تفاصيل الحالة الصحية للفنان أحمد سعد بعد تعرضه لحادث سير    استطلاع: 44% من الإسرائيليين يرفضون منح نتنياهو عفوا عن تهم الفساد    الكاف يخطر الزمالك بطاقم تحكيم مباراة زيسكو يونايتد    هند عاكف ترد على شائعة زواجها من إسماعيل الليثي قبل وفاته    رئيس شعبة الذهب يكشف توقعاته للأسعار خلال الفترة المقبلة    بعد استبعاد الفنانين المصريين، تركي آل الشيخ يعلن عودة الثقافة المصرية لموسم الرياض    للأمهات، اكتشفي كيف تؤثر مشاعرك على سلوك أطفالك دون أن تشعري    توقيع اتفاقيات وتفقد مشروعات وتوسعات جامعية.. الحصاد الأسبوعي لوزارة التعليم العالي    انطلاق الأسبوع التدريبي ال 15 بقطاع التدريب وبمركز سقارة غدًا    أسماء مرشحي القائمة الوطنية لانتخابات النواب عن قطاع القاهرة وجنوب ووسط الدلتا    ضبط 15 شخصًا لقيامهم باستغلال الأطفال الأحداث في أعمال التسول    موجة برد قوية تضرب مصر الأسبوع الحالي وتحذر الأرصاد المواطنين    إنقاذ 3 مصريين فى منطقة محظورة بين تركيا واليونان    قناة السويس تشهد عبور 38 سفينة بحمولات 1.7 مليون طن    محاضرة بجامعة القاهرة حول "خطورة الرشوة على المجتمع"    عروض فنية وإبداعية للأطفال في ختام مشروع أهل مصر بالإسماعيلية    تصعيد قاسٍ في أوكرانيا... مسيّرات وصواريخ "كينجال" ومعارك برّية متواصلة    قافلة تنموية شاملة من جامعة القاهرة لقرية أم خنان بالحوامدية    مؤتمر جماهيري حاشد ل«حماة الوطن» بالدقهلية لدعم مرشحه في النواب 2025 | فيديو    الموسيقار هاني مهنا يتعرض لأزمة صحية    المدير التنفيذي للهيئة: التأمين الصحي الشامل يغطي أكثر من 5 ملايين مواطن    محافظ الجيزة يُطلق المهرجان الرياضي الأول للكيانات الشبابية    الصحة العالمية: 900 وفاة في غزة بسبب تأخر الإجلاء الطبي    فرص عمل جديدة بالأردن برواتب تصل إلى 500 دينار عبر وزارة العمل    مواجهات حاسمة في جدول مباريات اليوم السبت 15 نوفمبر 2025    وزيرة التنمية المحلية تفتتح أول مجزر متنقل في مصر بطاقة 100 رأس يوميا    بتكوين تمحو معظم مكاسب 2025 وتهبط دون 95 ألف دولار    انخفاض ملحوظ فى أسعار الطماطم بأسواق الأقصر اليوم السبت 15 نوفمبر 2025    الأعلى للثقافة: اعتماد الحجز الإلكتروني الحصري للمتحف المصري الكبير بدءًا من 1 ديسمبر    «التخطيط» تطبق التصويت الإلكتروني في انتخابات مجلس إدارة نادي هليوبوليس    توقيع إتفاق تعاون بين «مينا فارم» و«باير» لتوطين صناعة الدواء    «الزراعة»: إصدار 429 ترخيص تشغيل لمشروعات الإنتاج الحيواني والداجني    لو مريض سكر.. كيف تنظم مواعيد دواءك ووجباتك؟    في ذكرى وفاته| محمود عبدالعزيز.. ملك الجواسيس    تحاليل اختبار الجلوكوز.. ما هو معدل السكر الطبيعي في الدم؟    أطلقت عليه وابل رصاص وضربته بظهر الطبنجة (فيديو)    كولومبيا تعلن شراء 17 مقاتلة سويدية لتعزيز قدرتها الدفاعية    ترامب يلغي الرسوم الجمركية على اللحم البقري والقهوة والفواكه الاستوائية    عمرو حسام: الشناوي وإمام عاشور الأفضل حاليا.. و"آزارو" كان مرعبا    حارس لايبزيج: محمد صلاح أبرز لاعبي ليفربول في تاريخه الحديث.. والجماهير تعشقه لهذا السبب    نشرة مرور "الفجر".. انتظام مروري بمحاور وميادين القاهرة والجيزة    درجات الحرارة