يوجد لدى روسيا ما يعرف بمرصد العقوبات وهو شيء أشبه ما يكون بعداد التعداد السكاني لدى جهاز التعبئة العامة الإحصاء في مصر، وحتى الأمس كان هذا المرصد يشير إلى عدد 17 ألفا و708 عقوبات فرضها الغرب على روسيا منذ فبراير من عام 2022، وهو ما يمثل أكبر عدد عقوبات تتعرض له دولة منفردة على طول تاريخ البشرية. وأكثر الدول التى فرضت العقوبات على روسيا هى الولاياتالمتحدة وسويسرا وكندا، ويليهم الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، وكل ذلك كوسيلة للضغط على روسيا من أجل تغيير موقفها تجاه العملية العسكرية التى تشنها على أوكرانيا، ورغم أنهم يدركون من التاريخ أن الدولة الروسية وشعبها لم يبديا على مدار تاريخهما استعدادا للتنازل أمام الضغوط، بل إن الضغوط تزيد الروس إصرارا على موقفهم إن لم نقل على عنادهم، الأمر الذى يعنى ببساطة أن الهدف الحقيقى من هذه العقوبات ليس هو إثناء روسيا عن موقفها من العملية العسكرية فى أوكرانيا بل دفعها لمواصلة العملية والتشدد فيها. ◄ حياة المواطن حتى الآن يؤكد الخبراء أن العقوبات وتداعياتها لم تؤثر بشكل مهلك على حياة المواطن العادى فى روسيا، وفى نفس الوقت يشيرون إلى أن من يدعى أنه لم يكن للعقوبات تأثير ملموس على روسيا هو واهم دون أدنى شك، فالخبير الروسى فى قسم الاقتصاد الوطنى بجامعة الصداقة سيرجى زاينولين يذكر أن الدراسات الاقتصادية تؤكد أنه لا صحة للادعاء بأن روسيا تمكنت من استبدال ما كانت تستورده من معدات ووسائل تكنولوجية من الغرب باستيراد مثيلاتها من الصين أو دول جنوب شرق آسيا، وهو ما دفع روسيا لتشجيع ما يعرف بعمليات الاستيراد الموازى وهى العمليات التى عالجت العجز فى هذه المعدات وإن كان بشكل جزئى ومحدود. في البداية، كانت السلطات الروسية تشعر بالإهانة من هذه العقوبات وكانت تفكر ربما بشكل انفعالي في الرد لمجرد الرد، ولكنها أدركت فيما بعد أن الانغلاق هو الهدف الحقيقى للغرب الذي يسعى لفرض العزلة على روسيا، لذلك أبدت السلطات الروسية مرونة فيما يخص عمليات الاستيراد الموازى لتوفير المعدات والوسائل اللازمة للمصانع وخطوط الإنتاج المختلفة، وفي نفس الوقت أدركت أن الضربة الحقيقية التى يمكن توجيهها للغرب تكمن فى الإنتاج المحلى لاحتياجات مختلف قطاعات الإنتاج، وإن كان هذا الأمر بطبيعة الحال سيتطلب وقتا طويلا نوعا ما. ◄ الاستثمار الوطني المشكلة الثانية التى واجهتها روسيا بسبب العقوبات هو أن الكثير من قطاعات الإنتاج كانت تحتاج إلى الاستثمارات للتطوير ومواصلة العمل، مع العلم بأن الاستثمارات الغربية كانت هى الأهم والأكبر فى روسيا، ولكن عندما بدأ يفرض الغرب عقوبات على روسيا يمينا ويسارا لم يدرك حقيقة هامة جداً، وهى أن رأس المال الروسى كان يعتبر من أهم روافد الاستثمار فى العقارات والأسهم وغيرهما من القطاعات فى الغرب، وعندما وضع الغرب قيودا على حركة رؤوس الأموال وأخذ فى مصادرة أموال الروس، فضل أصحاب رؤوس الأموال الروس الاحتفاظ بأموالهم فى الداخل، وكان لهذه الأموال أهميتها الكبيرة عندما انسحبت البرندات الغربية المختلفة من روسيا، حيث فضل أصحاب رؤوس الأموال استثمارها فى براندات وطنية والاستفادة من المميزات والحوافز التى تقدمها السلطات الروسية لتشجيع الاستثمار الوطني. ◄ إغلاق الأسواق وفيما يخص إغلاق الأسواق الغربية أمام المنتجات الروسية مع الوضع فى الاعتبار أن الأسواق الغربية كانت تمثل الأولوية الأولى والأهم بالنسبة للصادرات الروسية، ولكن بعد أن أغلق الغرب أسواقه أمام المنتجات الروسية بدأت روسيا