سعر الدولار الأمريكي أمام الجنيه بداية اليوم 15 نوفمبر 2025    التضامن: صرف دعم تكافل وكرامة عن شهر نوفمبر.. اليوم    وزارة التخطيط تقدّم الدعم الفني واللوچستي لإتمام انتخابات نادي هليوبوليس الرياضي    تحذير أممي من الذخائر غير المنفجرة بغزة    اللجنة المصرية بغزة: استجابة فورية لدعم مخيمات النزوح مع دخول الشتاء    ترامب: سأطلب تعويضات 5 مليارات دولار من BBC لتلاعبهم بخطاباتي    موعد مباراة البرازيل والسنغال والقنوات الناقلة    حارس لايبزيج: محمد صلاح أبرز لاعبي ليفربول في تاريخه الحديث.. والجماهير تعشقه لهذا السبب    إحالة 13 سيدة للمحاكمة بتهمة ممارسة الأعمال المنافية للآداب بوسط القاهرة    الطقس اليوم.. أمطار واضطراب بالملاحة على عدة مناطق    وصول الطفل ياسين إلى محكمة جنايات دمنهور مرتديا ملابس سبايدر مان    تجديد حبس عصابة التنقيب عن الآثار في المطرية    بدء أولي جلسات استئناف حكم سائق التريلا المتسبب في وفاة فتيات العنب بالمنوفية    إصابه 4 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ملاكي بطريق سفاجا-الغردقة    المتحف المصري بالتحرير يحتفل بمرور 123 عاما على افتتاحه    حسين فهمي: نؤدي دورًا محوريًا في ترميم الأفلام بمهرجان القاهرة السينمائي    «عبدالغفار»: الاستراتيجية الوطنية للصحة الرقمية تهدف لتطوير قطاع الرعاية    وزير الصحة يطلق الاستراتيجية الوطنية للصحة الرقمية 2025–2029    جامعة القناة تقدم ندوة حول التوازن النفسي ومهارات التكيف مع المتغيرات بمدرسة الزهور الثانوية    نشر أخبار كاذبة عن الانتخابات يعرضك لغرامة 200 ألف جنيه    الصين تحذّر رعاياها من السفر إلى اليابان وسط توتر بشأن تايوان    سعر طن الأسمنت اليوم السبت 15نوفمبر 2025 في المنيا بسوق مواد البناء    الري: الاعتماد على البصمة المائية لتحديد المحاصيل التي يتم زراعتها بالمياه المعالجة    الأهلي يستأنف تدريباته اليوم استعدادًا لشبيبة القبائل بدوري الأبطال    منشورات المتوسط تطرح «اسمي عليا وهذا أبي» لعلي الشعالي    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم السبت 15 نوفمبر 2025    آخر يوم.. فرص عمل جديدة في الأردن برواتب تصل إلى 33 ألف جنيه    جامعة القاهرة تطلق قافلة تنموية لقرية أم خنان بالحوامدية    مواقيت الصلاه اليوم السبت 15نوفمبر 2025 فى المنيا    قوات الاحتلال الإسرائيلي تعتقل ثلاثة فلسطينيين ويداهم عدة منازل بنابلس    انتخابات النواب، تفاصيل مؤتمر جماهيري لدعم القائمة الوطنية بقطاع شرق الدلتا    مواعيد مباريات اليوم السبت 15 نوفمبر 2025 والقنوات الناقلة    وزير الصحة يستقبل وفد البنك الأوروبي لإعادة الإعمار لبحث تطوير المنشآت الصحية    طريقة عمل بودينج البطاطا الحلوة، وصفة سهلة وغنية بالألياف    رفع أسعار كروت شحن المحمول| شعبة الاتصالات تكشف "حقيقة أم شائعة"    ضبط المتهم بصفع مهندس بالمعاش والتسبب في مصرعه بالهرم    45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. السبت 15 نوفمبر 2025    حكم شراء سيارة بالتقسيط.. الإفتاء تُجيب    الاتجار في أدوية التأمين الصحي «جريمة»    إقامة المتاحف ووضع التماثيل فيها جائز شرعًا    دعاء الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج وافتح لي أبواب رزقك    مقتل 7 أشخاص وإصابة 27 إثر انفجار مركز شرطة جامو وكشمير    أموال المصريين غنيمة للعسكر .. غرق مطروح بالأمطار الموسمية يفضح إهدار 2.4 مليار جنيه في كورنيش 2 كم!    