لرواية (مئة عام من العزلة) ورواية (الحجلة). معظم المؤلفين لم يدركوا هذه التغييرات إلا لاحقًا، إن أدركوها، لأن المحررين والمترجمين السوڤيت لم يستشيروهم. لكن يوسا غضب عندما علم. وكما ذكر في مقال نُشر عام 1967: «يصدر لي كتاب في دولة اشتراكية دون استشارتي، ودون حتى إعلامي، وقد تشوهت نحو 50 صفحة». بعد ثلاثة أشهر من زيارته، دخلت الدبابات السوڤيتية تشيكوسلوڤاكيا. ووفقًا لأجيري وبوينوڤا، كان غزو أغسطس 1968 وتأييد فيدل كاسترو العلني له هما السببان الحقيقيان لخيبة أمل يوسا في الاشتراكية. ومثلما هو الحال لكثيرين غيره، فقدت كل من الاشتراكية السوڤيتية والكوبية عنده مصداقيتها بضربة واحدة. فكتب مذهولاً إلى نينا بولجاكوڤا، حلقة وصله باتحاد الكتاب، أن الأحداث «أثرت في بشدة... خصوصًا أني معجب بالثورة السوڤيتية وأعتبر نفسي صديقًا لها». (ردت بولجاكوڤا بتهرب إن «كل الأمور ليست بالبساطة التي تبدو عليها»). في سبتمبر 1968، نشر مقالاً ينتقد دعم كاسترو للتدخل السوڤيتي في تشيكوسلوڤاكيا، ما أثار حفيظة هاڤانا على ما يبدو. بعد شهر، كان يوسا من بين كُتّاب حركة «البوم» يدافع عن الشاعر الكوبي ايبرتو باديا ضد اتهامات ب«الثورة المضادة». ذلك الجدل الكريه الذي سلَّط الضوء على بيروقراطية الثقافة الكوبية، وبلغ ذروته بسجن باديا عام 1971. عكرت تطورات جرت أواخر 1968 مزاج يوسا. ففي نوفمبر من ذلك العام، أرسل لماركيز رسالة محبَطة للغاية، لدرجة أن ماركيز قال إنه «اضطر إلى شرب نصف لتر ويسكي لهضمها». وفي يناير 1969، أخبر يوسا الكاتب التشيلي خوسيه دونوسو «لا يزال يتعين على المرء دعم الثورة الكوبية بقوة، لأن كل شيء آخر محض هراء». لكنه منذ تلك اللحظة، ابتعد عن كوبا أيضًا، متراجعًا عن مشاركته في المؤسسة الثقافية الكوبية كاسا دي لاس أميريكاس، مستمرًا في انتقاد تعامل النظام مع قضية باديا. يرى أجيري وبوينوڤا، أن وصف يوسا اللاحق لزيارته لموسكو «وسيلةً لترسيخ ذكرى حادثة بالغة الرمزية، لم تضعها السردية الجديدة في اعتبارها». ذكريات يوسا تخصه بالطبع، لكن وصفه للزيارة في (نداء القبيلة) يبدو أشبه بأسطورة آيديولوجية متوقعة. وفكرة «صدمته» من زيارة عام 1968 تقوضها حقيقة أنه عاد في عام 1977 وتولى رئاسة نادي القلم. كان ليحسب ليوسا أن سبب خيبة أمله في اليسار قمع ربيع براغ، وتدهور المناخ الفكري في كوبا. فلماذا إذن جعل رحلة موسكو تبدو أكثر حسمًا مما هي عليه؟ ربما عندما كتب (نداء القبيلة)، كان قد توصل إلى اعتقاد بأن إرسال الدبابات خيار معقول، ما دامت تُستخدم ضد اليسار، مثلما نصحه العديد من أصدقائه الجدد من اليمين اللاتيني. ربما يبدو غريبًا أيضًا أن يحوِّل زيارته لموسكو إلى أسطورة من أساطير الحرب الباردة بعد 27 عامًا من انهيار الاتحاد السوفيتي.