قلنا في آخر المرة السابقة أنه بعد أن توفي مراد الثاني عام 1451 خلفه على عرش السلطنة ابنه محمد الثاني، وهو ما سنبدأ كلامنا به هذه المرة. ارتقى السلطان محمد الثاني عرش السلطنة بعد وفاة أبيه وعمره ثلاثون عاماً.
وتمكن محمد الثاني من فتح القسطنطينية عام 857ه/ 1453م وأصبح يعرف باسم (محمد الفاتح) وتحقّق على يديه فتح القسطنطينية الذي بشر به رسول الله صلي الله عليه وسلم منذ صدر الإسلام، وقد تقدم الكلام عن قصة فتح القسطنطينية عند الكلام عن أهم الأحداث التاريخية في الدولة العثمانية.
ظلت القسطنطينية - والتي أطلق عليها السلطان محمد الفاتح اسم (إِسلام بول) يعنى دار الإِسلام ثم حرفت إِلى إستانبول - هي عاصمة الدولة العثمانية بعد ذلك الفتح ومنطلق الفتوحات الإسلامية لأوروبا.
استطاع (محمد الفاتح) إِخضاع المورة والصرب والبوسنة، كما هدَّد إِيطاليا والمجر وألمانية ودانت له (طرابزون) والقرم في آسيا، ثم عاد لفتح ألبانيا وأجزاء من إِيطاليا (أملاك البندقية ومات قبل أن ينفَّذ خطته في فتح رودس.
ولقد تساوت عبقرية السلطان محمد الفاتح في التنظيم المدني مع خبرته العظيمة في الأعمال العسكرية، فإِليه ينسب تنظيم الأوضاع الحكومية؛ حيث وضع أنظمة جديدة سار عليها من جاء بعده؛ إِذأطلق على الحكومة العثمانية اسم (الباب العالي) وجعل لها أربهة أركان هم: الوزير وقاضي القضاة والدفتر دار (أي ماسك السجلات المالية) والنيشانجي (يعني كاتب سر السلطان).
واستطاع - بالتعاون مع وزيره قرمنلي محمد باشا وكاتبه زاده محمد شلبي - وضع الدستور المسمَّى (فاتح قانون نامه سي) الذي بقيت مبادئه سارية المفعول في الدولة العثمانية حتى عام 1839م، ويذكر المؤرخون أن هذا القانون كانت مبادئه كلها مستمدة من القرآن وكلام الرسول صلي الله عليه وسلم ومن أقوال الفقهاء، لاسيما مذهب أبي حنيفة.
كما قام محمد الفاتح بترتيب وظائف الجند؛ فعيَّن قائداً خاصاً لجيش الانكشارية (وسيأتي الكلام عن جيش الإنكشارية بالتفصيل لاحقا إن شاء الله) سمّاه آغا، كما عَّين قائداً لسلاح المدفعية، وثالثاً مسؤولاً عن تمويل الجيش.
أما أهم أعماله في الحقل المدني فهي ترتيبه وظائف القضاء، ووضعه مبادىء القانون المدني وقانون العقوبات(المستمد من الإسلام)كما عنى بوجه خاص برجال القضاء فأغدق عليهم في الرزق؛ لسدّ سبل الإِغراء والرشوة، وأحاط منصبهم بهالة مهيبة من الحرمة والجلالة والقداسة حرًم مساسها من قِبَل الآخرين.
كما بنى عدة مساجد في استانبول وغيرها من المدن، وأنشأ كثير من المكاتب والمدارس التي أوقف عليها الأوقاف، إِذ رتَّب هذه المدارس على درجات ومراحل ووضع لها المناهج وحدّد العلوم والمواد التي تدرّس في كل مرحلة، واتخذ لها الامتحانات،فلا ينتقل الطالب من مرحلة إِلى مرحلة أخرى أعلى منها إِلا بعد أدائه امتحاناً يخوله ذلك، وأدخل في مناهج التعليم نظام التخصّص.
