رفض التهجير ودعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى ليس مجرد موقف رسمى أو رؤية لنظام سياسى أو حكومة بعينها، بل هى عقيدة لدى كل مواطن مصرى، وأمانة يتناقلها المصريون جيلًا بعد آخر. اعتاد الناس أن يضربوا المثل على ضعف الذاكرة أو النسيان السريع باستخدام مصطلح «ذاكرة السمك»، ورغم أن الدراسات العلمية أثبتت عدم دقة هذه الفكرة، لكن كثيرًا من المتعاملين مع الشأن العام، وبخاصة فيما يتعلق بالسياسة الدولية يصرون على امتلاك ذاكرة ضعيفة فى التعامل مع قضايا الشرق الأوسط، رغم أن التاريخ جزء من الأعمدة الأساسية التى تُبنى عليها العلاقات الدولية، وأساس راسخ من أسس التحليل السياسى، فالحاضر هو انعكاس بطريقة أو بأخرى للماضى، ولا يمكن فهم ما يجرى حولنا دون تحليل عميق لما جرى من تفاعلات بين الإنسان والأرض والزمن. وللأسف الشديد يُصاب البعض بضعف ذاكرة متعمد عندما يتعلق الأمر بمصر ومواقفها المشرفة وثوابتها التى يتأكد كل يوم رسوخها وقوتها، فلدى البعض (فى الداخل والخارج) رغبة فى نسيان - أو إن شئنا الدقة - تناسى المواقف والثوابت المصرية فى تعاملها مع قضايا المنطقة على مدى عقود طويلة، وهذا التناسى يأتى فى إطار محاولة خلط الأوراق وإرباك المواقف والتعمية على الأدوار الجادة والإيجابية التى تقوم بها مصر، والتى تعاظمت وتكثفت خلال العقد الماضى فى مواجهة تحديات غير مسبوقة وأزمات متلاحقة، وبخاصة فى القضايا الكبرى التى لا تقبل أنصاف مواقف، وفى مقدمتها القضية الفلسطينية التى لمصر فى سبيل التضحية من أجلها، حربًا وسلمًا، الرصيد الأوفى والمواقف الأشرف والأنصع. وربما كانت قضية تهجير الشعب الفلسطينى من أراضيه المحتلة هى ما استقطب اهتمامًا واسعًا، ليس فى مصر وحدها ولكن فى المنطقة والعالم برمته، خاصة بعدما اكتسبت تلك الدعوة زخمًا جديدًا بتصريحات أطلقها الرئيس الأمريكى العائد إلى البيت الأبيض دونالد ترامب، وامتلأت الشاشات والصفحات بالتحليل ووضع السيناريوهات والتفتيش فى النوايا، وهذا أمر يعكس بحد ذاته استشعارًا بالخطر، لكن التعامل مع مثل تلك القضايا يتطلب روية وعدم سقوط فى فخى التهويل أو التهوين، وإنما يتطلب إعادة قراءة لمجموعة من الحقائق التى يمكن أن تكون سبيلًا نحو فهم أعمق لحقيقة ما يجرى، وطبيعة الاستجابة المطلوبة. ولعل الموقف المصرى الذى أكده الرئيس عبد الفتاح السيسى أمس خلال المؤتمر الصحفى مع الرئيس الكينى وليام روتو، يجسد تلك الثوابت التاريخية للدولة المصرية والتى «لا يمكن الحياد أو التنازل عنها» بحسب كلمات الرئيس، وهذا الموقف يُضاف إلى سجل حافل من المواقف المصرية المشرفة لدعم الحق الفلسطينى المشروع، والسعى الجاد والمتواصل من أجل رفع الظلم التاريخى الذى لحق بهذا الشعب، الذى كانت كل جريرته أنه وقع ضحية احتلال غاشم لا يرعى للقانون ولا للإنسانية إلّا ولا ذمة. كلمات الرئيس جسّدت موقف كل مصرى وعربى وإنسان له ضمير حى، فالتأكيد على أن التهجير ظلم تاريخى للشعب الفلسطينى لا يمكن لمصر أن تشارك فيه، أعاد تجسيد الموقف المصرى بعبارات لا تقبل التأويل، وأكد انحياز مصر لثوابتها الوطنية والإنسانية والقانونية والعروبية، وهى ثوابت دفعت مصر من أجل الحفاظ عليها أثمانًا باهظة، فصلابة الموقف المصرى عبر التاريخ كانت دائمًا حجر عثرة أمام محاولات الاستعمار بكل ألوانه وأشكاله فى استلاب مقدرات شعوب المنطقة، ودائما ما كانت مصر - ولا تزال - هدفا لمحاولات النيل من مواقفها ودورها الريادى فى المنطقة. ■■■ التشديد على الموقف المصرى التاريخى والراسخ برفض تصفية القضية الفلسطينية، سواء عبر التهجير أو إجهاض حلم الدولة الفلسطينية، مناسبة لاستعادة مجموعة من الحقائق الجلية التى تتوارى أحيانا تحت ركام الأحداث المتلاحقة، ولعل الحقيقة الأولى التى يجب أن ندركها جميعًا أن فكرة تهجير الفلسطينيين من أراضيهم ليست وليدة اللحظة، بل كانت حلمًا إسرائيليًا ترافق مع أولى خطوات بناء دولتهم على أراضى فلسطين المغتصبة عام 1948، وتواصلت أفكار التهجير بصياغات شتى وأفكار متنوعة، وعبر مراحل زمنية عديدة، وكانت أولاها فى أوائل الخمسينيات من القرن الماضى بعد «النكبة»، عندما وُضع مخطط أمنى بواجهة اقتصادية واجتماعية لتوطين عشرات الآلاف من الفلسطينيين فى سيناء، ونوقشت الفكرة مع الرئيس المصرى الراحل جمال عبد الناصر، وبالطبع قوبلت بالرفض، وهو الموقف ذاته الذى كان يتخذه كل رئيس مصرى وطنى فى كل المراحل المتعاقبة إزاء المحاولات التى لم تتوقف لطرح فكرة التهجير. ويدرك الإسرائيليون أنه لا أمل لهم فى البقاء إلا بالقضاء على الشعب الفلسطينى المطالب بعدالة قضيته، سواء عبر إبادة جماعية أو تهجير، تمامًا كما فعل المستوطنون البيض فى أمريكا الشمالية وغيرها من مستعمرات «الرجل الأبيض» التى لم يصفُ فيها الحال للمستوطنين الغاصبين إلا بالتخلص من الشعب الأصلى، بينما تبقى تجربة جنوب إفريقيا مع نظام الفصل العنصرى (الذى لا يختلف كثيرًا عن فكرة الصهيونية) شوكة فى حلق الحالمين ب «إسرائيل الكبرى»، فإرادة الشعب الأصلى تنتصر فى النهاية طالما ظل على قيد الحياة. ولا أعتقد أن إسرائيل ستكف عن طرح فكرة التهجير، طالما بقيت تلك العقلية الاستيطانية تحكم تل أبيب، فالخوف دائمًا هو الإحساس الذى يحرك لصوص الأوطان، وخشيتهم من «الديموغرافيا» التى تشير إلى تفوق الشعب الفلسطينى مستقبلًا على الأقل من حيث العدد، تدفعهم إلى محاولة تغيير «الجغرافيا» بحثًا عن أمل يمنح دولتهم أمدًا إضافيًا ويجنبهم مصير الممالك الصليبية التى ظهرت لبضعة عقود قبل أن يلفظها التاريخ فى القرون الوسطى. مجرد بقاء الشعب الفلسطينى على أرضه يمثل رعبًا لإسرائيل، ففى مقابلة مع صحيفة «هآرتس» عام 2019، قال المؤرخ الإسرائيلى الشهير بنى موريس، وهو من أوائل من فضح بالتوثيق وجود خطة إسرائيلية لتهجير الفلسطينيين عام 1948، «لا أعرف كيف سنخرج من هذا المأزق الديموغرافى، هناك اليوم عدد أكبر من العرب مقارنة باليهود بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن، نحن نسير نحو دولة واحدة ذات أغلبية عربية، وهو وضع نحكم بموجبه شعبًا محتلًا دون حقوق، هذا وضع لن يسود فى القرن الحادى والعشرين». وأدرك بطبيعة الحال أن مشروعات تهجير الفلسطينيين هذه المرة تكتسب خطرًا إضافيًا، استغلالًا للوضع الإقليمى المضطرب، والتحولات الدولية التى يراها المتطرفون فى تل أبيب فى مصلحتهم، وفرصة سانحة لنيل ما عجزوا عنه لأكثر من 70 عامًا، لكن هؤلاء ربما تغويهم اللحظة الراهنة، وتغريهم أطماعهم عن قراءة الكثير من الوقائع أو فهم حقيقة المواقف التى قادت إلى إفشال مخططاتهم السابقة، وستفشل أيضا بعون الله - محاولتهم الجديدة. ■■■ الحقيقة الثانية التى ينبغى أن نضعها فى سياق الفهم والتحليل، هى أن المواقف المصرية الراسخة برفض تهجير الفلسطينيين لا تأتى استجابة عاطفية أو مجرد رد فعل لتلك المخططات الخبيثة، لكنها تنبع من مواقف وطنية وقومية مستقرة على مدى عقود، والتزام بقواعد القانون الدولى التى تعتبر التهجير القسرى