شهد التاريخ الاسلامي بعض الفتن الخطيرة التي هددت الدولة الاسلامية الوليدة ومزقت الصف الواحد للعرب بعد رحيل الرسول صل الله عليه وسلم. وكانت العناية الإلهية حاضرة بقوة وحفظت الاسلام والمسلمين من الفتن والمؤامرات التي كانت تحاك لهم في الظلام من حثالة البشر وأعداء الدين. في السطور التالية نتعرف على واحدة من هذه الفتن الكبرى وكيف تغلب عليها المسلمون بقوة عقيدتهم وثبات إيمانهم. فتنة مقتل عثمان أو الفتنة الكبرى وتُعرف كذلك بالفتنة الأولى هي مجموعة من القلاقل والاضطرابات والنزاعات أدت إلى مقتل الخليفة عثمان بن عفان في سنة 35 ه، ثم تسببت في حدوث نزاعات وحروب طوال خلافة علي بن أبي طالب. كان للفتنة الكبرى أثرًا كبيرًا في تحويل المسار في التاريخ الإسلامي، فتسببت لأول مرة بتوقف الفتوحات وانشغال المسلمين بقتال بعضهم البعض، كما تسببت ببداية النزاع المذهبي بين المسلمين، فبرز الخوارج لأول مرة كجماعة تطالب بالإصلاح وردع الحاكم الجائر والخروج عليه، كما برزت جماعة السبئية المتطرفة التي اتفقت على تقديم أهل البيت على جميع الناس وغالت في حبهم. كما كان من آثار الفتنة مقتل عددٍ مهول من الصحابة على رأسهم عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب فيما بعد. كما كانت من أبرز تحولات المسار، انتهاء عصر دولة الخلافة الراشدة والخلافة الشوريَّة، وقيام الدولة الأموية وبروز الخلافة الوراثيَّة. بداية الفتنة لم يغير عثمان بن عفان الولاة الذين عينهم عمر بن الخطاب عند توليه الخلافة؛ وذلك لوصية عمر بأن يبقي على ولاته في مناصِبهم لمدة سنة بعد وفاته، خِشية من تغيير مُستعجل، يضطرب له أمر المسلمين. وأغلب هؤلاء الولاة ليسوا من قريش، وليس فيهم أحد من عشيرة عمر حيث كان عمر يختار ولاته على أساس الكفاءة، وكان يراقب عماله في أمور الدين والدنيا، ولا يتأخر في عزل من ثبت تقصيره. ثم بعد ذلك قام عثمان بمباشرة سلطته في العزل والتولية فكانت الولايات تختلف فيما بينها من ناحية الأهمية اختلافًا شديدًا. فكان لبعضها خطر سياسي وإداري وعسكري وهي تلك الولايات البعيدة التي حُرِّرت من السيطرة الرومية والفارسية وهي أربع ولايات: الشام ومصر والكوفة والبصرة. وكانت كل واحدة من هذه الولايات تواجه جبهة مفتوحة نتيجة الفتوحات الإسلامية المستمرة. وتُقاد من هذه الولايات جيوش المسلمين المنطلقة إلى التحرير في الجهات الثلاثة. فكان بحر وبلاد الروم في مواجهة الشام، وكان البحر وبلاد إفريقية في مواجهة مصر، وكان ما لم يُفتح بعد من بلاد فارس أمام الكوفة والبصرة. إذن لا ريب أن تكون هذه الولايات الأربع، موطن القوة الإسلامية العسكرية. إضافة لذلك فقد كانت هذه الولايات مصدرًا لثراء المسلمين وفيها حضارات مستقرة، وأراضِ خصبة، وكان تأتي منها كل غنائم الفتوحات الإسلامية في الشرق والغرب والشمال. لم يُلقِ عثمان أهمية للولايات التي لم يكن لها خطرًا سياسيًا أو عسكريًا. وأبقى على ولاة عمر في تلك الولايات ولم يغير منهم إلا القليل. إلا أنه سارع في تغيير الولاة في الولايات الخطرة فور انتهاء العام الأول من حكمه. من أوائل التغييرات السياسية التي قام بها عثمان هو عزل المغيرة عن الكوفة وتولية سعد بن أبي وقاص عليها سنة 24 ه، وكان هذا التعيين بسبب وصية سابقة لعمر بن الخطاب. إلا أن إمارة سعد على الكوفة لم تستمر طويلاً. حيث اضطر عثمان إلى عزل سعد اضطرارًا وولى بدلاً مِنه الوليد بن عقبة سنة 26 ه. لم يكن أهل الكوفة يطمئنون للوليد. لأنه كان من المذمومين في عهد رسول الله ونزل ذمه في القرآن. حيث غش الرسول وكذب عليه، وأنزل الله فيه قرانًا فقال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ 6﴾ [الحجرات:6] وكان هذا الفاسق المقصود هو الوليد. كان عمر بن الخطاب قد مات وعلى مصر عمرو بن العاص واليًا عليها. فما كاد بعض الوقت من ولاية عثمان ينقضي حتى جعلت قرابة عثمان تنظر إلى أحد أهم أمصار المسلمين نظرة لا