كان من فرط شغفه بالعلم أنه كان يقضي الأوقات التي يستجم فيها من ويلات الحروب بإستانبول في عقد المجالس العلمية و الأدبية والفلسفية.
وأنشأ إِلى جانب المدارس الخانات والمستشفيات والحمّامات والأسواق والحدائق العامة، وأدخل المياه إِلى المدينة بواسطة قناطر خاصة، وشجع على تشييد المباني وإِنشاء الدكاكين، حتى قيل فيه: (إِنه تساوى في الثقافة والفتوحات والفطنة السياسية والأعمال المدنية).
كان من سياسته مع أعدائه أنه كان يتفاوض معهم بدهاء، وكان يبالغ في كتمان خططه الحربية والسياسية، ولقد سُئل يوماً عن بعض خططه فقال: (لو أن شعرة من لحيتي عرفت لانتزعتها وقذفت بها في النار)!.
كان رحمه الله يتقن خمس لغات: العربية والفارسية والتركية واليونانية والاتينية. وكان واسع الاطلاع في الآداب، بارعاً في الرياضيات والهندسة، اتجه إِلى دراسة الفلسفة اليونانية والاطلاع على مذاهبها المختلفة، وقد اهتم بوجه خاص بفلسفة أرسطو والرواقين، واتخذ له في ذلك أساتذة من العلماء النابهين، وكان شاعراً وله ديوان باللغة التركية، وكان ينفذ كثيراً من أعمال البر؛ حتى أطلق عليه اسم (أبو الأعمال الخيرية).
كما يعتبر من أهم إِنجازاته أنه قضى على الكثير من الجيوب التي كانت بمثابة شوكات في خاصرة الدولة العثمانية، كما وصلت السلطنة العثمانية في عهده إِلى مسافات بعيدة للغاية في شرقي أوروبا، كما اكتسبت سيادة اسمية في الأفلاق والبغدان؛ (وتقع هاتان الإمارتان الرومانيتان شمالي نهر الدانوب؛ وتحيط بهما ثلاث دول كبرى تتنازع السيادة عليهما هي بولندة والمجر والدولة العثمانية، فكانتا- بحكم موقعهما الجغرافي- تحالفان هذه الدولة تارة وتلك تارة أخري وفقاً لمصلحتهما، وكان حاكم الأفلاق- في هذا الوقت- دراكول قد عقد عام 1460م معاهدة مع السلطان العثماني محمد الفاتح تعهّد بموجبها أن يدفع جزية سنوية قدرها عشرة آلاف دوكًا مقابل احتفاظ الإِمارة بإِدارتها الداخلية وحماية عثمانية ضد أي عدو خارجي، ولكن السلطان محمد الفاتح - نتيجة لأعمال الغدر من دراكول - سار إِليه على رأس جيش يقدر بمئة وخمسين ألف جندي فدخل الإِمارة ووضع يده عليها، وهرب دراكول والتجأ إِلى ملك المجر، وكان ذلك عام 1426م، وبذلك فتحت بلاد الأفلاق وأضحت تحت السيطرة المباشرة للدولة العثمانية.
أما البغدان فكان متول إِدارتها أسطفان الأكبر الذي استغل انهماك محمد الفاتح بالحروب المتواصلة في آسيا الصغرى وبلاد اليونان، فقرر التخلص من التبعية العثمانية وهاجم إِمارة الأفلاق، ولذلك قرر السلطان في الحال مقاتلة أسطفان لإعادة إِخضاعه، ولكنه كان يتغلب في كل مرة على الجيش العثماني، فلم يتم إِخضاع إِمارة البغدان إِلا عام 1554م).
وفي عهده واجهت الدولة العثمانية الدول المعادية التي أرادت صدّها عن البلقان مما حال بينها وبين نجاح مساعديها في وقف التيار العثماني الجارف.
كما أدّت المكانة الرفيعة التي حصلت عليها الدولة العثمانية بعد فتح القسطنطينية، والصدى المدوي في أوروبا لهذا الحدث إِلى أن تتخذ الدول الأوروبية سياسات معينة تجاه العثمانيين قائمة على العداوة أو الصداقة القائمة على المصلحة.