لشعب من أراضيه جريمة ضد الإنسانية، وأن الشعب الفلسطينى الخاضع للاحتلال من حقه وفق كل المواثيق الدولية - السعى للتحرر من ذلك الاحتلال بأية وسيلة تتاح له. وتدرك مصر أن التذرع بالاعتبارات الإنسانية لتهجير الفلسطينيين ليس سوى خدعة لا تنطلى على أحد، ولا يمكن استخدامها كوسيلة للضغط على دولة تستضيف بالفعل على أراضيها أكثر من 9 ملايين ضيف من مواطنى دول شقيقة تعرضت دولهم لأزمات، فوجدوا فى مصر الملاذ الآمن، لكن الأمر مختلف تمامًا فى أزمة الشعب الفلسطينى، فخروجهم سيكون بلا عودة، وتهجيرهم يعنى تحقيق الحلم الصهيونى بتصفية القضية الفلسطينية عبر إنهاء وجود الشعب صاحب الأرض على أراضيهم، وبالتالى فإن مجرد بقاء وتشبث الفلسطينيين بأرضهم وبالقضية هو أقوى أفعال المقاومة. كما تأتى المواقف المصرية كذلك منسجمة مع التزام الدولة، الذى لا يقبل ولم يعرف يومًا أى تهاون، بحماية الأمن القومى المصرى، وهذا ما شدد الرئيس عليه أمس، وهذا الحرص يعكس إدراكًا عميقًا لما يمكن أن يسفر عنه ذلك التهجير من تهديدات حالية ومستقبلية، وذلك عندما تنتقل خطوط المواجهة بين الشعب الفلسطينى وبين قوات الاحتلال إلى خارج الأراضى المحتلة، وهو ما يدفع الصراع إلى أبعاد أوسع، ويخرجه من سياقه الصحيح كمحاولة مشروعة من شعب محتل للتحرر من الاحتلال، ويجعل من الأمر حربًا إقليمية غير محمودة العواقب، تغير خطوط وقواعد المواجهة، فضلا عن أن التهجير سيفتح الطريق أمام صراعات إقليمية بلا نهاية، على عكس ما يتصور الداعون إلى التهجير. ■■■ الحقيقة الثالثة التى يجب أيضاً التوقف عندها فى هذا السياق، هى أن رفض التهجير ودعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى ليس مجرد موقف رسمى أو رؤية لنظام سياسى أو حكومة بعينها، بل هى عقيدة لدى كل مواطن مصرى، وأمانة يتناقلها المصريون جيلًا بعد آخر، لم ولن يفرطوا فيها بكل تنوعاتهم ومواقفهم السياسية والفكرية والاجتماعية، وستبقى مصر الحصن الأهم والملاذ الأقوى الذى تلوذ به القضية الفلسطينية من محاولات المحو ومخططات الاقتلاع. أما الحقيقة الرابعة فتكمن فى أن استقلال القرار الوطنى المصرى مسألة لا تخضع لنقاش ولا مجال للمساومة فيها، فالدولة الوحيدة فى الإقليم التى تخلو أراضيها من قاعدة أجنبية واحدة، والشعب الذى دفع ثمنًا كبيرًا من أجل الحفاظ على استقلال قراره وحرية إرادته، لا يمكن أن يفرط فيما تحقق مهما كانت الضغوط، ومهما بلغت المغريات. ويعى الشعب المصرى أن قراره الوطنى المعتمد على أولويات المصلحة العليا قيمة كبيرة يجب التمسك بها والذود عنها بكل ما يملك، فهذه الإرادة الحرة كانت الصخرة التى تحطمت عليها كل محاولات الإخضاع والضغط منذ قرون طويلة. وفى تاريخنا الحديث والمعاصر تتجلى صفحات مضيئة لقوة وصلابة الإرادة الوطنية منذ العدوان الثلاثى فى عام 1956، مرورًا بالصمود الأسطورى والانتقال من الهزيمة إلى النصر (1967- 1973)، وصولًا إلى إرادة الشعب فى تخليص وطنه من حكم جماعة «الإخوان» الإرهابية التى لم تكن ترى فى الوطن سوى «حفنة تراب»، فلقّنها المصريون - ولا يزالون - هى ومن وراءها، دروسًا بليغة فى معانى الوطنية الحقيقية والإرادة الصادقة فى الحفاظ على الوطن ملكًا للجميع، لا تمايز فيه على أساس دين أو مذهب أو انتماء لجماعة أو تنظيم، لكن من أعمت الأطماع قلوبهم وعيونهم، وأصمت ثقافة «القطيع» أسماعهم، لا يفهمون أو يفقهون!! هذا فضلًا عن المعركة المجيدة التى خاضتها الدولة المصرية بقدراتها الذاتية لتطهير