تخلو عن الطمع والطموح إليها. وكانت مصر جبهة مفتوحة إلى إفريقية حيث لم يُقصِّر عمرو في غزوها لفتحها والعودة من غزواته محملاً بالغنيمة، متوليًا مهمة فتح البلدان المجاورة طيلة سنين، إلا أن عثمان سرعان ما قرر كف عمرو بن العاص عن غزو إفريقية، وأرسل جيشًا لا يذعن لسلطان الوالي بمصر، وإنما يتصل بالمدينة مباشرة، متخطيًا عمرو بن العاص على غير المألوف. حيث أن قادة الأمصار هم من يتولون قيادة الغزوات والفتوحات عادة. وكان المكلف بقيادة هذا الجيش عبد الله بن سعد بن أبي سرح وهو أخو عثمان من الرضاعة. ووعده بأنه لو استطاع فتح إفريقية فله خمس الخمس (أي 4%) من الغنيمة. ومن الطبيعي أن يغضب عمرو لهذا التهميش. لأن عثمان قد خص عبد الله به عن نظرائه من العمال. فلم يكن عثمان يرسل الجيوش من قبله مباشرة إلى الثغور. وإنما كان ذلك إلى العمال حيث يغزو معاوية الروم ويغزو عامل البصرة والكوفة فارس. كان معاوية بن ابي سفيان أعظم الولاة حظًا من كل شيء في أيام عثمان. فكان عُمر قد ولى معاوية حكم دمشق، وولى أخاه يزيد بن أبي سفيان حُكْم الأردن، وعندما مات يزيد ضم عمر الأردن إلى سلطة معاوية، فاتسعت بذلك سلطاته. وبعد موت عمر، كان معاوية من المقربين لعثمان، حيث أن معاوية هو ابن عم عثمان، فلم يغيره. بل على العكس، حيث ضم إلى سلطته الكبيرة: فلسطين، بعد موت حاكمها عبد الرحمن بن علقمة، وعزل عمير بن سعد الأنصاري حاكم حمص، وضمها إلى معاوية أيضًا. وبذلك اجتمعت عند معاوية الأجناد الأربعة وبسط قوته على بلاد الشام كلها، ليصبح ذا سلطة عالية لا ينافسه فيها أحد. السياسة المالية كانت السياسة المالية لعثمان من أكثر الأمور التي أثارت الرأي العام ضده. إن عثمان كان ذا ثروة عظيمة، وكان وَصُولاً للرحم. يصلهم بصلات وفيرة، فنقم عليه أولئك الأشرار، وقالوا بأنه إنما كان يصلهم من بيت المال، وعثمان قد أجاب عن موقفه هذا بقوله: وقالوا إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي لهم فإنه لم يُمِل معهم إلى جَوْر، بل أحمل الحقوق عليهم، وأما إعطاؤهم فإني إنما أعطيهم من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد من الناس، وقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرعية من صلب مالي أزمان رسول الله صل الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي وفنى عمري وودعت الذي لي في أهلي قال الملحدون ما قالوا؟. يقول ابن كثير: «وقد كان عثمان كريم الأخلاق ذا حياء كثير، وكرم غزير، يؤثر أهله وأقاربه في الله تأليفا لقلوبهم من متاع الدنيا الفاني، لعله يرغبهم في إيثار ما يبقى على ما يفنى، كما كان النبي صل الله عليه وسلم يعطي أقوامًا ويدع آخرين إلى ما جعل في قلوبهم من الهدى والإيمان، وقد تعنت عليه بسبب هذه الخصلة أقوام، كما تعنت بعض الخوارج على رسول الله صل الله عليه وسلم في الإيثار فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنيمة بالجعرانة. إذ قال له رجل: اعدل، فقال: «شقيت إن لم أعدل». ويحتج عثمان لبره أهل بيته وقرابته مخاطبا مجلس الشورى بقوله: أنا أخبركم عني وعما وليت، إن صاحبيّ اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما ومن كان منهما سبيل احتسابا، وإن رسول الله صل الله عليه وسلم كان يعطي قرابته وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش، فبسطت يدي في شيء من ذلك لما أقوم به فيه، فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه. » عبد الله بن سبأ يعتقد أهل السنة أن سبب بداية القلاقل والسخط على حكم عثمان بسبب شخص يدعى عبد الله بن سبأ. ويعرفه أهل السنة على أنه من يهود صنعاء ومعروف بابن السوداء، أظهر الإسلام ووقف موقف العلماء، حاول التأثير في الأعراب والأمصار والذين دانوا حديثًا بالإسلام. جعل يطعن في الخليفة عثمان ويقول إنه عين الولاة لقرابتهم به، وأنه حرق المصاحف بعد أن صار لعبد الله بن سبأ أتباعا. ووصل الأمر إلى