في قلب إسطنبول العريقة، حيث تروي كل زاوية قصة من تاريخ الإمبراطورية العثمانية، يرقد السلطان بايزيد الثاني في ضريحه بجوار الجامع الذي يحمل اسمه. اقرأ أيضا | المرأة المصرية.. كيف وصلت «دراع السبع» للعالمية وشقت الفضاء حكم السلطان الدولة العثمانية لثلاثة عقود شهدت خلالها توسعات عسكرية وإصلاحات داخلية، لكنه انتهى بالإزاحة عن العرش على يد ابنه سليم الأول، ثم وافته المنية عام 1512م، ترك بصمة واضحة في تاريخ الدولة، ليس فقط كحاكم، بل كقائد مجاهدٍ أوصى بأن يُدفن معه غبار معاركه ليكون شاهدًا على جهاده، كما ذكره الباحث الأثري الدكتور حسين دقيل، المتخصص في الآثار اليونانية الرومانية. في هذا التقرير، نغوص في تفاصيل حياة السلطان بايزيد الثاني، سياسته، إنجازاته، ووصيته الأخيرة، ونستكشف معالم ضريحه ومسجده في إسطنبول، اللذين لا يزالان شاهدين على مجد عصره. السلطان بايزيد الثاني – من الوريث إلى العرش مولده ونشأته وُلِد السلطان بايزيد الثاني عام 1447م، وهو الابن الأكبر للسلطان محمد الفاتح، الرجل الذي غير مجرى التاريخ بفتح القسطنطينية عام 1453م. نشأ في بيئة ملكية عسكرية، حيث تلقى تعليمه على يد كبار العلماء، وتدرب على الفنون الحربية والإدارية، مما أعده لحكم الدولة العثمانية مستقبلًا. مع تقدم والده في العمر، بدأ بايزيد في تولي بعض المهام الإدارية والعسكرية، وعُيّن واليًا على أماسيا، إحدى أهم الولايات العثمانية آنذاك، حيث أظهر كفاءة كبيرة في إدارة شؤون الولاية وإقامة علاقات متينة مع العلماء ورجال الدين. توليه الحكم بعد وفاة محمد الفاتح عند وفاة السلطان محمد الفاتح عام 1481م، نشب صراع على العرش بين بايزيد وشقيقه الأصغر الأمير جم. تمكن بايزيد من حسم الصراع لصالحه، بفضل دعم الإنكشارية وكبار رجال الدولة، بينما هرب الأمير جم إلى الغرب، حيث استُخدم كورقة ضغط ضد العثمانيين حتى وفاته في روما عام 1495م. سنوات الحكم – بين الغزو والاستقرار التوسعات العسكرية خلال فترة حكمه التي امتدت من 1481م إلى 1512م، قاد السلطان بايزيد الثاني عدة حملات عسكرية لتعزيز حدود الدولة، وكانت أبرز إنجازاته العسكرية: حملاته ضد المماليك: سعى لتوسيع نفوذ العثمانيين في الأناضول والشام، لكنه لم يدخل في صراع مباشر مع دولة المماليك، بل فضّل سياسة التوازن بين القوى. حروبه ضد البندقية: تمكن من استعادة العديد من الجزر في بحر إيجه، مما عزز السيطرة العثمانية على طرق التجارة البحرية. صد الغارات الصفوية: في ظل تصاعد قوة الدولة الصفوية في إيران، واجه بايزيد الثاني تهديدات مباشرة من الشاه إسماعيل الصفوي، لكنه لم يخض حربًا كبرى ضدهم، مما أثار انتقادات داخلية. دوره في إنقاذ مسلمي الأندلس أحد أعظم إنجازاته الإنسانية كان استقباله لليهود والمسلمين المطرودين من الأندلس عام 1492م، بعد سقوط غرناطة. أمر بإرسال السفن العثمانية لنقلهم إلى الأراضي العثمانية، حيث وفر لهم الأمان وسمح لهم بالاستقرار في إسطنبول ومدن أخرى، مما أسهم في تعزيز الاقتصاد العثماني بفضل مهاراتهم التجارية والصناعية. الإصلاحات الداخلية دعم الفنون والعلوم، مما جعل عهده فترة