عظيمة وجميلة يا مصر، أرض الحضارات التي لا تزال تبهر العالم بأسرارها وكنوزها المخفية تحت رمالها، فكل اكتشاف أثري جديد في أرض الكنانة يفتح نافذة على الماضي، وكأنه يعيد رسم تفاصيله بدقة، ليحكي لنا قصص ملوك وكهنة، وحياة ازدهرت منذ آلاف السنين. اقرأ أيضا | تفاصيل 5 إكتشافات أثرية في ظلال معبد الملكة حتشبسوت بالدير البحري| صور واليوم، ونحن نقف أمام اكتشاف أثري جديد في منطقة سقارة، نجد أنفسنا أمام مشاهد تفصيلية مذهلة، تشبه ما لو كانت قد نُقشت بالأمس، رغم أنها تعود إلى أكثر من أربعة آلاف عام. اكتشاف مذهل يعيد رسم ملامح التاريخ أعلنت البعثة الأثرية المصرية، عن اكتشاف مقبرة جديدة في منطقة سقارة الأثرية، يعود تاريخها إلى أواخر الأسرة السادسة من الدولة القديمة، أي ما يزيد عن 4000 عام. ورغم قِدمها، فإن جدرانها المذهلة تحمل نقوشًا وزخارف لا تزال تحتفظ بألوانها الأصلية، وكأنها لم يمسها الزمن. هذا الاكتشاف الفريد يسلط الضوء على فترة تاريخية حافلة بالأحداث، حيث كانت مصر تمر بمرحلة انتقالية بين نهاية الدولة القديمة وبداية عصر الاضمحلال الأول. وقد ساهمت هذه المقبرة في تقديم معلومات جديدة حول الحياة اليومية، والمعتقدات الدينية، وعلاقة الكهنة والموظفين بالملوك في ذلك العصر. تفاصيل المقبرة وتصميمها المعماري تتميز المقبرة بتصميمها الفريد الذي يعكس أساليب الدفن المتبعة في نهاية الأسرة السادسة، حيث تتكون من ممر طويل ينتهي بحجرة دفن واسعة، جدرانها مزينة بنقوش بارزة تظهر مشاهد طقسية، وصورًا للمتوفى وهو يتلقى القرابين من أفراد أسرته وكهنته. وقد عُثر داخل المقبرة على مجموعة من الأواني الفخارية، وتماثيل جنائزية، وأدوات كانت تُستخدم في الطقوس الدينية، إضافة إلى بقايا تابوت حجري يحمل نقوشًا هيروغليفية تروي جانبًا من سيرة صاحب المقبرة. نقوش مذهلة وألوان زاهية من أبرز ما يميز هذا الاكتشاف، هي النقوش الرائعة التي زُينت بها جدران المقبرة، والتي لا تزال تحتفظ بألوانها الأصلية رغم مرور آلاف السنين. وتصور هذه الرسومات الحياة اليومية للمتوفى، بدءًا من مشاهد الصيد والزراعة، وحتى الطقوس الجنائزية التي كانت تُجرى لضمان انتقاله إلى العالم الآخر. ويشير علماء الآثار، إلى أن هذه النقوش تؤكد استمرار تقاليد الدولة القديمة حتى نهاية الأسرة السادسة، حيث حافظ المصريون القدماء على الدقة المتناهية في تصوير تفاصيل الحياة والمعتقدات الدينية، حتى في ظل الاضطرابات السياسية التي شهدتها تلك الفترة. علاقة صاحب المقبرة بالأسرة الحاكمة تشير النقوش الهيروغليفية داخل المقبرة إلى أن صاحبها كان شخصية بارزة في البلاط الملكي خلال عهد الملك "تيتي" مؤسس الأسرة السادسة، وربما كان أحد كبار الكهنة أو الموظفين المسؤولين عن شؤون المعابد. وقد ذكر في النصوص أن المتوفى شغل منصب "كبير الكهنة