أرضها من خلايا الإرهاب وتنظيمات التكفير، التى عجزت عن أن تجد لنفسها حاضنة شعبية فى أوساط المصريين الذين يدركون أن الوطن دائمًا هو الأبقى، وقدم المصريون فى سبيل ذلك تضحيات ستبقى مكتوبة بأحرف من نور فى سجلات الشرف والفداء. ■■■ لكن ونحن نستعيد تلك الحقائق التى ينبغى أن تبقى ساطعة جلية، يجب أيضا ألا نغفل عن حقائق أخرى تمثل مصدر قوة للدولة المصرية، فالقدرة الهادئة والإدارة المتزنة لعلاقات مصر الدولية مسألة باتت محل تقدير وإعجاب من القاصى والدانى، والرؤية المصرية بإقامة علاقات استراتيجية مع مختلف القوى المؤثرة فى العالم، وفّرت للقاهرة قنوات اتصال فعالة مع مختلف عواصم صناعة القرار العالمى. والحقيقة أن مصر لديها علاقات استراتيجية قوية مع الولاياتالمتحدة، وهذه العلاقات تمثل مصلحة للبلدين والشعبين، وهى علاقات ممتدة وضرورية ولا تقتصر على البيت الأبيض وحسب، بل هناك علاقات وطيدة مع مختلف مؤسسات صناعة القرار الأمريكى من الرئاسة إلى الكونجرس، ومن البنتاجون إلى مراكز الفكر والدراسات المؤثرة فى صناعة السياسة الأمريكية، والتواصل مع كل تلك الأطراف فى اللحظة الراهنة مسألة ضرورية وجوهرية للغاية، لخدمة المصالح المشتركة والبناء على ما تحقق، ومواجهة أية تباينات فى وجهات النظر فى إطار من الاحترام المتبادل والتقدير للمصالح المشتركة. وفيما يتعلق بأفكار تهجير الفلسطينيين، التى يبدو أنها تسربت من الأوساط الإسرائيلية إلى عقل الإدارة الأمريكية الجديدة، ينبغى ألا يقتصر الحوار بشأن رفضها مع المؤسسات الأمريكية على دولة بعينها، فهذه القضية تمثل تهديدًا للأمن القومى العربى كاملًا، ومن ثم يجب أن يكون التواصل متعددًا ومتنوعًا، فرديًا على مستوى كل دولة، وجماعيًا من خلال المنظمات الإقليمية والدولية، فالقضية أخطر من أن تكون وسيلة للمناكفة مع الإدارة الأمريكية الجديدة، بل ينبغى أن تتحول إلى جزء من حوار ممتد حول مستقبل القضية الفلسطينية، فمكافأة القاتل على جريمته ليست هى الحل لضمان عدم تكرار الجريمة فى المستقبل، بل ستكون ضوءًا أخضر وتشجيعًا مفتوحًا لممارسة مزيد من الجرائم وإشاعة الفوضى فى إقليم اهترأت جنباته من اندلاع الحرائق، وتبددت مقدراته جراء استمرار الصراعات! وإذا كانت لغة المصالح هى الحاكمة دائمًا للعلاقات الدولية، فالمؤكد أن المصلحة الإقليمية، والمصلحة الدولية من ورائها ومن بينها المصلحة الأمريكية، لا تتحقق عبر منح إسرائيل هدية مجانية بالقضاء على الشعب الفلسطينى، لأن القضية الفلسطينية كانت وستبقى جوهر الصراع فى المنطقة، والدعوة لتهجير الشعب الفلسطينى لا توفر الهدوء الإقليمى المنشود، بل ستكون بداية لسلسلة من الصراعات الأعنف والأكثر حدة، بل ستكون وبلا أية مبالغة - خدمة مجانية وجليلة لتنظيمات التطرف ومحترفى صناعة الكراهية فى المنطقة، فعندما تتوارى الحلول العقلانية والسياسية، وتتصاعد شعارات استخدام القوة والعنف، يستطيع الأكثر مزايدة أن يربح فى مزاد الشعارات، وهذا واقع أعتقد أنه لا يحقق مصلحة لأى طرف ينشد سلامًا أو يرغب فى استقرار أو يسعى لتحقيق مصالح متبادلة. لا سبيل إذن للتعامل مع التحديات الراهنة فى منطقتنا إلا بإرادة صلبة وإدارة عاقلة، فالعواطف لا تفيد عند مواجهة العواصف، بل إن التدبر والتريث واتخاذ القرار المناسب فى اللحظة المناسبة، والتمسك بلغة العقل وقوة المنطق لا منطق القوة، هو السبيل الأمثل للوصول بالمنطقة إلى مرافئ الأمان وهو ما تجسده ثوابت مصر ومواقفها الشريفة فى زمن عز فيه الشرف.