كما تركزت جهود السلطان محمد الفاتح على الجهاد الديني ضد النصارى في البلقان، وبعصره ارتبطت بتاريخ العثمانيين صفحة الجهاد الديني التي أعطتهم سمعة حسنة في العالم الإِسلامي، فقد رحّبت القاهرة بهذا النصر، وباركته مكةالمكرمة، وسعدت به أقطار إِسلامية اخرى كثيرة.
كما كان من جهوده أنة عني بالقانون والتشريع إِلى جانب الأعمال الحربية لأنه كان يعتبرهما(أي القانون والحرب) عاملين أساسيين لتسيير عجلة الدولة بانتظام.
وظلت النظم التي وضعها لإِدارة دولته سارية المفعول من بعده، وكانت من أسباب تقدم الدولة بحيث جعلها أكبر دولة إِسلامية وأعظمها في عهد السلطان سليمان القانوني.
كان السلطان محمد الفاتح على مستوىً عالٍ من التفكير الحضاري، فقد قام بتحويل كنيسة آياصوفيا إِلى مسجد على أسس معمارية إِسلامية راقية وبنى العديد من المساجد التي اعتبرت تحفة فنية معمارية، وكذلك قصره الرائع، وقلعة الأبراج السبعة الذهبية، وأحواض بناء السفن ودور الصناعة، كل ذلك يدل على قدرة فذة.
مات السلطان محمد الفاتح عام 886ه/ 1481م، وخلفه ابنه بايزيد الثاني.
بايزيد الثاني: تولى بايزيد الثاني عرش الدولة العثمانية بعد أبيه السلطان محمد الفاتح، وذلك عام 1481م. اتصف السلطان بايزيد الثاني بأنه سلطان مسالم، أراد أن يهدَّىء من تيار الحروب الجارف الذي لفّها خلال القرن الخامس عشر، مما جعله يسعى للتفاهم مع القوى العديدة المجاورة متبعاً أسلوب الزواج من أمراء الدول الإِسلامية، فقد زوّج إِحدى بناته من وريث عرش فارس، كما زوّج ابنة أخيه إِلى سلطان مصر، كما تبادل السفارات الودّية مع الدول الأوروبية المجاورة.
ولقد نجح بايزيد الثاني من تحقيق هدفه من وراء هذا السّلم الحذر، خاصة من حيث نمو علاقاته مع الدول المجاورة،كما كانت فترة السلم الطويل نسبيًّا فرصة للالتفات إِلى المشاريع العمرانية والاقتصادية والاجتماعية.
لكن كانت هذه السياسة السِّلمية التي انتهجها السلطان بايزيد الثاني- في الوقت نفسه- فرصةاستغلها أعداء الدولة العثمانية؛ خاصة الزعيم الشعيعي القوي الشاه إِسماعيل الصفوي الذي دفع بدعاته إِلى بلاد الأناضول فحصلوا على أنصار عديدين هناك، الأمر الذي هدّد الدولة العثمانية في عقر دارها.
كما كان السلطان بايزيد الثاني ضعيف الشخصية أمام أولاده المتنافسين على العرش في حياته، فتورّط في حرب أسرية كان النصر في النهاية لابنه سليم الذي كان قوياً بتأييد الوحدات الانكشارية ورقَّته إِلى العرش.
ترك السلطان بايزيد الثاني آثاراً عمرانية ملفتة للنظر، واهتم بإِنشاء المباني العامة الفخمة وحسَّن شبكة الطرق والجسور التي أقامها أسلافه.
