في دراسة مقارِنة، يتتبع الأكاديمي عبد الرحمن حَزَّام كلًا من أوكونكو وسعيد مهران، بطلي روايتَي «أشياء تتداعى» ل تشينوا أتشيبي و«اللص والكلاب» ل نجيب محفوظ. يركز البحث على أثر التغيير الاجتماعي في حياة أبطال الروايتين في مجتمعين يمران بمرحلة انتقالية بدرجات متفاوتة، ويتناول الاغتراب والخيانة باعتبارهما من الموضوعات المكررة في الرواية الحديثة بشكل عام وأدب الجنوب العالمي بشكل خاص يرى حزَّام أن الروائيين يقدمان قراءة لتأثيرات هذا التغيير على حساسية أوكونكو ومهران، ما يُظهِر فهمهما للقوى الاجتماعية الفعالة في ذلك الوقت واستخدام معرفتهما بعلم النفس لتطوير الشخصية الرئيسية: أوكونكو وسعيد، واستجابة كل منهما للتغيرات الاجتماعية من حولهما في ضوء شخصياتهما وخلفيتهما الاجتماعية. محفوظ وأتشيبي اثنان من أهم روائيي إفريقيا الذين تتبعوا تغيُرات مجتمعاتهم خلال معظم القرن العشرين. كلاهما بدأ الكتابة خلال فترة الاستعمار ثم واصل الكتابة بعد الاستقلال عن الحكم البريطاني. كانت التغييرات التي طرأت على دول العالم الثالث في القرن الماضي اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا جذريةً ومفاجئة، وقادت الكثيرين للشعور بالغربة والاضطراب تتناول روايات أتشيبي ومحفوظ التغيرات السياسية والسوسيوثقافية في نيجيريا ومصر خلال القرن الماضي. ويعتبر كل منهما من كُتاب الرواية التاريخية ممن حاولوا قراءة التطور التاريخي للمجتمع، واختارا لذلك موضوعات وحبكات وأماكن من التاريخ الحديث لبلديهما. التغيير موضوع رئيسي في العديد من رواياتهما التي تدور أحداث العديد منها في فترات انتقالية معاصرة. يتمتع أبطالهما بوجهات نظر مختلفة حول مفهوم التغيير ويتفاعلون معه بشكل مختلف. ما يميز محفوظ وأتشيبي قدرتهما على فهم الجدلية التاريخية لمجتمع في طور التغيُر. تتناول «أشياء تتداعى» التغير السريع الذي مر به مجتمع الإيجبو بعد احتكاكه بالتأثير الغربي، بينما يواجه بطل محفوظ في «اللص والكلاب» معضلة مواجهة التغيير الذي جلبته ثورة 1952، وأنهت الحكم البريطاني. أرسى محفوظ أجواء روايته اللص والكلاب في خمسينيات القرن العشرين في القاهرة، مدينة تميزها «الطرقات المُثقَلة بالشمس، وهذه السيارات المجنونة، والعابرون والجالسون، والبيوت والدكاكين»، حيث «ضجيج عجلات الترام يكركر كالسب، ونداءات شتى تختلط كأنما تنبعث من نفايات الخُضَر» والجوامع الشاهقة، وطارت رأس القلعة في السماء الصافية»، بينما تدور أحداث رواية أتشيبي «أشياء تتداعى» في قرية نيجيرية في أواخر القرن 19 تسمى أوموفيا. وتضع كلتا الروايتين بطلًا في مواجهة مباشرة مع التغيير. يرفض البطلان قبول المجتمع المتغير لأسباب مختلفة. حين يحاول أوكونكو الحفاظ على تقاليد مجتمعه وقيمه لأنه يعتقد أنهم لا يحتاجون إلى القيم الغربية، فإن سعيد لا يعجبه التغيير الذي جلبته ثورة 1952 لأنه لا يمثل التغيير الذي ناضل من