اشتباكات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    مناوشات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    عمرو عرفة يحتفل بزفاف ابنته بحضور ليلى علوي ومحمد ورامي إمام وحفيد الزعيم    جوائز برنامج دولة التلاوة.. 3.5 مليون جنيه الإجمالي (إنفوجراف)    "رقم واحد يا أنصاص" تضع محمد رمضان في ورطة.. تفاصيل    مستشار الرئيس الفلسطيني: الطريق نحو السلام الحقيقي يمر عبر إقامة الدولة الفلسطينية    مسئول أمريكي: نزيد الضغط على أطراف الحرب بالسودان نحو محادثات لوقف القتال    باحث في شؤون الأسرة يكشف مخاطر الصداقات غير المنضبطة بين الولد والبنت    شتيجن يطرق باب الرحيل.. ضغوط ألمانية تدفع حارس برشلونة نحو الرحيل في يناير    صدمة في ريال مدريد.. فلورنتينو بيريز يتجه للتنحي    إلى موقعة الحسم.. ألمانيا تهزم لوكسمبورج قبل مواجهة سلوفاكيا على بطاقة التأهل    إبراهيم صلاح ل في الجول: أفضل اللعب أمام الأهلي عن الزمالك.. ونريد الوصول بعيدا في كأس مصر    نانسي عجرم عن ماجد الكدواني: بيضحكنى ويبكينى فى نفس الوقت    تكافؤ الفرص بالشرقية تنفذ 9 ندوات توعوية لمناهضة العنف ضد المرأة    سنن الاستماع لخطبة الجمعة وآداب المسجد – دليلك للخشوع والفائدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكيمياء الأدبية.. محاضرة عن الألم
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 23 - 02 - 2025


جوادالوبى نيتل
ترجمة: د.محمد غنيم
فى محاضرة «أدب الخيال الدولى» لهذا العام من مهرجان لانكاستر الأدبى فى «عطلة نهاية الأسبوع الخريفية»، تناقش الكاتبة الحائزة على جوائز جوادالوبى نيتل كيفية تحويل الكاتب ألم التجربة الإنسانية - سواء كان جسديًا، عاطفيًا أم نفسيًا - إلى لحظات من الإبداع الأدبى.
كم هى جميلة وغامضة صورة الكيميائيين الذين صورتهما مارجريت يورسينار وأومبرتو إيكو كأفراد مكرسين لتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب. تحويل ما هو قبيح وثقيل، بل وحتى سام، يستخدم لصنع البنادق والأغلال، إلى المعدن الذى يقدره البشر أكثر من غيره، الأكثر إشراقًا، الذى يمثل بأفضل صورة تألق الشمس. بالنظر إلى كل شىء، لم يكن هذا المشروع بعيدًا عن الخيال.
هناك العديد من الأمثلة فى الطبيعة على التحولات مثل تلك التى سعى إليها الكيميائيون. الفطر، على سبيل المثال، يحول المواد المتعفنة إلى غذاء ويطهر سمية الأرض؛ الأشجار - والنباتات عمومًا - تحول ثانى أكسيد الكربون الناتج عن السيارات إلى أكسجين؛ والمحار ينقى المياه من الشوائب، وهذه بعض الأمثلة فقط.
الأدب، وأود أن أقول، الفن عمومًا، يحول الآلام التى لا حصر لها التى تنطوى عليها التجربة البشرية إلى جمال: الجمال الذى يوجد فى تمثال لورنزو بارتولينى «الذى لا يُعزى»، فى نشيد الإنشاد، فى «دون كيشوت» لثربانتس، فى أبيات «موسم فى الجحيم».