للإله فتاح"، مما يدل على النفوذ الكبير الذي تمتعت به كهنة منف خلال تلك الحقبة، خاصة في ظل تراجع نفوذ معابد عين شمس لصالح معابد الإله فتاح. مقارنة مع اكتشافات سابقة في سقارة يأتي هذا الاكتشاف، ليضاف إلى سلسلة من الاكتشافات المذهلة التي شهدتها منطقة سقارة في السنوات الأخيرة، حيث تم العثور على مقابر تعود إلى شخصيات بارزة من الدولة القديمة، مثل مقبرة الكاهن "واح تي" ومقبرة رئيس الوزراء "بتاح شبسس".. ويؤكد هذا الأمر أن سقارة لم تكن مجرد موقع دفن ملكي، بل كانت مركزًا دينيًا وإداريًا مهمًا، حيث دُفن فيها كبار الكهنة والمسؤولين الذين لعبوا دورًا رئيسيًا في إدارة شؤون البلاد خلال الدولة القديمة. نهب المقابر.. جريمة قديمة رغم جمال وروعة النقوش المكتشفة، فإن علماء الآثار يعتقدون أن هذه المقبرة قد تعرضت للنهب خلال العصور القديمة، حيث لم يُعثر بداخلها على مومياء المتوفى، وهو ما يتكرر في العديد من مقابر الأسرة السادسة، ويُرجح أن لصوص المقابر، اقتحموا المكان خلال فترة الاضطرابات التي تلت نهاية الدولة القديمة، وهو ما حدث أيضًا لهرم الملك "تيتي"، حيث تعرض للنهب والتخريب، ولم يبقَ من جثمان الملك سوى ذراعه وكتفه فقط. أهمية الاكتشاف في فهم تطور الفن المصري القديم يمنحنا هذا الاكتشاف نظرة فريدة على تطور الفن المصري القديم خلال نهاية الدولة القديمة، حيث يظهر في النقوش دقة متناهية في تصوير الوجوه والتفاصيل المعمارية، إلى جانب استخدام ألوان زاهية تعكس مهارة الفنانين المصريين، كما تكشف النقوش عن استمرار بعض التقاليد الفنية التي ظهرت في هرم "وناس"، حيث نجد نصوصًا دينية مماثلة لتلك التي وُجدت داخل أهرامات الأسرة الخامسة، مما يؤكد أن الفكر الديني ظل ثابتًا نسبيًا حتى نهاية الأسرة السادسة. استمرار الاكتشافات.. ماذا بعد؟ تعمل البعثة الأثرية المصرية حاليًا على استكمال الحفائر في المنطقة المحيطة بالمقبرة، على أمل العثور على المزيد من الكنوز الأثرية التي قد تساهم في كشف المزيد عن فترة نهاية الدولة القديمة، ويأمل العلماء أن تقودهم هذه الاكتشافات إلى مقابر أخرى غير مكتشفة بعد، قد تحتوي على نصوص أو آثار تقدم أدلة جديدة حول فترة حكم ملوك الأسرة السادسة، وخاصة الملك "تيتي" وخلفائه. مرة أخرى، تثبت مصر أنها كنز لا ينضب من التاريخ والحضارة، وأن كل حفرة تُنقب في أرضها تكشف عن سر جديد يعيد رسم ملامح ماضٍ مجيد. الاكتشاف الجديد في سقارة ليس مجرد مقبرة أثرية، بل هو شهادة حية على عبقرية المصريين القدماء، ومدى إبداعهم في فنون العمارة والنحت والرسم. ومع استمرار أعمال التنقيب، يبقى السؤال مفتوحًا: كم من الكنوز لا يزال مخفيًا تحت الرمال، في انتظار أن يُكتشف ويعيد كتابة التاريخ من جديد؟ أقرأ أيضا | على هامش الاكتشافات الأثرية.. محافظ الأقصر: إشغالات الفنادق تخطت 90٪