أجله. يعارض الأول التغيير تمامًا، بينما يؤيد الثاني شكلًا ما يحلم به من التغيير. ومن أبرز سمات هاتين الروايتين رؤيتهما النفسية العميقة لبطلي الرواية. منحنا هذا نظرة ثاقبة إلى عقلي سعيد وأوكونكو، وأفكارهما ومشاعرهما. ونحن نتابع تقدمهما في مسار يقود إلى النتيجة الحتمية، الموت. يمكن وصف كل من أوكونكو وسعيد مهران بأنهما بطلان جامِدان في عالمٍ متغير. ويتلخص العيب القاتل في عدم قدرتهما على قبول تغيير حدث في مجتمعيهما بسبب القوى التاريخية. حاول كل منهما «إصلاح الأمور» ومواجهة قوى التغيير ولكنهما وجدا نفسيهما وحيدين وقد خانهما المقربون. يقف سعيد وأكونكو إلى جانب مجتمعيهما في لحظةٍ يتغير فيها النسيج الاجتماعي. يتم تصوير التغيير الاجتماعي في الروايتين من خلال قصص هاتين الشخصيتين وموقفهما من التغيير وردود أفعالهما تجاه الواقع الجديد. وعلى الرغم من أن أحدهما لص والآخر زعيم في قبيلته، تكشف المقارنة بين الشخصيتين عن أوجه تشابه في سلوكَيهما. كلاهما يقاوم التغيير وكلاهما يتعرض للخيانة من قبل المحيطين به ويخذله المجتمع. يعمل الأدب، بحسب ويليك ووارن (1942)، كوثيقة اجتماعية. يستخدم أتشيبي شخصية أوكونكو لاستكشاف التبعات النفسية والثقافية للاضطرابات الكولونيالية. تتناول «أشياء تتداعى» الاغتراب في سياق التأثير الكولونيالي على مجتمع إيجبو. ويتتبع أتشيبي التوتر بين التقليد والحداثة، ويلتقط الصراع بين الثقافة الأصلية والاستعمار البريطاني. ولفهم «اللص والكلاب»، يجب أن نفهم موقف محفوظ من الثورة وعصر عبد الناصر. يمكن قراءة الروايات التي كتبها محفوظ خلال عهد ناصر كسلسلة من الانتقادات الموجهة نحو ثورة فشلت في تحقيق أهدافها. يتفق روجر ألين مع هذا الرأي، مشيرًا إلى أن روايات محفوظ في الستينيات تعكس تزايد قلق الطبقة الوسطى تجاه مسار الثورة. رغم ذلك، أكد محفوظ دائمًا أن انتقاده للثورة لم يكن رفضًا لمبادئها، بل لفشلها في تحقيق هذه المبادئ. تجمع «اللص والكلاب» بين العناصر الواقعية والرمزية لتقييم الحياة السياسية في مصر. بنيويًا، تعتبر الرواية أشد تعقيدًا من أعمال محفوظ السابقة، حيث تتشكل من خطين زمنيين: الحاضر السردي والماضي المُستعاد. بلغة غنية بالصور البلاغية التي تعكس أفكار الكاتب ومشاعره بطريقة غير مباشرة. يعتمد محفوظ على التصوير الحيواني لتعميق فهمنا لمجتمع ما بعد الثورة والتكوين النفسي المعقد لشخصيته الرئيسية. من خلال تصوير الاغتراب والفوضى في العالم الداخلي لشخصية سعيد مهران، ينتقد محفوظ الواقع الاجتماعي والسياسي السائد الذي دمر صورة الذات لدى سعيد الذي يعبر عن روح العصر، وشخصيته المتشظية هي نتاج واقع ما بعد الثورة. رغم التركيز على العالم الداخلي لسعيد، يهدف محفوظ إلى استكشاف العلاقة بين وعي سعيد والواقع الخارجي الذي يواجهه. كما تظهر الخيانة بوضوح في علاقات سعيد مع زوجته نبوية وصديقه عليش ومرشده السابق رؤوف علوان. يظهر