«كُن سمح الوجه وضّاح الجبين، مُشرق الطلعة ما دمت حيّا، ولا تحزن على ما فات، فالمرء يُذكر بأعماله بعد موته». النذل الحقيقى هو ذلك الذى تُحرّكه أغراضه وأمراضه لتشتيت الجمع وتفريق الوحدة، وإفساد الصالح وإذاعة الفاسد، فقط ليملأ معدته؛ فلا يترك فرصة تسنح للغضّ من كرامة وطنه دون أن ينتهزها، فيردد الشائعات ويقلب الحقائق ويغالط فى الماء الزلال مدّعيًا أنه ملح أجاج؛ وما الملح إلا فى لسانه الآبق من كل فضيلة يعرفها فى حق الوطن الذى يؤويه؛ فى الوقت الذى تُتخطف الأوطان من حولنا وتتوه فى زحمة الفوضى. شائعات اليأس والضلال التى يبثها الحاقدون عن تظاهرات مقبلة يتم الإعداد لها، يُقابلها البسطاء بالسخرية اللائقة بها؛ ولكنها ليست كافية للمواجهة الحقيقية؛ ولذلك فإن مراقبة صفحات الميديا ليست تقييدًا للحرية، كما يدّعى البعض، ولكنها تقييد للإجرام وحماية لأمن الوطن من ألسنة النار اللاهبة التى تبثها مواقع الحقد الأعمى؛ خاصة أن بعضنا ينساق إلى مهاوى الأفكار دونما تريّث أو إحاطة تامة بما هو مُقبل عليه؛ بل يرفض كل ما يُناهض دعواه ولو أنرت كل طرقه المظلمة وأبنت له سبيل الرشد من الغيّ، وما هو إلا أن يركب رأسه ويتشدد فى التمسك بدعواه كأنها قد أتته من السماء وليست مجرد رأى يقبل الاختلاف وقد يقبل الاتفاق! أبتئس كثيرًا حين أتابع موجات من الانهزامية وانعدام الثقة فى منشورات بعض شبابنا على وسائل التواصل الاجتماعي؛ سواء ببثّ صور قديمة لتشويه مواقف حديثة، أم بتشويه رموزنا السياسيين وتاريخنا النضالي؛ وأقول فى نفسي: ما هذا الجمود الروحى عند هؤلاء!.. ثم أبحث عن مُبررات وحجج للصغار الذين يأكلون لحومهم وينهشون أجسادهم؛ بأنهم يعتقدون أن هذا من النقد المُباح، أو من الجهل غير المباح بالظروف الآنية والأخطار التى تُحيط بنا من كل جانب. الإفراط فى انعدام الثقة وتجاهل منجزات الوطن والتحديات التى واجهته وتغلّب عليها، وكذلك العقبات الكأداء التى تقف بطريقه، كل ذلك خطر كبير يشوّش الوعى الجمعي؛ لأن خلائق السفهاء تُعدي، كما يقول أبو العلاء، وكذلك خلائق الانكسار والتردى فى هاوية الكآبة المرضية والتشاؤم المرذول. حتى فى أعتى الدول التى تدّعى احتضان الديمقراطية لا يُمكن أن تُترك النوابح تعوى دون لجام كابح يسدّ أفواهها بالحقائق الواضحة؛ أما نحن فنترك عكارة الزمن وسفهاء الميديا يشوّهون تاريخنا ويفسدون حاضرنا ويعبثون بمستقبلنا بكواذب القول وأفانين الافتراء، دونما مواجهة تليق بنذالتهم.. وأرى أن نواجه كل هذا العنت ببث أفكار النخوة الوطنية والتركيز على كوامن قوتنا الغالبة؛ فلدينا جيشنا، درعنا الحامية، وسيفنا القادر؛ ولدينا حضارتنا الراسخة فى الوجدان الإنساني؛ فمصر أصل الشجرة. كما يقول عنوان كتاب «سيمسون نايوفتس»؛ والذى يفصّل فيه كيف أن مصر قد علمت الدنيا معنى الأخلاق: «وربما أثر أصل الشجرة الدينية المصرى على الفروع التوحيدية، والبراعم الأخلاقية العبرانية والفارسية، وعلى ثمار الإخاء الحلوة المرة المسيحية والتنصير المناضل، والخاتمة الإسلامية لأخوية الفتح والجماعة»؛ كما كان المصرى القديم أول مَن آمن بالآخرة، وأن الأعمال الصالحة فى هذه الدنيا هى الوسيلة الوحيدة للارتقاء الأخروي؛ يقول الحكيم بتاح لابنه: «كُن سمح الوجه وضّاح الجبين، مُشرق الطلعة ما دمت حيّا، ولا تحزن على ما فات، فالمرء يُذكر بأعماله بعد موته». هذا هو تاريخنا المُشرق الذى يجب أن ننطلق منه لانتزاع مكانتنا المستحقة فى هذا العالم الشرس؛ وهى المكانة التى سنصل إليها مهما تباطأت خُطانا؛ فالقيادة قدرنا نحن، والتفاؤل والجدية هما السبيل الوحيدة لتحقيق ذلك.. وإسباغ الجدية ليس رفاهية أو مجرد دعوة؛ وإنما يجب أن يكون خطة حياة ومشروعًا قوميًا فى مدارسنا وجامعاتنا وأنديتنا ومساجدنا وكنائسنا، وحتى فى شوارعنا؛ لأن اليأس والقنوط هما الباب الخلفى للانكسار، وهو ما لا نعرفه، ويجب ألا ينسرب إلى أفئدتنا مهما تعاظمت المحن وتكالبت الهموم. إذا كانت الأدبيات الاجتماعية تؤكد أن: «عتاب النذل اجتنابه»، فإن الاجتناب وحده ليس حلا جذريا عندما يتعلق الأمر بالأمن القومى والمصلحة الوطنية؛ وإنما يكون العقاب الرادع ضرورة لازمة وفرضًا واجبًا لمنع أضرار جسيمة ومتوقعة من أفعال هؤلاء الأنذال الأرزال الذين يركنون إلى رحيم برّنا بهم وتعاطفنا مع أوحالهم النفسية التى يرتعون فيها.