لكن ما هى بالضبط هذه المادة التى نحاول تحويلها؟ ما هذا الشىء الذى نشير إليه بكلمة «الألم»، رغم أنه يأخذ أشكالًا عديدة؟ لماذا يستحق التفكير فيه؟
لنبدأ بالألم الجسدى. من الصعب جدًا تمثيل هذا. عمومًا، نفتقر إلى الكلمات للتحدث عن هذه التجربة: نميل إلى التحدث عن ألم بسيط أو حاد، ألم مكتوم، ألم ينبض أو يصرخ، ألم يعطل أو يترقب. نتحدث عن وخزة، عن احتراق، عن تهيج فى الجلد.
بالكاد نعرف كيف نحدد المكان الذى يبدأ منه: الذراع، الرأس، البطن؟ الحقيقة هى أن الكتَّاب يفتقرون إلى المفردات، كما يفتقر المرضى حين يحاولون شرح شعورهم لطبيبهم، لذا فى الشعر كما فى الروايات، هناك قلة من الأوصاف المفصلة لهذه الظاهرة.
جوان ديديون، التى كانت تعانى من الصداع النصفى منذ طفولتها، تسجل الأعراض المرئية وغير المرئية لعذابها فى مقال قوى بعنوان «فى السرير».
تقول: «الصداع الفعلى، عندما يأتى، يجلب معه القشعريرة، والتعرق، والغثيان، والإعياء الذى يبدو أنه يطيل حدود التحمل». الكاتبة المكسيكية ماريا لويزا بوجا، أيضًا، فى «يوميات الألم»، تبذل جهدًا غير شائع للتعبير عن الالتهاب المستمر فى مفاصلها بسبب التهاب المفاصل الروماتويدى. بالنسبة لبوجا، يعتبر ألمها رفيقًا له شخصية محددة وظهور خاص: «إنه دهنى، نحيف، مظلم، ودائمًا فى حالة تأهب.» تكتب الكاتبة الإسبانية مارتا سانز فى روايتها الذاتية «ترقوة»: «أصف للطبيب العاشر المكان الدقيق حيث يوجد ألمى. مساحة لا تفسير لها بين عظم صدرى وبلعومى.
يقول الطبيب: ‹هذا مستحيل.› بإصرار، أشير إلى تجويف صغير. أرسم دوائر حوله بإصبعى. إنها مساحة فارغة فى الأشياء، المنطقة الوحيدة فى الكتلة الجسدية التى لا يوجد فيها شىء على الإطلاق.
يعبر الطبيب الخط: ‹إذا كنت سأغرز إبرة فى هذا المكان بالضبط، فسيخرج منها نظيفة من الجهة الأخرى». هناك العديد من الآلام التى تعانى منها سانز: الصحة العامة ومشكلاتها، الرأسمالية، تجاهل الأطباء، العمل، الشعور بالذنب، الخوف من الشيخوخة والعجز؛ والكتابة، التى فى بعض الأحيان توفر الرفقة وفى أحيان أخرى ترفض ذلك. كل هذه الأمور تتركز فى نقطة غير دقيقة على ترقوتها النحيلة.
إن ديديون، وبوجا، وسانز يوضحن شيئًا واحدًا: هناك قلة من التجارب المعزولة مثل الألم، لأنه بغض النظر عن الجهد الذى نبذله، من المستحيل عمليًا على مخاطبنا أن يفهم أو يتخيل ما نمر به.
والأكثر من ذلك، من الصعب أن نجد شخصًا، سواء كان قارئًا أو قريبًا أو صديقًا، لديه الاستعداد لتخيل أحاسيسنا. يتطلب الأمر انفتاحًا كبيرًا وتعاطفًا عميقًا لكى يقبل الآخر ألمنا عن طيب خاطر. لدينا بالفعل ما يكفينا من ألمنا الخاص. لهذا السبب، فى معظم الأحيان، لا نكلف أنفسنا عناء تخيله — آليات دفاعنا النفسية تمنعنا من القيام بذلك.
وعلى النقيض من ذلك، هناك نوع آخر من المعاناة أقل صعوبة فى التعامل معه: ذلك النوع الذى نميل إلى تسميته بالألم العاطفى، أو الألم الأخلاقى، أو الألم النفسى.