على المدن والعواصم بمحافظات الجمهورية اليوم السبت    الصين تحذّر رعاياها من السفر إلى اليابان وسط توتر بشأن تايوان    جامعة القناة تقدم ندوة حول التوازن النفسي ومهارات التكيف مع المتغيرات بمدرسة الزهور الثانوية    الشرطة السويدية: مصرع ثلاثة أشخاص إثر صدمهم من قبل حافلة وسط استوكهولم    الحماية المدنية تسيطر على حريق بمحل عطارة في بولاق الدكرور    مواقيت الصلاه اليوم السبت 15نوفمبر 2025 فى المنيا    في غياب الدوليين.. الأهلي يستأنف تدريباته استعدادا لمواجهة شبيبة القبائل    حكم شراء سيارة بالتقسيط.. الإفتاء تُجيب    إقامة المتاحف ووضع التماثيل فيها جائز شرعًا    دعاء الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج وافتح لي أبواب رزقك    مقتل 7 أشخاص وإصابة 27 إثر انفجار مركز شرطة جامو وكشمير    اشتباكات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    باحث في شؤون الأسرة يكشف مخاطر الصداقات غير المنضبطة بين الولد والبنت    جوائز برنامج دولة التلاوة.. 3.5 مليون جنيه الإجمالي (إنفوجراف)    زعيم الثغر يحسم تأهله لنهائي دوري المرتبط لكرة السلة    حسام حسن: هناك بعض الإيجابيات من الهزيمة أمام أوزبكستان    سنن الاستماع لخطبة الجمعة وآداب المسجد – دليلك للخشوع والفائدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جوان ديديون واللعب بمفردات الجحيم:
كاتبة الخواء الإنساني!
نشر في أخبار الأدب يوم 05 - 03 - 2016

هناك قراءات تخرج منها كما دخلتها، كأنك مررت سريعاً علي سطح زلق لا قدرة له علي خدشك أو التأثير فيك، قد تقضي وقتاً مسلياً أو تبتسم إذ تصادف فكرة طريفة أو فقرة مضحكة، لكن لا شيء أكثر من هذا. في المقابل هناك أعمال تؤلمك وتوقظ جراحاً بداخلك ظننتها التأمتْ. ومنها هذه الرواية الجارحة المؤذية رغم براعتها أو بالأحري بسببها.
لا أقصد هنا، أن هذا شرط للجودة الأدبية، لكن اقترانه بها وبأن يكون العمل المقصود كاشفاً للنفس البشرية الملغزة، يضاعف من قيمته، كما يجعله أشبه بمرآة يري فيها القارئ ذاته وحياته، مهما اختلفت تجربته الحياتية عن شخصيات العمل المقروء.
الرواية المقصودة هي Play it as it lays للكاتبة والصحفية الأمريكية جوان ديديون التي تكاد تكون غير معروفة عربياً رغم كونها من أهم الكاتبات الأمريكيات.
حقيقة أن شخصيات الرواية تنتمي لعالم هوليوود المخملي وغارقة في الجنس والحفلات وتعاطي المخدرات، وأن الأحداث تدور في أواخر الستينيات، لا تحد من قدرتها علي الوصول إلي قارئ اليوم أياً كان مكان عيشه أو نمط حياته.
وصف الروائي البريطاني مارتن إيمس جوان ديديون مرة بأنها "شاعرة الخواء الكاليفورني الهائل."، وفي هذه الرواية، كما في كتابات ديديون الصحفية، يبدو الخواء ماثلاً في كل ركن، ومطلاً بنظرته الميتة من كل شق في حائط الذات الآيلة للسقوط.
تبدأ الرواية ببطلتها الممثلة ماريا ويث في مصحة للأمراض النفسية. " ما الذي يجعل ياجو شخصية شريرة؟ يسأل البعض. أنا لا أسأل أبدًا." هكذا تباغت ماريا قارئ الرواية بسؤال بينما تعلن أنها كفت عن الأسئلة. "أنا ما أنا عليه. أن تبحث عن "أسباب" أمر خارج الموضوع. لكن لأن البحث عن أسباب هو عملهم هنا، هم يسألونني أسئلة. ماريا أجيبي بنعم أو لا." تضيف لاحقاً.
