يجلس على كرسي وثير أمام مدخل عمارة فخمة بمنطقة وسط البلد، يمسك بيده كوب شاي «ثقيل حبر»، وبيده الأخرى يدخن سيجارة، يحملق في وجوه المارة، يرد السلام بتأفف على سكان العمارة، يرن هاتفه المحمول من وقت لآخر فيجيب على المتصل بحماسة: «الإيجارات زادت ومش هتنازل عن نصيبي من السمسرة».. وقصص أخرى كثيرة لإمبراطورية البوابين في مصر. ◄ مشروع قانون لتنظيم عملهم وتأهيلهم يثير جدلًا في البرلمان المشاهد كثيرة وتعكس سطوة العديد من العاملين فى هذه المهنة، فهذا بواب آخر يهب واقفًا بمجرد رؤيته سيارة حديثة تنزل منها سيدة أنيقة، يحمل عنها الأكياس البلاستيكية ويفتح لها باب المصعد لتناوله ورقة مالية فئة 50 جنيها، تشدد عليه لتنظيف السلالم ومسحها تفاديًا لتكوُّم الغبار والأتربة، ينادى على زوجته التى تسكن معه فى غرفة واسعة بجانب المصعد كى تساعده فى عملية التنظيف، إنه «البيه» صاحب الإدارة بواب العمارة، لا يتوانى عن فرض هيمنته على كافة السكان مستغلًا عدم وجود ضوابط أو قواعد تنظم عمله، يقيم له السكان وزنًا واعتبارًا، فهو المسئول عن تلبية كافة مطالبهم، وتخلصًا من تطفله وفضوله الذى يدفعه للتساؤل عن هوية الزوار وعلاقة القرابة التى تجمعهم مع السكان، ورغم أن انتشار الكومبوندات حجّم من دورهم، فإن سلطتهم وسطوتهم تنتشر فى عقارات المدن الجديدة. ◄ سلطة وسطوة يرى البواب أو حارس العقار أن مهمته لا تقتصر فقط على خدمة سكان العقار وتلبية متطلباتهم، بل تصل لحد معرفة مواعيد دخولهم وخروجهم وخط سيرهم فى بعض الأحيان، خاصة ساكنات العمارة سواء فتيات صغيرات أو حتى الزوجات والمطلقات مطبقا المثل الشعبى «إن غاب القط العب يا فار»، قد يتخلى عن هذا المبدأ إذا حصل على «مراضية» أو مبلغ مالى يتلقفه مرددا: «من يد ما نعدمها». يقول أحمد زينهم، أحد سكان واحدة من عمارات الزمالك: منذ سكنى فى هذا العقار قبل 20 سنة عاصرت العشرات من البوابين الذين تغيرت سماتهم بمرور الوقت، فالبواب قديما كان رجلا ريفيا يتم استقدامه من إحدى القرى البعيدة وكان لا يجيد القراءة أو الكتابة، وعمله يقتصر على النظافة وتلبية طلبات السكان، وأغلبهم كان يرفض تقاضى المال نظير ذلك مؤكدين أن ذلك من صميم عملهم. ويضيف زينهم: لكن تغيرت أعمالهم تماما لاحقا، وأصبح البواب يعمل سمسارا يقوم بتأجير شقق العمارة نظير نسبة من الإيجار، ويعلن عن عمله بلافتة يضعها على مدخل العمارة مدون فيها اسمه ورقم هاتفه، فضلا عن أن بعضهم بات يرفض القيام بأعمال التنظيف أو يقوم بها على مضض، والأدهى أن أغلبهم بات يستغل الروف أو السطوح لتخزين كراكيبه وحاجاته ضاربا بعرض الحائط كافة القوانين والتنبيهات. ويرى زينهم أن سطوة البوابين باتت فى تنامٍ خاصة أن تكلفة الاستعانة بموظفى الأمن تكلف أرقاما خيالية، كما أن مسئوليته تقتصر على أعمال الحراسة دون التنظيف