الخليفة فجمع أمراء الأمصار في موسم الحج سنة 34ه وقد رأى عثمان أن يلين لهم ويؤلف قلوبهم. في ذي الحجة من عام 35 ه جمع المتمردون أنفسهم من البصرة، والكوفة، ومصر، وبدأوا في التوجه ناحية المدينةالمنورة؛ لمطالبة عثمان بالرجوع عن موقفه، وعزل بعض الأمراء الفاسدين من بني أمية، وطلبوا مناظرة عثمان رضي الله عنه في ما وصلوا إليه من مطاعن في حقه وأظهروا أنهم أتوا للحج. وواجهوا عثمان، إلا أنه قابلهم بالحجج، وأوضح لهم موقفه، فلم يقتنعوا وتظاهروا بالطاعة والرجوع إلى بلادهم. مقتل عثمان وكانت المعارضة تشتد في الولايات وتصل أصداؤها إلى المدينة، وتشتد في المدينة فيصل أصداؤها إلى الولايات البعيدة فتزداد جرأة، حتى كتب أصحاب الرسول المقيمين في المدينة إلى أصحابهم خارج المدينة بالقدوم إليها لتصحيح ما اعوج من أمور الخلافة. فتكاثر الناس واجتمعوا في المدينة سنة 34 ه، ولاموا عثمان على سياسته، ثم كلفوا الإمام علي بن أبي طالب أن يدخل على عثمان فيكلمه. فدخل عليه وقال له بعد أن مدحه كلاماً منه: «تعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل، هُدي وهَدى، فأقام سنة معلومة، وأمات بدعة متروكة، فوالله إنَّ كُلّاً لبَيِّن، وإن السنن لقائمة لها أعلام، وإن البدع لقائمة لها أعلام، وان شر الناس عند الله إمام جائر، ضَلَّ وضُلَّ به، فأمات سنة معلومة، وأحيا بدعةً متروكة». ولم يكن للمصريين حلا سوى أن يرسلوا وفدًا إلى المدينة يطلبون فيه من عثمان كف عماله عن التسلط على رقاب المسلمين ومُقدّراتهم. فخرجوا ب 35 وفدًا ضخمًا في رجب من عام 35ه يظهرون أنهم يريدون العمرة. فأرسل لهم عثمان جماعة من المهاجرين والأنصار على رأسهم علي بن أبي طالب ومحمد بن مسلمة الأنصاري ليلتقوا بهم في قريةٍ خارج المدينة. فخرج لهم علي ومن معه فوعدهم على لسان عثمان أن ينفذ مطالبهم، وقدم وفد منهم إلى عثمان في داخل المدينة، فخطب بهم وأثنى عليهم وأعطى التوبة واستغفر الله، وبكى وبكى الناس ورضوا بما قطعه عثمان على نفسه من عهود. وغادر وفد المصريين المدينة عائدين إلى ديارهم. وما إن عادت وفود المصريين إلى مصر حتى تلقاهم عبد الله بن أبي سرح بعد أن عرف بأمرهم، فضرب رجلا منهم فقتله ومرت الأيام بدون أن يعزل عبد الله بن أبي سرح فتواعد المصريون مع أهل الكوفة والبصرة للقدوم إلى المدينة بعد أن استيأسوا من وفاء الخليفة بعهوده. فتحركوا في شوال من نفس السنة صوب المدينة. وما إن وصلت وفود المعارضين إلى ضواحي المدينة، طلب عثمان من علي أن يخرج لهم فأبى، وأبى كذلك محمد بن مسلمة وقال: لا أكذب الله في السنة مرتين. وهنا ارتفعت مطالب المعارضين الذين تحولوا إلى ثوار فطالبوا بأن يعزل عثمان نفسه، وأن يولي كبارُ صحابة المسلمين خليفةً جديداً بدلاً عنه. فرفض عثمان ذلك، وما كان من الثوار إلا الاعتصام في المدينة حتى تنفذ مطالبهم، وكانوا خلال ذلك لا يضايقون عثمان وكانوا يصلون وراءه. حتى كتب عثمان إلى عماله كتابًا يدعوهم فيه إلى إرسال مقاتلين حتى ينصروه على الثوار، فعلم الثوار بأمر الكتاب، فبدأ الحصار، وتغيرت معه سيرتهم مع عثمان. فخرج عثمان على المنبر يلعن الثوار، فتشاجر القوم بالأيدي، حتى ضُرِب عثمان، فسقط مغشيًا عليه، وحمل إلى بيته، وضرب الثوار حصارًا على بيته ومنعوه من الخروج منه. ثم أخذت الأمور تصل إلى حدتها بالتأزم عندما قُتل أحد الثوار وهو «نيار بن عياض الأسلمي» عندما رمى أحدُ المحاصَرين من داخل دار عثمان سهماً نحوه. فقالوا لعثمان عند ذلك: ادفع إلينا قاتل نيار بن عياض فلنقتله به، فقال: لم أكن لأقتل رجلاً نصرني وأنتم تريدون قتلي. حتى بلغ الأمر ذروته فاقتحم الثائرون الدار، وتشابكوا مع أهله، فأصابوا عبد الله بن الزبير بجراحات كثيرة، وصُرع مروان بن الحكم حتى اعتقدوا أنه مات، ودخلوا على عثمان فقتلوه. في يوم الجمعة 18 من ذي الحجة سنة 35ه، ودفن بالبقيع. اقرأ أيضا: الخلفاء الراشدون l عثمان بن عفان.. ذو النورين