في القراءة الأولي، لن ينتبه القارئ في الغالب إلي لماذا اختارت ديديون ياجو من بين كل الشخصيات الفنية الشهيرة المرتبطة بالشر؟ لكن السؤال سيقفز إلي ذهنه حين ينتهي من القراءة، ويجد نفسه في حاجة لإعادة القراءة مجدداً، ويري اسم ياجو، فيفهم أن السؤال لم يكن اعتباطياً، وأن مفتاحاً رئيسياً لقراءة العمل مخفي في أكثر الأماكن وضوحاً: الجملة الافتتاحية. أصفه بالمخفي لأن الرابط بين ياجو الغيور من عُطيل وهيلين لن يظهر إلّا قرب نهاية الرواية اللاهثة سريعة الإيقاع.
سرعة الإيقاع تنبع من الدقة اللغوية وموهبة الإيجاز والصرامة في حذف كل ما هو زائد من كلمات أو أفكار أو أحداث، تنبع أيضاً من البناء الذي اختارته الكاتبة وتوفيقها في اختيار "الراوي" المناسب للعمل. هناك أربعة رواة. ماريا التي تفتتح الحكي ويتمحور حولها العمل، وهيلين "صديقتها"، والمخرج السينمائي كارتر زوج/ طليق ماريا (كلاهما يقدم إضاءة لشخصية ماريا مغايرة نسبياً لتصورها عن ذاتها)، ثم الراوي بضمير الغائب المهيمن علي معظم الرواية والمتبني بشكل ما لرؤية ماريا وتصوراتها، وقرب نهاية الرواية، يتبادل الراوي الحكي مع ماريا، عبر مقاطع (فصول؟) قصيرة جداً وكاشفة للشخصية والأحداث التي ظلت غائمة ومغبشة لفترة.
يزيد التشويق أيضاً من إحساسنا بسرعة الإيقاع، فمنذ البداية تجذبنا شخصية ماريا الخارجة علي المألوف كما تجذبنا الحكمة والذكاء في الفصل الأول المحكي بلسانها، ويزداد فضولنا لمعرفة كيف انتهي بها الحال في مصحة للأمراض العقلية؟ ولماذا فشل زواجها؟ والأهم من هو بي زِد وكيف مات؟
الفصل القصير التالي المروي بلسان هيلين سوف يزيد التشويق بدوره، إذ تخبرنا هيلين أن ماريا قتلت بي زِد! وسنعرف لاحقاً أن بي زِد كان منتجاً سينمائيا شهيراً وزوجاً لهيلين.
"رأيت ماريا اليوم. أو علي الأقل حاولت رؤية ماريا اليوم: بذلت الجهد. لم أفعل هذا من أجل ماريا، لا أمانع في قول هذا، فعلته من أجل كارتر، أو من أجل بي زِد، أو من أجل شيء ما، لا من أجل ماريا. "لا أرغب في التحدث إليك، يا هيلين" كان هذا ما قالته آخر مرة. "الأمر ليس شخصياً، يا هيلين، فقط لم أعد أتحدث." ليس من أجل ماريا. علي أية حال، لم أرها. ضيعت الصباح بكامله في القيادة طول الطريق إلي هناك، عبأت لها صندوقاً، كل الكتب حديثة الصدور، ووشاح من الشيفون تركته ذات مرة علي الشاطئ (كانت مهملة، لا بد أن ثمنه 30 دولاراً، لطالما كانت مهملة.)" هكذا تبدأ هيلين الفصل الخاص بها الذي نخرج منه ببورتريه غير مشرق عن ماريا، فهي وفقاً لهيلين: شخصية مهملة، لا تطيق نجاح زوجها السابق كارتر (ورغم هذا من ضمن الأشياء التي حملتها هيلين لها وهي تزورها في المصحة النفسية صفحة من النيويورك تايمز بها "بروفايل" طويل عن كارتر!) ماريا أيضاً قاتلة وفقا لهيلين، ولا يزداد وزنها أبداً! وتبرر هيلين هذا بأنه سمة النساء الأنانيات. "السيدة لانج ترتاح." هذا ما تقوله الممرضة لهيلين كمبرر لعدم قدرة (رغبة؟) ماريا علي رؤيتها، وما تعلق عليه هيلين بأنها هي من تحتاج إلي الراحة لا ماريا، إذ تقول: "ليس الأمر أنني ألوم ماريا علي أي شيء حدث لي، علي الرغم من أنني مَن عانت، أنا من ينبغي أن ترتاح، أنا من فقد بي زِد بسبب إهمالها وأنانيتها، لكنني ألومها فقط نيابة عن كارتر. لو اُتيحت لها نصف فرصة لكانت قتلته هو الآخر. كانت دائماً فتاة أنانية جداً، هذا ما كانت عليه ماريا أولاً وأخيراً ودائماً."