أو تلبية مطالب السكان. وتتفق معه مها محمود: يلعب البواب دور حامى الحمى، فيسأل السكان عن مواعيد دخولهم وخروجهم وهوية زوارهم، ولا يقتصر تطفله عند هذا الحد بل يقوم بسؤال سائقى الأجرة أو أوبر عن المكان الذى سأذهب إليه أو قدمت منه مبررا، ذلك بأنه يطمئن على سلامتى وأمنى خاصة أننى أسكن بمفردى بعد طلاقى. مع زيادة الإقبال على السكن فى المدن الجديدة بعيدا عن زحام وتكدس العاصمة أصبحت مهنة حارس العقار مهمة، وشرطا أساسيا لشعور السكان بالأمان، وهذا ما زاد من نفوذ البوابين، وباتوا يستقدمون أقاربهم ومعارفهم ليحكموا قبضتهم على المبانى تحت الإنشاء، ويعملون أيضا سُيّاس جراجات وفى تسهيل ركن السيارات بالشوارع الجانبية، كما يقومون بتأجير إحدى الشقق السكنية لتصبح مقرا لإدارة عملهم فى السمسرة وأعمال المقاولات والتشطيبات. ◄ اقرأ أيضًا | «أرخص كيلو لحمة».. «آخرساعة» ترصد الأسعار بسوق الوراق ومولات التجمع ◄ شروط البوابين تقول أم نوح (50 عاما): انتقلنا للسكن فى مدينة 6 أكتوبر منذ عشر سنوات بسبب عمل زوجى هناك، وقابلنا الكثير من البوابين الذين يعملون سماسرة، وبدأوا يعرضون علينا شققًا مختلفة المساحات والتشطيبات، والسمسرة التى سيحصل عليها البواب تختلف بحسب موقع ومساحة الشقة وكونها مفروشة بالكامل أم لا، لافتة إلى أنها فور الانتقال لإحدى الشقق فرض البواب شروطه كأنه مالك العقار، وتقول: «اضطررنا للموافقة لأن الشقة قريبة من عمل زوجى». أما محمود فهمي، أحد سكان مدينة بدر، فيرى أن البوابين أصبحوا قوة جبارة فى المدن الجديدة ويمتلكون الآن الكثير من البنايات والعمارات نتيجة عملهم بمجال السمسرة، بخلاف عملهم الأساسى داخل العمارات من تنظيف ورى الأشجار، مؤكدًا أن أغلبهم لا يدفع شيئا مقابل السكن وفواتير المياه والكهرباء، بجانب «الشهرية» التى يتقاضاها من ساكنى الشقق. ويؤكد أن الهدف من وجود البوابين هو حماية الشقق من السرقات وانتهاكات الغرباء، لكن مؤخرا تعرض الكثير من الشقق للسرقة أثناء قيام البواب بعمله الإضافى من سمسرة وركن السيارات. ◄ بواب مودرن تغيرت الصورة الذهنية عن البواب، فلم يعد ذلك الرجل الريفى البسيط القادم من وجه بحرى أو الصعيد، فالبواب اليوم أصبح يرتدي أحدث صيحات الملابس ويحمل هاتفا محمولا، كما يحرص على تعليم أطفاله حتى المرحلة الجامعية، فضلا عن رغبته الدائمة فى تكوين ثروة لا بأس بها تؤمن له مستقبله مبررًا ذلك بأن القانون لا يضمن له أى حقوق أو ينظم عمله. يقول «عبدالوهاب.