ولم يتناول هذا النوع من المعاناة عدداً لا يحصى من المرات من قِبَل أولئك الذين يكرسون أنفسهم للأدب فحسب، بل إنه أيضاً أحد القوى الدافعة العظيمة للفن، وأحد مكوناته الأساسية أو المواد الخام التى يتألف منها.
منذ أكثر من عشرين عامًا، عندما كنت فى بداية مسيرتى الكتابية ولم تكن لدىَّ فكرة واضحة عن موضوعاتى، قرأت، بناءً على توصية من صديق «القبر المضطرب» لسيريل كونولى.
هناك صادفت اقتباسًا باللغة البالية، يترجمه المؤلف على النحو التالى: «الحزن فى كل مكان/ فى الإنسان لا كائن دائم/ فى الأشياء لا حقيقة دائمة». ينسب كونولى العبارة إلى بوذا ويضيف: «ترنيمة لا تزال تتردد بحزن فى عشرة آلاف دير».
لقد أثارنى الاقتباس لدرجة أننى قررت أن أبحث فى هذه الفلسفة بشكل أعمق، ومن هنا اكتشفت أنها تركز على لا شىء أقل من القضاء على المعاناة. عندما وصل بوذا إلى مرحلة التنوير وقرر تعليم الآخرين كيف يحققون ذلك، جمع مجموعة من الناس فى مدينة سارناث، هناك وضع أسس تعاليمه، التى تُعرف بالحقائق النبيلة الأربع.
إن أول هذه الأنواع من المعاناة هو أن «المعاناة موجودة وتنتشر فى كل مكان». إن المعاناة أو الألم الذى تتحدث عنه البوذية (الكلمة فى اللغة السنسكريتية هى «دوخا») مقسم إلى فئات مختلفة.
الفئة الأولى تتوافق مع الألم الجسدى والوجودى المتأصل فى الحالة البشرية الألم الذى لا يمكن نقله تقريباً والذى ذكرته فى البداية. أما الفئة الثانية فتتوافق مع ردود أفعالنا تجاه التغيير أو الخسارة، سواء كانت خسارة للأشياء أو المواقف أو الأشخاص أو القدرات أو الإمكانيات التى نرتبط بها. أى المعاناة الناجمة عن الطبيعة العابرة للأشياء أو الروابط أو الخبرات.
إنها الألم الذى عاشه المراهقان روميو وجولييت، وهى الحنين الذى شعر به أوديسيوس عندما تذكر إيثاكا، ولكنها أيضًا موضوع نجده فى روايات حديثة مثل «جاتسبى العظيم» للكاتب إف. سكوت فيتزجيرالد أو «معارك فى الصحراء»، الرواية الأكثر شهرة للكاتب المكسيكى خوسيه إميليو باتشيكو، حيث أحصى بدقة جميع الشوارع ودور السينما والسيارات والإعلانات والبرامج الإذاعية التى سكنت طفولته فى مدينة مكسيكو سيتى خلال الخمسينيات. وبعد تذكر كل هذا، وخاصة بعد تذكر الحب الأول للراوى، أنهى باتشيكو هذه الرواية القصيرة المؤثرة بهذه الكلمات:
لقد كانت قصة قديمة جداً، بعيدة جداً، مستحيلة. ولكن ماريانا كانت موجودة، وجيم كان موجوداً، وكل شىء كنت أكرره لنفسى بعد كل هذا الوقت من رفضى مواجهته كان موجوداً.
لن أعرف أبدا ما إذا كان الانتحار حقيقياً. لم أرَ روزاليس أو أى شخص آخر من تلك الحقبة مرة أخرى. لقد هدموا المدرسة، وهدموا مبنى ماريانا، وهدموا منزلى، وهدموا كولونيا روما.