النبرة بالغة التحامل ضد "صديقة" قديمة من المفترض أنها مريضة عقلياً تبدو لافتة ولا يبررها ادعاء هيلين أن ماريا قتلت بي زِد، لأن هيلين تبدو مهتمة بكارتر طليق ماريا أكثر من اهتمامها بزوجها الراحل، لكننا لن ندرك الخلفيات سوي مع نهاية العمل، وحس الغموض هذا تنجح ديديون في تدعيمه تماماً دون تكلف أو مبالغة.
جانب آخر من شخصية ماريا يقدمه الفصل الثالث القصير المروي بلسان الزوج/ الطليق كارتر. كمخرج سينمائي يستدعي كارتر ماريا عبر بضعة مشاهد، الصورة البصرية هي الحاضرة بقوة في المقطع المروي علي لسانه وتظهر ماريا فيه كشخصية غير مستقرة نفسياً توتر الآخرين وتذهلهم. فهي، وفقاً لكارتر، "لم تفهم الصداقة، المحادثة، اللياقات العادية للتواصل الاجتماعي قط. ماريا تجد صعوبة في الكلام مع أناس لا تنام معهم."
في أحد المشاهد التي يستدعيها كارتر تتفوه ماريا بتعليق يكذِّب ما يقوله، ينظر الجالسون علي الطاولة معهما إليها ثم بعيداً عنها، مذهولين غير مرتاحين: شيء ما في الطريقة المتوترة ليديها علي حافة الطاولة، يمنع ما حدث من الانقضاء. وحده بي زِد يستمر في النظر مباشرةً إليها.

تفاصيل كثيرة تغمز لنا، منذ البداية، بأن بي زِد يختلف عن الآخرين، هو الغائب الحاضر، ودائماً سيكون هناك خيط خفي يربطه بماريا، ماريا التي سيطلب منها أن تمسك يده بينما يرقد بجانبها بعد أن ابتلع حفنة من الحبوب المخدرة مع الكثير من الفودكا، سيطلب منها أن تنام قابضة علي يده بينما يبدأ رحلته نحو العدم أو الأبد. "أنا وأنت نعرف شيئاً. لأننا كنا هناك حيث لا شيء." هذا ما يجمعهما وفقاً له، وما يعزز اختلافهما عن الآخرين، لكن هذا الاختلاف لا يعني بالضرورة أن المؤلفة تنظر إلي ماريا وبي زِد كشخصيات جيدة في مقابل شخصيات أخري شريرة، فهذا لا يعنيها. كل الشخصيات غارقة في جحيم رمزي وكلها تقترب من مفهوم البطل- الضد، الفارق أن ماريا وبي زِد مدركان للخواء المحيط بهما، أنهما يعرفان شيئاً، لأنهما كانا هناك حيث لا شيء! أما كارتر وهيلين ف"ما زالا يطرحان أسئلة. اعتدت أن أطرح أسئلة في الماضي، وتلقيت الإجابة: لا شيء. الإجابة هي "لا شيء". تقول ماريا، ثم تنهي الرواية بصوتها "أعرف شيئاً لم يعرفه كارتر، أو هيلين، أو لم تعرفوه أنتم قط. أعرف معني "لا شيء"، وأستمر في اللعب. لماذا، يقول بي زِد. ولِمَ لا، أقول."
هي هنا لا تميز نفسها عن كارتر وهيلين فقط، بل تعلن اختلافها عن بي زِد نفسه، فمع معرفتهما لمعني الخواء والعدم قرر هو الانتحار وقررت هي الاستمرار في اللعب حتي ولو بعقل خامل، حتي ولو كانت تجهل طبيعة اللعبة باعترافها في الفصل الأول: "ربما كنت أحمل كل الأوراق الرابحة، لكن ماذا كانت اللعبة؟" .