ازدهار ثقافي. عمل على تحسين النظام الإداري، لكنه تجنب الإصلاحات الجذرية. بنى العديد من المساجد والمنشآت الخيرية، ومنها جامع بايزيد الثاني في إسطنبول. الصراع على السلطة ونهاية العهد توتر العلاقة مع ابنه سليم الأول مع تقدمه في السن، برزت خلافات بين بايزيد الثاني وابنه سليم الأول، الذي كان قائدًا عسكريًا طموحًا يسعى إلى توسيع نفوذ الدولة بقوة السيف. كان سليم يرى أن والده متساهل في مواجهة الصفويين والمماليك، مما دفعه لقيادة ثورة ضده بدعم من الإنكشارية. في عام 1512م، أجبر سليم والده على التنازل عن العرش، ليصبح السلطان الجديد للدولة العثمانية. غادر بايزيد الثاني إسطنبول متجهًا إلى ديموتيقا (في اليونان حاليًا)، لكنه توفي في الطريق، ويُقال إنه تعرض للتسميم، رغم عدم وجود دليل قاطع على ذلك. ضريح السلطان بايزيد الثاني – شاهد على التاريخ وصيته الأخيرة كان السلطان بايزيد الثاني رجلًا متدينًا، ولم يكن مجرد قائد سياسي، بل كان يؤمن بالجهاد في سبيل الله. خلال معاركه، كان يجمع غبار ثيابه ويحتفظ به في كيس صغير، وأوصى أن يُدفن هذا الكيس معه ليكون شاهدًا على جهاده. وقد نُفذت وصيته، فوُضع الكيس تحت رأسه عند دفنه. موقع الضريح وتصميمه يقع ضريحه بجوار جامع بايزيد الثاني في إسطنبول، في القسم الأوروبي من المدينة. تم بناء المسجد بين عامي 1501 و1506م، وهو من أقدم وأهم المساجد العثمانية. يتميز بتصميمه المعماري العثماني الكلاسيكي، وقبته الكبيرة المدعومة بأعمدة قوية، فضلًا عن زخارفه الرائعة. السجادة الحمراء العتيقة داخل المسجد، توجد سجادة حمراء فريدة من نوعها، تعود لأكثر من 132 عامًا. لا تزال هذه السجادة رمزًا للعراقة، ويحرص المصلون على الحفاظ عليها كجزء من إرث السلطان بايزيد الثاني. المكانة التاريخية لضريحه يُعد مزارًا مهمًا للزوار من مختلف أنحاء العالم. يجسد حقبة من أمجاد الدولة العثمانية. يعكس قيم السلطان بايزيد الثاني، الذي جمع بين القوة والإنسانية. الدروس المستفادة من عهد بايزيد الثاني التسامح الديني والتعامل مع الأقليات كان بايزيد الثاني من القادة القلائل في التاريخ الذين أظهروا تسامحًا دينيًا كبيرًا، حيث منح الحماية لليهود والمسلمين المطرودين من الأندلس، مما ساهم في تقوية اقتصاد الدولة العثمانية. أهمية التوازن بين القوة والسياسة بينما كان والده محمد الفاتح قائدًا عسكريًا صارمًا، كان بايزيد الثاني يميل إلى السياسة والحلول السلمية. أدى ذلك إلى نجاحات، لكنه في الوقت نفسه أثار معارضة داخلية، خاصة من الجيش. الاستقرار الداخلي مقابل التوسع الخارجي رغم إنجازاته العديدة، اعتُبر تردده في مواجهة الصفويين نقطة ضعف، مما أدى إلى فقدانه العرش لصالح ابنه سليم الأول، الذي كان أكثر ميلًا للتوسع العسكري. يروي ضريح السلطان بايزيد الثاني قصة سلطان جمع بين القوة والرحمة، وبين الغزو والتسامح. ورغم أن نهايته جاءت على يد ابنه، إلا أن بصمته لا تزال واضحة في التاريخ العثماني. يظل ضريحه ومسجده في إسطنبول شاهدين على مجده، ودليلًا على أن القادة العظماء لا يُخلدهم فقط السيف، بل أيضًا أعمالهم الإنسانية ورؤيتهم للحكم.