"لم يكن الأمر مجرد خلاف مهني، بل كان صراعًا بين الالتزام بالمصداقية والضغوط التي مورست على تغطية أحداث غزة"، بهذه الكلمات لخصت الصحفية السابقة كاريشما باتيل تجربتها داخل هيئة الإذاعة البريطانية «BBC» في مقالها المنشور في صحيفة «الإندبندنت»، حيث تكشف عن الأسباب التي دفعتها إلى الاستقالة بعد أن شاهدت بنفسها كيف تم تغييب الحقيقة أو تقديمها بشكل باهت.. على مدار استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة، وجدت الصحفية السابقة كاريشما باتيل نفسها عالقة بين التزامها الأخلاقي بنقل الوقائع كما هي، والضغوط المؤسسية التي حاولت تطويع الحقيقة، حيث اصطدمت بمعايير تحريرية تخلّت عن دورها في مساءلة الواقع لصالح توازن زائف بين الضحية والجلاد. مُؤكدةً أنها "رأت بنفسها كيف يتم تجاهل قصص مأساوية تُصوّر معاناة الغزيين، أو تقديمها بطريقة تخفف من وقع الجريمة الحقيقية. في مقالها المنشور بصحيفة «الإندبندنت»، سردت باتيل تجربتها القاسية في تغطية أحداث غزة، من خلال قصص مأساوية، مثل مأساة الطفلة هند رجب، التي أُرديت قتيلة تحت وابل من الرصاص الإسرائيلي، لتكشف الصحفية باتيل، كيف تراجعت هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» عن نقل الحقيقة بشفافية خلال فترة الحرب الإسرائيلية على غزة، ما دفعها في النهاية إلى اتخاذ قرارها الحاسم بالاستقالة. اقرأ أيضًا| «قيود الظل» تُعري انحياز صحف وقنوات بريطانية لإسرائيل في الحرب على غزة قالت باتيل: "أكثر ما صدمني كان قرار هيئة الإذاعة البريطانية «BBC» بعدم تغطية قصة الطفلة الغزية هند رجب في البداية، والتردد في الإشارة بوضوح إلى الجهة المسؤولة عن قتلها رغم وضوح الأدلة، كما شهدت كيف تم التراجع عن بث فيلم وثائقي يوثّق معاناة الأطفال في غزة تحت ضغوط خارجية، عندها، أدركت أن مفهوم "الحياد" كما تمارسه المؤسسة لم يعد سوى ستار للتردد والخضوع لحسابات سياسية". وتتابع: "لقد غطيت العديد من الأحداث العالمية، لكنني لم أشهد من قبل تناقضًا تحريريًا بمثل هذا الوضوح كما حدث أثناء تغطيتي للعدوان على غزة، شعرت بأن الصحفيين في هيئة الإذاعة البريطانية باتوا يخشون متابعة الحقائق، وأن مفهوم "التوازن الإعلامي" أصبح أداة تُستخدم لتبرير الانتهاكات بدلًا من كشفها، في النهاية، لم يكن أمامي سوى اتخاذ القرار الصعب: "الاستقالة". - وفيما يلي روايتها الكاملة لما حدث، كما نشرتها بصحيفة «الإندبندنت»: من بين اللحظات التي لا تزال محفورة في ذاكرتي خلال الأشهر التي قضيتها في تغطية أحداث غزة، كان ذلك اليوم الذي وقفت فيه أمام زملائي أروي للمرة الثانية قصة الطفلة هند رجب، ذات الخمس سنوات، التي علقت داخل سيارة وسط جثث أقاربها الشهداء. تابعت التحديثات المستمرة التي كان ينشرها الهلال الأحمر أثناء محاولاته لإنقاذها، لكن قسم الأخبار في هيئة الإذاعة البريطانية الذي كنت أعمل به قرر عدم تغطية القصة، ولم يأتِ ذكر اسم هند في نشراتنا إلا بعد أن قتلها الجيش الإسرائيلي، حيث أطلق على السيارة التي كانت داخلها أكثر من 300 رصاصة، وعندما قررت المؤسسة أخيرًا التحدث عن القصة، «جاء العنوان مُبهما، دون تحديد الجهة المسؤولة بوضوح، وكأن الأمر مجرد حادث غامض». تغييب الحقيقة وسحب وثائقي مهم لم يكن هذا التجاهل للحقيقة حدثًا فرديًا، فقد كررت هيئة الإذاعة البريطانية «BBC» هذا النهج عندما سحبت الفيلم الوثائقي "غزة: كيف تنجو من منطقة حرب" بعد ضغوط سياسية بسبب ارتباط الراوي البالغ من العمر 13 عامًا بشخصية سياسية في غزة، كان يمكن للشبكة أن تحتفظ بالنسخة مع توضيح سياقها، لكنها فضلت التراجع بدلاً من