ج» أحد حراس العقارات بمنطقة فيصل فى الجيزة: قدمت إلى القاهرة منذ عشر سنوات قادما من محافظة الفيوم لصعوبة الحصول على فرصة عمل هناك، وقام أحد أقاربى بترشيحى لصاحب عمارة للعمل حارسًا لها مقابل راتب شهرى يتم تجميعه من كل الشقق، والسكن فى غرفة واسعة فى «بير السلم»، مؤكدا أنه راتب زهيد يكفيه بالكاد لإعالة أسرته المكونة من زوجته وثلاثة أبناء. ويتابع: بالطبع أقوم بأعمال إضافية للسكان مثل غسل السيارات وتنظيف الشقق وغسل السجاجيد بمساعدة زوجتى، ورغم أنها أعمال مرهقة لكنها تحسِّن دخلى فى ظل ارتفاع الأسعار. أما جرجس منير، حارس عقار بمنطقة الهرم، فيدافع عن البوابين: لا يوجد قانون عمل يحمى مهنتنا المهددة بالاندثار نتيجة انتشار الكومبوندات والاستعانة بموظفى الأمن، وكذلك الصورة الذهنية الخاطئة التى كونتها الدراما عنا، إذ أظهرتنا كاستغلاليين ومتطفلين وغير متعلمين، ولكن هذه الفكرة أصبحت غير موجودة حاليا، فالكثير من أبناء البوابين يحصل على شهادات جامعية ويعمل فى مهن حكومية، والدليل حصول ابنة أحد البوابين على مجموع عالٍ فى الثانوية العامة. ◄ فوضى وعشوائية وعن أثر انتشار البوابين فى المدن والعقارات المصرية يقول الدكتور أحمد ماضى، أستاذ علم الاجتماع: قديمًا كان هناك تنظيم لعمل البواب، حيث كان عمله يقتصر على تلبية مطالب سكان العقار وضمان حمايتهم وسلامتهم، وكان أغلبهم مؤمنًا بطبيعة عمله ومتفانيا بها، فكان يحس أنه واحد من السكان، لكن منذ عدة سنوات تغيرت طبيعته وأصبح يلجأ لأعمال إضافية وامتلاك التكاتك والسيطرة على الشارع بإنشاء كشك لبيع المواد الغذائية، وبالطبع خلق هؤلاء حالة من الفوضى والعشوائية فى المناطق التى يعملون بها. ولابُد من وجود قوانين تنظم عملهم لأنه فى النهاية سيحدث نوعًا من أنواع الاستقرار الاجتماعي. ◄ مشروع تأهيلي فيما يوضح الدكتور حمدى عرفة، أستاذ الإدارة الحكومية: أن عدد البوابين فى مصر يبلغ حوالى 6.35 مليون بواب يحرسون أكثر من 43 مليون عقار سكنى سواء بالمدن الجديدة أو باقى المحافظات الأخرى، وتبدأ مرتباتهم من 1500 جنيه حتى الخمسة آلاف، إلا أن أغلبهم يقوم بأعمال إضافية يحصلون على مبالغ مادية نظيرها. ويرى عرفة أنه من الضرورى تأهيل تلك الفئة والحرص على إتمامهم تعليمهم مع التزامهم بالعمل فى حراسة العقار وحسب، دون الأعمال الأخرى الإضافية التى تشتتهم عن مباشرة عملهم الأساسي. ويطالب عرفة البرلمان بضرورة سن مشروع لقانون تنظيم فئة حراس العقارات يتضمن تحديد حد أدنى لأجورهم، وأن يشملهم التأمين الإجتماعي، فضلا عن تحديد المهام المنوطة بهم القيام بها، وأن تكون غرفهم مؤهلة للسكن الآدمي. ◄ مشروع موقوف وكان النائب البرلمانى محمد الحسينى تقدم قبل فترة بمشروع لتنظيم عمل حراس العقارات، بهدف إدخال هذه الشريحة في منظومة منضبطة، واستصدار رخص مزاولة مهنة لهم من مديريات الأمن، دون تعقيدات أو أعباء مالية، وتوفير الحماية الاجتماعية لهم، لأنهم شريحة مهمشة لا تراها الدولة، ويجب أن تحميهم نقابة، مع إضافة شروط إجادة القراءة والكتابة، إلا أن مشروعه أثار جدلا وأجج خلافات تحت قبة البرلمان ولم يتم حسمها إلى الآن وأصبح المشروع في طي النسيان.