سعيد كشخصية منعزلة، مدفوعة بالكراهية والرغبة في الانتقام ممن خانوه. يبدأ سعيد الرواية وحيدًا بعد خروجه من السجن، حيث يشعر بالخذلان من كل من حوله، ويعتبر نفسه ضحية للظروف والخيانة، ويرى أن جرائمه كانت دفاعًا عن الواجب والشرف. تطور الشخصية يُظهر صراعها الداخلي بين الكراهية والحب، خاصة تجاه ابنته سناء، التي تخاف منه بسبب تأثيرات والدتها وزوجها الجديد. يُظهر محفوظ الخيانة هنا على أنها سمة عامة للعصر، سواء من خلال تحوّل رؤوف علوان إلى مدافع عن النظام، أو رفض ابنة سعيد له، مما يُبرز شعور الشخصية بالخذلان والعزلة. يعاني أوكونكو أيضًا من اغتراب داخلي نتيجة خوفه من الفشل، تسيطر عليه رغبة شديدة في الهرب من صورة والده، ما يجعله يتبنى رؤية مشوهة للرجولة. خوفه من التغيير وعدم قدرته على التكيف مع الواقع الجديد يؤديان إلى عزلته الاجتماعية. نُفي أوكونكو قسريًا لسبع سنوات، حيث خضعت القبيلة لتغييرات كبيرة، ثم عاد ليجد مكانه قد تضاءل. يعكس رفضه لقبول الثقافة الجديدة ومحاولته مقاومتها فشله القاطع في التعامل مع المشهد الاجتماعي والسياسي المتغير. مثل سعيد، يشعر أوكونكو بالعزلة بسبب واقع لا يستطيع السيطرة عليه. كما يواجه شعورًا بالخيانة حين يرفض ابنه نويي قيمه التقليدية، وينضم إلى الدين والثقافة الجديدة التي جلبها المستعمرون، ما يجعله يشعر بالهزيمة والعجز. برغم اختلاف السياق، تُظهِر الروايتان شخصياتها الرئيسية كضحايا للتغيرات الاجتماعية والسياسية. في كلتا السرديتين، ينبع الاغتراب من تغيرات مجتمعية تقوض الهوية والقيم الفردية. يؤمن كل من محفوظ وأتشيبي بالتغيير كحقيقة من حقائق الحياة. ويستشهد الكاتب بو بواكي جابي (1979) بقول أتشيبي الوارد في الرواية: «لا بد أن تستمر الحياة، وإذا رفضت قبول التغيير، مهما كان عنيفًا، ستطرحك جانبًا». رواية «أشياء تتداعى» مليئة بالتناقضات المذهلة التي تدور حول التعارض بين ما قبل وما بعد وصول الرجل الأبيض. عالمان مختلفان، أحدهما تقليدي والآخر هو الواقع الحالي الذي تنهار فيه القيم القديمة بما في ذلك النظام الأبوي. إن مجتمع إيجبو الذي يقدمه أتشيبي في روايته يمر بمرحلة انتقالية ويواجه صراعًا بين القيم القديمة والجديدة، فالقيم القديمة متجذرة بعمق في الأساطير والتقاليد، أما القيم الجديدة فقد تطورت تحت تأثير ثقافة غريبة. كما تسلط الرواية الضوء على الاختفاء التدريجي لعادات وتقاليد أوموفيا يرى أوكونكو القيم التقليدية لمجتمعه تتفكك ويحاول حماية هذه القيم من خلال مواجهة النفوذ الأجنبي. يتعين على أوكونكو أن يختار بين قبول النظام الجديد أو الوقوف ضده. يختار أوكونكو التصدي لقوى التغيير رغم إدراكه أنه لا أمل له في نجاح مهمته. في الجزء الأخير من الرواية، يظهر أوكونكو كرجل وحيد يرى عملية التغيير من حوله غير مفهومة وسريعة للغاية حتى أنه يعجز عن التعامل معها. وحين يعود إلى قريته، يواجه عالمًا «مُفَكَكًا» ويرى