وربما يكون سبب رغبتها في الاستمرار غريزة الأمومة عندها، تعلقها بطفلتها "كايت" ذات السنوات الأربع المريضة بمرض غير محدد والمحتجزة في مستشفي ما، وحلمها بأن تتمكن يوماً من أن تستقل بحياتها مع صغيرتها.

التفاصيل التي تشتغل عليها جوان ديديون - في المجمل - خارجة من قلب الجحيم الأرضي، جحيم النفس البشرية، حيث الظلمة والشر، وشخصياتها الفنية تعاني من شتي أنواع المآسي، إلّا أنها تنجح بمهارة لافتة في كتابة هذا كأنه تفاصيل حياة يومية، لا تستحق التوقف أمامها أو الشكوي منها. يحضرني هنا الجزء الذي تحكي فيه ماريا عن الميتة البشعة لأمها التي انحرفت سيارتها علي الطريق السريع في صحراء نيفادا ومزقت الذئاب جثتها لدرجة صعبت التعرف عليها، والطريقة العادية التي تقبلت بها قرار بي زِد بالانتحار وأمسكت بيده وعادت للنوم كما طلب منها رغم إدراكها أنها حين تستيقظ سيكون النائم بجوارها ويده في يدها جثة هامدة.

لا يعنيني هنا حكي أحداث الرواية، فالفكرة ليست في الأحداث ولا حتي في الموضوع، بل في تقنية الكتابة، والمستويات المتعددة للحكي، بحيث تكتشف مع كل قراءة جديدة بعداً مخفياً وتفصيلة تدعم تأويلك الأولي أو تسخر منه. هذا تحديداً ما لا ينقص من إعجابك بالعمل حين تقرأه مرة ثانية وثالثة، بعد أن عرفت مصائر شخصياته، وما لا يقلل من حس التشويق الذي يغلفه ويجعله صامداً أمام قراءات تالية باحثة عن الثغرات والنواقص، فتمسك جوان ديديون بالبعد عن المباشرة وانحيازها إلي الإيحاء لا الكشف، يسمان العمل بحيوية فائقة.
الأهم، هنا، ليس ما دونته ديديون، بل ما حذفته. ليس ما أوضحته وأعلنته علي لسان شخوصها أو الراوي بضمير الغائب، بل ما تركته مغبشاً غائماً. ربما لهذا تحمل شخصية بي زِد جاذبية مضاعفة رغم هامشيتها مقارنة بالشخصيات الثلاث الأخري، فمساحة المخفي والمحذوف فيما يخصها أكبر. المثير للاهتمام أن ديديون اعترفت في حوار لباريس ريفيو بأنها لم تدرك أن بي زِد شخصية مهمة في الرواية إلا خلال الأسابيع الأخيرة من العمل عليها، وحينها بدأت في العودة للشخصية والاشتغال عليها أكثر.

الدقة والقدرة علي حذف كل ما هو زائد يذكران بإرنست هيمنجواي، لذا لن يفاجئنا كثيراً اعتراف ديديون بتأثرها بهيمنجواي، لكن عاملاً آخر لعب دوره في هذه المسألة، كما سبق ومثَّل تأثيراً علي أسلوب هيمنجواي ذاته، وأقصد بهذا العمل بالصحافة، ولا يجب أن يندهش القارئ حين يعرف أن العمل في مجلات مثل "فوج"، "لايف"، "فانيتي فير" تحديداً أثر تأثيراً مضاعفاً في حالة ديديون. في حوارها لباريس ريفيو، تسألها المحاوِرة عن كيف تأثر أسلوبها بالعمل كمحررة في "فوج" حيث تعلمت الدقة اللغوية من آلين تالمي. فتجيب ديديون: "اعتدت دخول مكتبها يومياً ومعي ثمانية أسطر من نسخة أو تعليق أو شيء ما. واعتادت الجلوس هناك وتصحيحها بقلم رصاص وهي غاضبة جداً بسبب كلمات زائدة أو أفعال غير ملائمة. لا أحد لديه الوقت لفعل هذا إلّا في مجلة مثل "فوج". لا أحد، لا معلم. لقد تعلمت وحاولت أن أفعل هذا بدوري، لكن ليس لدي كل هذا الوقت، وكذلك التلاميذ ليس لديهم وقت. في تعليق من ثمانية أسطر، كل شيء يجب أن يكون له وظيفة، كل كلمة، كل فاصلة. سينتهي به الأمر ليكون تعليقاً في "فوج"، لكن بشروطه الخاصة يجب أن يتسم بالكمال."