لقد انتهت تلك المدينة. وانتهى ذلك البلد. لم يعد هناك أى ذكرى للمكسيك فى تلك السنوات. ولا أحد يهتم: من الذى قد يشعر بالحنين إلى ذلك الرعب؟
يشعر المرء، فى التعليق الساخر الذى ينهى به الكتاب، بتلك المشاعر من الوحدة والعزلة التى تجتاح كبار السن عندما يسترجعون شبابهم، وهى مشاعر تناولها باشيكو أيضًا فى عدة من قصائده. قلة من الكتاب الناطقين بالإسبانية وصفوا كما فعل هو الوعى بما يسميه البوذيون «عدم الدوام»، وهو ليس سوى «الزمن يهرب»، أى طبيعة الحياة العابرة والألم الناتج عن عدم القدرة على التكيف مع سرعتها.
النوع الثالث من «الدُهخا» الذى تشير إليه البوذية يصف نوعًا دقيقًا وعميقًا من المعاناة، وهو عدم الرضا الذى يأتى مع الوجود نفسه، والذى يمكن لمسه فى الأسئلة المستمرة للبشر حول معنى الحياة، أو سؤال «أن نكون أو لا نكون» لهاملت، أو الحكم التى يجمعها إميل سيوران تحت العنوان المثير للاهتمام «مشكلة الولادة».
إحدى مقدمات البوذية الأخرى هى أنه، باستثناء الألم الجسدى، فإن جميع المعاناة تنشأ فى العقل بسبب التعلق، والكره، والأفكار الخاطئة التى لدينا عن هويتنا. إن محاولة رفض المعاناة أو تجاهلها لا يؤدى إلا إلى جعلها أكثر قوة، ولكن الأمر نفسه ينطبق على عادة الإعجاب بها.
على الرغم من أن عمل الكاتب يستلهم إلى حد كبير من التجارب والملاحظة الدقيقة للعالم والبشر من حولنا، فإنه يستلهم أيضًا من الكتب التى كتبها الآخرون.
هناك العديد من الكتَّاب الذين ساعدونى على مواجهة الألم مباشرة، وسيستغرق الأمر وقتًا طويلاً للغاية لذكرهم جميعًا هنا.
أندريا باجانى هو واحد منهم. كتابه Se consideri le colpe (إذا كنت تحتفظ بسجل للذنوب) يروى الحزن العميق والوحدة التى يشعر بها طفل صغير تخلت عنه أمه، بينما يتحدث كتابه Mi riconosci (هل تعرفنى؟) عن وفاة أفضل صديق له ومرشده، الكاتب الإيطالى أنطونيو تابوكى. إحدى روايات باجانى الأخرى، التى كُتِبت على شكل حكاية وعنوانها Un bene al mondo (خير فى هذا العالم)، تبدأ هكذا:
كان هناك ذات مرة صبى صغير كان لديه ألم لا يفارقه أبدًا. كان يحمله معه فى كل مكان. كان يعبر الحقول فى الصباحات ليذهب إلى المدرسة. وعندما كان فى الفصل، كان الألم يلتف عند قدميه ولخمس ساعات ظل هناك، عيناه مغمضتان، لا يتنفس.
وعند فترة الاستراحة، كان يخرج مع الصبى وزملائه إلى ساحة اللعب، وعندما ينتهى يوم المدرسة، كان الصبى يعبر الحقل فى طريق العودة إلى المنزل، والألم بجانبه. لم يكن يحتاج إلى رباط لأنه لم يكن ليهرب أبدًا، ولم يكن يحتاج إلى كمامة لأنه لم يكن ليؤذى أحدًا.
هناك كتَّاب نقرؤهم لأنهم يبدون محبوبين، وفكاهيين، ومثيرين للاهتمام، وهناك كتّاَب نقرؤهم كما لو أننا نتحدث مع ذلك الجزء الحكيم فى أنفسنا الذى نادراً ما نلتقى به. فى هذه الفئة الثانية أضع، على سبيل المثال، الكاتب الفرنسى إيمانويل كارير. بدأت بقراءة كتابه «حيوات أخرى غير حياتى» دون أن أعرف ما هو موضوعه.
كان والدى قد تم تشخيصه مؤخرًا بسرطان المثانة المتقدم، وكانت القراءة إحدى الطرق التى ألهتنى عن الحزن التنبؤى، الذى كان مؤلمًا تقريبًا وأشد إيلامًا من الحزن الحقيقى. بدا أن القصة واضحة: كان كارير فى سريلانكا فى وقت حدوث التسونامى، وهى الصور التى لا تُنسى والتى رأيناها جميعًا على التلفاز. لم يكن يتطلب الأمر الكثير من الجهد للانغماس فى الحبكة.