أنه مسؤول عن «إصلاحه». مع ذلك، يتصرف بتهور دون حساب خطواته بعناية. «لأنه عاجز عن تغيير نفسه، فلن يقبل تغيُر الآخرين، وتغيُر العالم من حوله، وشعب أومولفيا» (لياسير، 1979). أراد أوكونكو قيادة قبيلته ضد المتسللين البريطانيين، لكنه يفقد سيطرته على أسرته والعالم من حوله تدريجيًا، فيجد نفسه مثل سعيد مهران، وحيدًا يخوض معركة خاسرة. يفشل كل من سعيد وأوكونكو في رؤية الزمن باعتباره قوة سلبية وإيجابية في آن، تتحرك بثبات، وتحدث تغيُرات تساعد المجتمعات في المضي قُدمًا. ويُنظَر إلى موتهما المأساوي باعتباره نتيجة لعجزهما عن إدراك حقيقة أن التغيُرات لا رجعة فيها. وجد البطلان نفسيهما منفصلين عن مجتمعهما «و»مُهَمَّشين» لأنهما عاجزان عن التغيير أو قبول التغيير. ولكي نفهم تمامًا رد فعل البطلين على التغيرات التي طرأت على المجتمع، فلا بد أن نفهم طبيعة التغيير في المجتمعين. ففي حالة المجتمع المصري، كان التغيير سريعًا وجذريًا بسبب الثورة. حدث ذلك أثناء وجود سعيد في السجن. ولهذا صُدِم حين خرج ليجد مجتمعًا مختلفًا عن المجتمع الذي عرفه قبل سجنه. ومن ناحية أخرى، أدى غزو الحضارة البريطانية إلى تدمير النسيج الاجتماعي بأكمله في أوموفيا. فتآكلت القيم التقليدية بفعل الحضارة الجديدة. ومثل سعيد، فاجأ التغيير في أوموفيا أوكونكو وكأنه كابوس لم يكن يتوقعه قط. من خلال قصة سعيد وعائلته، يستكشف محفوظ المعايير المتغيرة للمجتمع المصري وظهور أخلاقيات جديدة. يرى محفوظ التغيير عملية تؤثر على الأفراد والأسر والمجتمعات. ومثل أوكونكو، يحاول سعيد محاربة قوى التغيير؛ فهو لا يتعلم كيف يقدم التنازلات ويقبل التغييرات. يحاول أن يتصرف كمدافع عن المجتمع، فيلقى حتفه بسبب فشله في مواكبة سرعة الزمن وعجزه عن إدراك حقيقة أن المجتمع يتغير وقبولها. برع كل من محفوظ وأتشيبي في سرد قصة أمته من خلال قصة الفرد ويعتقد كل منهما أن الزمن قوة سلبية وإيجابية تتحرك بثبات وتخلق تغييرات تساعد الأمم على المضي قُدمًا، ومن الطبيعي أن تنهار طريقة الحياة التي تتصف بتقاليدها القديمة لتفتح الطريق لعالم جديد. إن موقف أوكونكو الجامد تجاه الثقافة الجديدة هو نتاج لشخصيته، التي هي بدورها نتاج لثقافة إيجبو، في حين أن موقف سعيد الجامد هو نتاج لتعاليم رؤوف علوان وشعوره بالمرارة والاغتراب. إن أحد أوجه التشابه بين الروايتين هو رمزية موت البطلين. يرمز موتهما إلى نهاية المجتمع القديم وبداية مجتمع جديد. فبينما يضطر أوكونكو إلى إنهاء حياته في عجز تام، يظل سعيد يقاتل حتى النهاية. ومع ذلك، فإن نهايتهما المؤلمة تحمل مجموعة من السمات الرمزية التي يجب على القراء تأملها. فنهاية أوكونكو ترمز إلى تحطيم القيم القديمة الأصلية بسبب الغزو الأجنبي للحساسية الثقافية لمجتمعه، بينما تشير نهاية سعيد إلى ظهور قيم اجتماعية جديدة خلقتها ثورة 1952، وهي القيم التي لم يكن محفوظ سعيدًا بها كما هو واضح.