كما كان من أعظم إِنجازاته بناؤه ذلك المسجد الذي يحمل اسمه، وقد شيّده بين عامي 1497م، 1503م تجاه السرايا القديمة في إستانبول؛ هذا المسجد الذي يمتاز بفخامة مواده البنائية وبزخرفته على الطريقة الفارسية (وإن كانت زخرفة المساجد ليست مطلباً شرعياً، بل جاءت الأدلة الصحيحة في النهي عنه ولكن المؤرخين يؤرخون لمثل هذا الأمر كحقيقة تاريخية موجودة) وبمآذنه التي تقوم على أجنحة خاصة مستقلة، وليس على الزوايا كباقي المآذن، وأصبح الحي المحيط بالمسجد كله يُعرف بحي بايزيد نسبة إِلى اسم باني المسجد.
إِلا أنه كان من أخطائه أنه عجز عن وضع حد للمنازعات القائمة على حدود دولته بفعل الطموح العثماني الجهادي من جهة، وأحوال جيرانه السياسية القلقة من جهة أخرى، كما أنه عجز عن وضع حد للمنازعات الأسرية أيضاً.
ومع أنه كان مسالماً غير ميّال للحرب، إِلا أن سياسة الدولة دعته إِلى الالتفات نحو الحرب بفعل سياسة جيرانه العدوانية.
كما اشتهر عنه أنه كان محبًّا للعلوم والآداب. لم يحدث في عهده أيّ فتوحات جديدة، بل اقتصرت نشاطاته العسكرية على المناطق الحدودية لصدّ الاعتداءات الخارجية.
تنازل السلطان بايزيد الثاني لابنه سليم الأول عن الحكم في الخامس والعشرين من نيسان 1512م وانسحب من الحياة السياسية للإِقامة في بلده ديموتيكا في ولاية أدرنة ويقال أنه تُوفِّي في الطريق إِليها نتيجة المرض الشديد عام 1512م.
السلطان سليم الأول: هو أول خليفة عثماني، انتقلت إِليه الخلافة بعد تنازل الخليفة العباسي المتوكل على الله، آخر خليفة عباسي في القاهرة وذلك عام (923ه/ 1517م). تولى سليم الأول عرش الدولة العثمانية بعد تنازل والده بايزيد الثاني له عن الحكم.
وكان سليم الأول من أعظم سلاطين آل عثمان وأكثرهم انتصاراً وفتحاً، وكان من أعظم جهوده تصدّيه لنشر المذهب الشيعي على أيدي الصفويين، كما سيطر على الفرس والعراق واستولى على ديار بكر، وكان ذلك بمثابة مقدمة لفتح مصر إِثر انتصاره في مرج دابق والريدانية. وما إِن تنازل الخليفة العباسي المتوكل على الله له عن الخلافة حتى سلّمه شريف مكة مفاتيح الحرمين الشريفين.
ولقد أجمع العديد من المؤرخين على ما تمتع به السلطان سليم الأول من المواصفات الخاصة التي جمعت بين القدرات القيادية الحربية والنشاطات الذهنية والجسدية؛ فقد كان هاوياً الصيد وسماع الشعر الفارسي والاستماع إِلى أحداث التاريخ.
ورغم ما عرف به من القسوة الرهيبة إِلا أنه كان يرتاح عندما يجالس المؤرخين والشعراء في ميادين القتال؛ ليأنس باستشاراتهم و أفكارهم.
قام السلطان سليم الأول خلال مدة حكمه التي استمرت ثماني سنوات وخمسة أشهر بأعمال جبّارة، وتكاد تكون إِنجازاته التوسّعية أكبر بكثير من سني عهده، إِذ جعل من الدولة العثمانية دولة عالمية كبرى مهيبة لأعدائها. وكان من أهدافه العظيمة أن يحقق في إِيران ما حققه صلاح الدين الأيوبي في مصر، من حيث القضاء على الحكم الشيعي، والسعي لإِقامة اتحاد إِسلامي والوصول إِلى تركستان والهند، ولكن هذه المشاريع لم تتحقق إِذ عاجلته منيته.
تُوفيّ السلطان سليم الأول عام 1520م. وخلفه سليمان الأول، وهو أعظم خلفاء العثمانيين والذي عرف فيما بعد بسليمان القانوني، وهو ما سنبدأ به في المرة القادمة إن شاء الله.