ومع ذلك، عاد بعد فترة قصيرة إلى فرنسا وتغيرت القصة تمامًا. لم يعد الموضوع هو التسونامى، بل عذاب أولئك الذين يقضون حياتهم برفقة شخص عزيز مصاب بالسرطان. أى أن الكتاب تحدث عما كنت أعيشه تمامًا، عن الشىء الذى كنت أحاول الهروب منه.
وعلى الرغم من ما قد يظنه البعض، فإن الانغماس فى قصة صداقة جوليت وإتيان (المبنية على تجربة المرض، والمعاناة الجسدية، والموت الوشيك) لم يعمق حزنى؛ بل ساعدنى على فهم ما كان يحدث لى. وخصوصًا، ساعدنى على تحويل تركيزى من معاناتى إلى معاناة والدى، وعلى ما يشعر به، وعلى قلقه، وعلى غضبه، وعلى القصة التى أدت به إلى هذه النقطة. فى كتاب كارير، تم ذكر عدة كتَّاب، واثنان منهم رسخا فى ذهنى: الكاتب السويسرى فريتز زورن، الذى يتناول فى كتابه الوحيد «المريخ» موضوع السرطان، وهو سرطان الكاتب نفسه، كذروة لتاريخ عائلى وشخصى، لكنه يراه أيضًا نتيجة لعدم القدرة على التعبير عن الغضب.
والآخر هو المحلل النفسى بيير كازناف، الذى كانت مقالاته عن المرض كوسيلة للمعرفة الذاتية بمثابة النور الذى هديت به فى محاولاتى لفهم ما كان يمر به والدى. يقتبس إيمانويل كارير مقطعًا من كتاب «رحلة إلى نهاية الليل» للكاتب لويس-فيرديناند سيلين يلخص أطروحة روايته بشكل بليغ. المقطع هو: «ربما هذا هو ما نبحث عنه طوال حياتنا، لا شىء أكثر، أعظم حزن ممكن، لكى نصبح أنفسنا قبل أن نموت».
علمتنى وفاة والدى، وفقدان أحبائى الآخرين الذين كنت قريبًا منهم، أنه فى لحظات الألم الأكبر لدينا، يختفى الدرع العصبى الذى نميل إلى التحصن وراءه، أو على الأقل تتطور فيه شقوق، وهذا يعطينا الفرصة لإقامة اتصال حميم مع الآخرين، اتصال استثنائى.
هذه الاكتشافات كانت سببًا فى كتابة روايتى «بعد الشتاء»، التى تمر فيها أربع شخصيات بلحظات من الفقد المدمر وفى نفس الوقت تكتشف إمكانية اللقاء مع الآخر.
إذا كان المعلمون فى البوذية يعلمون من خلال طريقة وجودهم فى العالم (يتعلم المرء من مشاهدتهم، من خلال التواجد فى صحبتهم)، فإن انتقال هذه المعرفة لدى الكتاب يتم عبر كتبهم.
الشىء الذى ينقلونه هو إدراكهم الخاص للعالم. ماذا علمنى كارير لرؤيته؟ الآخرين، أولاً وقبل كل شىء. أن أنظر إليهم كما يصفهم فى كتبه: بتعاطف، وفضول، ورغبة فى فهم حتى أكثر البشر اضطرابًا وقسوة.
أنا أتفق مع عاموس عوز عندما يقول فى المرأة فى النافذة «أن تقرأ رواية يشبه أن تُدعى إلى غرف المعيشة الخاصة بالآخرين، إلى حضاناتهم، إلى مكاتبهم، وحتى إلى غرف نومهم. تُدعى إلى أحزانهم السرية، إلى أفراحهم العائلية، إلى أحلامهم».