براعة ديديون مع اللغة، وتمرسها في تفجير أقصي طاقاتها، تدعمهما عين قوية الملاحظة وعقلية قناص. بكلمات قليلة يمكنها رسم شخصية فنية لا تُنسي في أعمالها الإبداعية أو إضاءة شخصية واقعية ممسكة بجوهرها في كتاباتها الصحفية. في "الألبوم الأبيض" مثلاً، وضمن فقرة عابرة تصف جيم موريسون نجم فرقة "ذا دوورز" فتشعر بأنك تفهم شخصيته للمرة الأولي رغم قراءتك لمقالات عديدة عنه ومشاهدتك لفيلم مستلهم من قصة حياته. في الكتاب نفسه صكت ديديون الوصف الأشهر ل"ذا دوورز": نورمان ميللرز الموسيقي! وصف ارتبط بأفراد الفرقة وصار كافياً لتقديم قراءة كاملة في أفكارهم وكلمات أغانيهم وعلاقة الجنس بالموت فيها.

عن الفرق بين كتابة الرواية وكتاباتها غير الروائية تقول صاحبة "عام التفكير السحري": "في الكتابة غير الروائية، عنصر الاكتشاف لا يحدث أثناء الكتابة نفسها، بل خلال البحث وجمع المادة. هذا يجعل كتابة قطعة مسألة مملة. أنت تعرف مسبقاً عن أي شيء هي."
لم أقرأ لديديون سوي هذه الرواية وكتاب "الألبوم الأبيض" إضافة إلي مقالات متفرقة، لكن لفت انتباهي، اختلافاً مهماً، في المقالات والريبورتاجات الصحفية التي قرأتها، ديديون حاضرة دوماً، كتابتها تحمل لمسة اعترافية وتسعي بشكل ما للبوح، حتي لو كانت تكتب عن حادثة اغتيال بشعة، أو قضية رأي عام، في هذه الرواية، أجدها ليست معنية بالبوح، بل مولعة بالإخفاء والإعجام، وإثارة الخيال وفتح الباب للتخمينات، وحتي لو لجأت ماريا للبوح في بعض الأجزاء المروية علي لسانها، فهو بوح يخص الشخصية الفنية، كما أنه مُتحَكَّم به تماماً، وكل جملة منه، تضيف الكثير إلي العمل بحيث لا يمكن الاستغناء عنها.
لكن سواء كان الأمر يخص كتابات ديديون الإبداعية أو مقالاتها الصحفية، فالثابت هو ولعها بحكي القصص، فكما كتبت في "الألبوم الأبيض"، الحكي وسيلة بقاء: "نحكي قصصاً لأنفسنا كي نعيش. الأميرة محبوسة في القلعة. رجل الحلوي سيقود الأطفال إلي داخل البحر. المرأة العارية علي الإفريز الخارجي لنافذة الدور السادس عشر ضحية لا مبالاة، أو المرأة العارية شخصية استعراضية، وسيكون مثيراً معرفة أيهما هي. نخبر أنفسنا أنه سيشكل بعض الفرق إذا ما كانت المرأة العارية علي وشك ارتكاب خطيئة مميتة، أو علي وشك تسجيل احتجاج سياسي، أو علي وشك أن تكون رؤية أريستوفانية، تعاد إلي الشرط الإنساني بواسطة رجل إطفاء بثياب قِس يظهر في النافذة خلفها مباشرة، الرجل المبتسم لعدسة كاميرا التليفزيون. نبحث عن العظة في الانتحار، عن الدرس الاجتماعي أو الأخلاقي في اغتيال خمسة أفراد. نحن نؤوِّل ما نراه، نختار الأكثر ملاءمة من بين اختيارات متعددة. نعيش بالكامل، خاصة إذا كنا كتاباً، بفرض سطر سردي علي صور مختلفة، ب"الأفكار" التي تعلمنا عبرها تجميد الصور المتحولة والمتلاحقة التي هي خبرتنا الواقعية."


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.