التمسك بجوهر الحقيقة: أن إسرائيل تستهدف الأطفال الفلسطينيين. هذا القرار أثار موجة من الغضب، ما دفع أكثر من 1000 شخصية بارزة، من بينهم جاري لينيكر وميريام مارجوليس، إلى توقيع رسالة مفتوحة تدين هذا التخاذل الإعلامي. «اعتراف مُتأخر» بالأمس، واجه المدير العام ل هيئة الإذاعة البريطانية، تيم ديفي، ورئيس اللجنة الدكتور سمير شاه، استجوابًا من لجنة الثقافة والإعلام والرياضة حول أداء الشبكة، وطرحت النائبة الدكتورة روبا حق سؤالًا مباشرًا: "هل ألقت BBC بالطفل مع ماء الاستحمام؟"، في إشارة إلى قرارها بإلغاء الفيلم الوثائقي. ورغم أن المؤسسة زعمت أن هناك "عيوبًا تحريرية خطيرة" في الوثائقي، فإنها لم تعترف مطلقًا بانعدام النزاهة العامة في تغطيتها لغزة، ومع ذلك، وافق المدير العام على إجراء مراجعة مُستقلة لتغطية الشبكة لمنطقة الشرق الأوسط - خطوة طال انتظارها. اقرأ أيضًا| «واشنطن بوست» في فخ الولاء.. هل ينجح ترامب في تطويع الإعلام؟ ازدواجية تحريرية خلال خمس سنوات من عملي في هيئة الإذاعة البريطانية «BBC»، تنقلت بين أدوار مُتعددة، بدءًا من باحث إلى قارئ أخبار وصحفي، غطيت جائحة كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، لكن عندما حان وقت تغطية الحرب في غزة، صُدمت بمستوى الرقابة الذاتية والتناقض التحريري. شاهدت زملاءً يتجاهلون أدلة دامغة خوفًا من تداعيات سياسية، تمامًا كما فعلت الشبكة سابقًا في قضية التغير المناخي، حيث كانت تناقش "احتمالية" وقوع الظاهرة رغم الإجماع العلمي على حقيقتها، الإعلام لا يجب أن يكون مُترددًا في نقل الحقيقة، بل يجب أن يكون صوتًا للأدلة، لا أداة لخداع الجمهور. البعض يرى أن الحياد الإعلامي يعني عرض "كلا الجانبين" من القصة وكأنهما متساويان، لكن الحقيقة ليست دائمًا وسط الطريق، «عندما تمتلك الأدلة استنتاجًا واضحًا، فإن تجاهله هو شكل من أشكال التضليل». في عالم تنتشر فيه الدعاية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يصبح الصحفيون مسؤولين عن تقديم استنتاجات قائمة على الأدلة، وليس فقط نقل "مزاعم متضادة"، عدم فعل ذلك يجعل الوسيلة الإعلامية أداة في الحرب الإعلامية بدلاً من أن تكون مؤسسة بحث عن الحقيقة. صدمة بصرية يومية كل يوم، كانت أكثر الصور رعبًا تصل إلى حساباتي على تويتر وإنستجرام، كنت أراجعها ببطء، أجمع القصص التي سأعرضها في اجتماع التحرير الصباحي، بعض هذه الصور حُفرت في ذاكرتي إلى الأبد. المرة الأولى التي رأيت فيها رجلًا سحقته جرافة إسرائيلية حتى الموت، كانت الصورة ضبابية، كأنني أنظر إلى باقة من الخشخاش، لكن مع وضوح الصورة، رأيت جسده المدفون في الأرض، مزيجًا من الأحمر والبرتقالي، لم أستطع نسيان هذا المشهد، لكنه كان دليلاً لا يمكن تجاهله. رؤية أدلة لا تقبل الجدل يوميًا، ثم الجلوس في غرفة أخبار تناقش الأحداث وكأنها جدلية بنسبة 50/50، هو ما أدى إلى أكبر شرخ بين قناعاتي الصحفية والدور الذي كنت مضطرًا للعبه في هيئة الإذاعة البريطانية «BBC». نحن لسنا في زمن يمكن فيه النقاش حول ما إذا كانت إسرائيل ترتكب جرائم حرب أم لا - الأدلة مُتوفرة بكثرة، من تقارير الإغاثة، ومنظمات حقوق الإنسان، والهيئات القانونية الدولية. إلى متى ستظل BBC تتجنب الاعتراف بأن إسرائيل تنتهك القانون الدولي؟ متى ستصوغ تغطيتها وفقًا للحقيقة، بدلًا من محاولة تجميلها؟ وكما يقول المثل الصحفي الشهير: مُهمتي ليست أن أخبرك بأن هناك احتمالًا لهطول المطر أو عدمه، مهمتي هي أن أنظر إلى السماء وأخبرك بالحقيقة. اسمحوا لي أن أخبركم بالحقيقة اليوم: هناك عاصفة، وعاصفة غزة لن تتلاشى بالصمت الإعلامي.