لعل أجمل ما تشعر بها بعد قراءة ترجمة الرواية الرائعة «أشياء تتداعى» للكاتب النيجيرى الكبير الراحل تشنوا أتشيبى، والصادرة فى سلسلة آفاق عالمية/ هيئة قصور الثقافة، هو القدرة الهائلة على استعادة عالم مندثر، وإنقاذ ثقافته وعلاقاته الإنسانية من الضياع، والانحياز إلى الحلم بالعودة إلى الطبيعة، حيث الإنسان أكثر بساطة واقترابا من أمنا الأرض. لا مثيل لهذه الرواية العظيمة فى وصف العادات والتقاليد والطقوس والثقافة والحكايات والخرافات والسحر عند القبائل الإفريقية، عمل يستحق شهرته ومكانته العالمية (ترجم إلى 50 لغة ووزع 8 ملايين نسخة)، رأيى أن أتشيبى كان جديرا بالفوز بنوبل من كثيرين فازوا بها سواء من إفريقيا أو من خارجها. يوصف أتشيبى (1930/ 2013) بأنه عميد الرواية الإفريقية والنيجيرية المكتوبة باللغة الإنجليزية، وروايته التى اقتبس عنوانها من بيت للشاعر الأيرلندى وليام بتلر ييتس، تعد درة أعماله، ومن أبرز أصحاب روايات القرن العشرين، الذين فازوا بجائزة نوبل فى الأدب من أبناء القارة مثل نادين جورديمر ووول سونيكا تأثروا كثيرا بروايته وبعالمه. عبد السلام إبراهيم مترجم الرواية يقدم لها معرّفا بأهميته، ويترجم أيضا حوارا طويلا مهما يشرح فيه أتشيبى حكايته مع الكتابة، يقول بوضوح إنه عندما كان فى سن الفتيان، عرف المثل العظيم الذى يقول: «إلى أن تجد الأسود مؤرخيها، فسيمجد تاريخ الصيد دائما الصياّد»، قرر أن يقوم بهذه المهمة أن يكون كاتبا يعبر عمن لا صوت لهم، أن ينطق بلسان الأسود رغم أنه تعلّم فى مدارس الصيادين، أن يروى معاناة وآلام الأسود وشجاعتها أيضا. ترسم رواية «أشياء تتداعى» لوحتين متكاملتين بتفاصيل مدهشة، عن التغير الذى يصل إلى حد الانقلاب فى حياة وظروف قرية تسمى أوموفيا فى شرق نيجيريا (هى فى الواقع مكونة من تسع قرى متجاورة)، فى اللوحة الأولى ينظم الناس أحوالهم دون الرجل الأبيض، ديانتهم وثنية، يعتمدون على الزراعة، وتحديدا على ثمرة اليام (التى تشبه البطاطا)، لهم ثقافة كاملة وأعراف وقوانين، يندمجون مع الطبيعة رعدا وبرقا وأمطارا ورياحا، بينهم قواعد للحروب ولإحلال السلام، وفى اللوحة الثانية يظهر الرجل الأبيض حاملا معه دعوة التبشير بالمسيحية، بعد قليل تظهر شرطته ومحاكمه وقوانينه، لديه أسلحته وقواعده وكنائسه، يتداعى مجتمع قديم بكل طقوسه وأبطاله وأساطيره، ويبزغ مجتمع آخر جديد يزيد البعض استسلاما، ويزيد آخرين اغترابا وحيرة، أصبح مألوفا أن يوجد مسيحيون ووثنيون فى نفس العائلة، ما زال اليام موجودا، وما زالت الأمطار تهطل، ولكن البشر تغيروا. عبقرية هذه الرواية أنها أثبتت أكذوبة أن الرجل الأبيض جاء إلى إفريقيا، ليجد بشرا بلا ثقافة أو ديانة أو حضارة، أوكونكو بطل الرواية وأسرته وجيرانه وأصدقاؤه وحياته وأحلامه وماضيه وحاضره، كل ذلك ينسج من خلاله أتشيبى ملامح عالم متكامل لا تملك إلا أن تتفاعل معه، لأنك تراه بكل أصواته وألوانه، الإنسان الذى يعيش على فطرته مندمجا مع الطبيعة، إن الطريقة التى يصف بها أتشيبى مثلا طقوس الزواج، أو عرض القضايا على أرواح الأسلاف القادمة متخفية وراء الأقنعة، أو استدعاء أهل القرى فى الساحة لاتخاذ قرارات الحرب، أو حتى وصف قيام كاهنة عراف الكهف بإنقاذ طفلة أوكونكو من الحمى، كل ذلك يجعل هذا المجتمع حيا ونابضا ومدهشا، حتى عاداتهم السيئة مثل قتل التوائم، تقدم هنا ببساطة وبتفسير يرتبط بعوالم السحر والخوف من القوى المجهولة، ومن خلال الإيمان بنوع الدين البدائى، حيث فكرة القرابين التى ظلت موجودة بتنويعات أخرى فى الأديان السماوية. ما تناقشه الرواية أعمق بكثير من إدانة الرجل الأبيض، إنها تتحدث عن عدم قدرة الإنسان عموما على استيعاب اختلاف الآخرين عنه، عدم احتماله ثقافة أخرى، ورغبته فى أن يكون الناس جميعا على مثاله، مأساة أوكونكو فى شعوره بالاغتراب عن عالمه القديم، بعد سنوات عاد إلى قريته مع أسرته، كان قد نفى بسبب جريمة قتل خطأ، رجع فوجد ابنه مبشّرا، سادة القرى يتم جمعهم وضربهم، قانون جديد ومحكمة مختلفة، العملاق الذى حصل على الرتب والألقاب، بطل الحروب والمصارع الأعظم، وجد نفسه مهانا وسط زوجاته وأولاده، ولم يستطع هو أن يتغير، بدا كما لو كان أسدا يجبرونه أن يكون حملا، قرر أن يشنق نفسه، وفعل ذلك بمنتهى البساطة وبلا ذرّة ندم. أتشيبى الذى درس الأدب الإنجليزى والدراما، نجح بذكاء فى أن يصنع دراما إفريقية، وبطلا تراجيديا من طراز رفيع، ليس فى الرواية أصوات عالية تبوح بالفكرة، ولكن فيها شخصيات تكاد تراها من فرط دقة وصفها، وعندما ينتحر بطل القبيلة، والرجل الذى يستحق نجاحه، فإنك ستدرك حجم المأساة التى صنعها الرجل الأبيض، أنقذ التوائم من القتل، ولكنه هدم عالما وبطولة وبشرا، ثم ذهب ليكتب ما جرى من وجهة نظر الصياد، حتى جاء أوتشيبى فكتبها من وجهة نظر الأسود. «أشياء تتداعى» أحد أعظم الروايات التى قرأتها فى حياتى.