على الرغم من أننا قد ننتمى إلى ثقافات مختلفة أو لحظات زمنية مختلفة، إلا أن البشر ليسوا مختلفين إلى هذه الدرجة عن بعضهم البعض. الأدب هو رمز دقيق للغاية ينجح فى فتح، ولو لوهلة، القلوب والعقول الأكثر انغلاقًا.
لديه القدرة على ربطنا عبر الأيديولوجيات، من خلال مشاعرنا الأساسية مثل الخوف، والإهانة، والحنان، والمعاناة، والرحمة التى قد تنشأ منها. لديه القدرة على دفعنا إلى المجال الحميم للآخرين والمجتمعات الأخرى، حتى المجتمعات العدوة، كما يقترح عوز، ليجعلنا نشارك فى قصتهم، وحياتهم اليومية، ومخاوفهم، ورغباتهم، ووجهات نظرهم، وتجاربهم، وخاصةً آلامهم.
يبدو لى أن إحدى الصفات الأكثر تميزًا فى الرواية هى أنها تسمح لنا بالوصول إلى الذاتية كما لا يسمح أى فن آخر. لدى البشر علاقة حميمة جدًا مع الكلمات. نفكر بالكلمات، ونحلم بالكلمات. الكلمات، عندما يتم اختيارها بشكل جيد، يمكن أن تسمح لنا ببناء الصور، بالتعبير عن المشاعر، بتسمية الأشياء، ووصف تلك الأشياء التى لا يمكن تسميتها.
هناك أوقات لا تكون فيها الكتب مجرد نافذة كما قال عوز، بل هى بوابة حقيقية أو آلة زمن تنقلنا إلى عوالم أخرى، تأخذنا ليس فقط إلى المنازل بل إلى أجساد وعقول أشخاص آخرين، سواء كانوا حقيقيين أم خياليين؛ باختصار، تتيح لنا أن نعيش حياة الآخرين.
على سبيل المثال، كنتُ جريجور سامسا: كنتُ برناردا ألبا الصارمة، وكنتُ واحدة من بناتها. كنتُ ابن بيدرو بارامو، كنتُ آنى إرنوا، وشعرتُ بالخجل الذى شعرت به كفتاة قروية فى عالم الجامعة الطبقى، شعرتُ برغبة هامبرت هامبرت فى فتاة فى الرابعة عشرة من عمرها، شعرتُ برغبة كارمن ماريا ماتشادو فى خريج هارفارد سيئ السلوك.
كنتُ جان - كلود رومان، وعرفتُ أنه لم يكن لدىَّ خيار سوى قتل عائلتى بأكملها قبل أن يكتشفوا سلوكى المشين. بفضل جايل فى، شعرتُ بمعاناة الهوتو فى اضطهاد التوتسى خلال الإبادة الجماعية فى رواندا وبوروندى.
إن الكتب تمنحنا فرصة العيش مرة أخرى، لأن ليس إعادة الحياة إلا العيش فى جسد آخر، وفى ظروف ووقت آخر. فى الكتب، تُسجل ذاكرة البشرية.
مثل الشخصيات فى رواية «نصيبنا من الليل» لماريانا إنريكيز، لا يزال البشر يحلمون بتجاوز الموت، ويحاولون البقاء فى هذا العالم الزائل، ويطمحون إلى نقل وعيهم، وهو أحد أهداف الكيميائيين.
ننسى أنه عندما تم اختراع الكتابة، اكتشفنا سر الخلود. هكذا ننقل وعينا إلى أجساد أخرى، وأيضًا هذه هى الطريقة الأكثر شيوعًا وبساطة للتواصل مع الموتى، وهى لا تتطلب منا أى تضحية.
يكفى أن نخصص بضع ساعات من وقتنا واهتمامنا لهم، لنتلقى منهم التجربة والحكمة والنصيحة ممن عاشوا قبلنا.
لا يهم إن كانوا قد عاشوا فى القرن الماضى، أو فى عصر النهضة، أو فى مصر القديمة. الكتب تحفظ تاريخنا، وحكمتنا، وتعويذاتنا، وسحر أسلافنا. أليس هذا إنجازًا سحريًا أعظم وأكثر تأكيدًا من السحر الذى سعى إليه الكيميائيون؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.