فى البحث عن أسواق جديدة ، وربما أن هذه الأسواق لم توفر ذات الإمكانيات التى كان يحصل عليها المنتج الروسى فى الأسواق الغربية، ولكن عوض نسبة لا بأس فيها من تراجع معدلات الصادرات الروسية ، والأهم من ذلك أن روسيا وجدت فى بعض الأسواق مثل أسواق الخليج العربى ليس فقط قدرات كبيرة على الاستيراد بل والاستثمار فى الاقتصاد الروسى وهو ما فتح آفاقاً جديدة نوعية أمام الاقتصاد الروسى الذى أخيرا وجد المتنفس لفك الارتباط بالاقتصاد الغربي. ومن هنا يعتقد الخبراء أنه رغم قسوة العقوبات وإجحافها فى الكثير من الأحيان، وبعدها الواضح عن هدفها المعلن إلا أنها عادت نوعا ما بفوائد كثيرة على روسيا وعلى الأخص على مستوى تشجيع وتطوير وتحسين المنتج المحلى والعمل بجدية على إنتاج المزيد من المواد التى لم تكن روسيا تنتجها فى السابق أو على الأقل كانت تنتجها بمعدلات غير كبيرة أو بمواصفات غير جيدة. المنتج المحلى ويستشهد الخبراء بدراسة أجريت على مستوى أكبر شركات للتسويق فى روسيا وهما شركة أوزون وشركة ويلد بيريس، حيث أكدت هاتان الشركتان أن هناك تغييرات ملموسة قد طرأت على نوعية السلع التى يجرى الترويج لها لدى المستهلك الروسي، حيث أصبح المنتج المحلى مثلا فى مجال الملابس والأحذية يمثل نسبة 41% والأثاث نسبة 44% ويؤكدون أن هذه النسب فى تزايد ولكن النسبة فيما يخص الأجهزة الكهربائية والإلكترونيات مازالت غير كبيرة حيث كانت تمثل فى العام الماضى 9%.. وتشير ذات الدراسة إلى أن عمليات تعويض الاستيراد بالإنتاج المحلى الكامل مازال أمامها طريق طويل خاصة أن الكثير من المنتجات المحلية لا يمكن اعتبارها منتجات محلية كامل الدورة، حيث إن مدخلات إنتاج الكثير من السلع والبضائع تعتبر مستوردة. كما يؤكد الخبراء أن معدلات نمو الصناعات الإنتاجية من الطبيعى أن تكون بطيئة ومحدودة، ذلك على عكس شركات الخدمات على سبيل المثال والتى زاد عددها فى روسيا بمعدلات سريعة جدا وصلت أكثر من 500% فى الكثير من القطاعات. ◄ اعتراف غربي لا شك فى أن روسيا ومن خلال إدراك المغزى الحقيقى من فرض العقوبات عليها تمكنت من تخطى هذا المغزى بنجاح كبير وعلى الأخص على مستوى تعرضها للعزلة الدولية وإغلاق الأسواق المختلفة عليها وقطع الإمدادات التكنولوجية عنها ووقف الاستثمارات الأجنبية فى اقتصادها، وهذا النجاح تعترف به الكثير من المصادر الموثوق فيها فى الغرب، وكان آخرها صحيفة ديلى ميل البريطانية فى مقال للصحفية سيو ريد التى أكدت أن الروس لا يعانون من نقص فى السلع الأساسية والغذائية، على عكس المستهلك فى بريطانيا وغالبية الدول الغربية التى أصبحت بسبب العقوبات تعانى من مشاكل لا تقل وطأة عما تعانى منه روسيا المستهدفة أساسا من هذه العقوبات. وهنا أتذكر مقولة للرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى بداية العقد الأول من الألفية الجديدة عندما كانت روسيا تعانى من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، ووقتها بدأت الكثير من الشركات الأجنبية فى الانسحاب من السوق الروسية، حيث لفت الرئيس بوتين وقتها الانتباه إلى أن من سينسحب لن يجد له مكانا فيما بعد فى السوق الروسية، أو أنه سيتكبد الكثير للعودة، ومن بقى حقق مكاسب كثيرة على المدى المتوسط والطويل، واليوم وبينما تعانى روسيا من بعض المشاكل وتحاول إيجاد الحلول لها سيكون من المجدى جدا الدخول فى شراكات معها لتطوير التكنولوجيات وإنتاج مختلف السلع وولوج المزيد من الأسواق الخارجية، لذلك حرصت مصر وفى الوقت المناسب على الدخول فى عضوية مجموعة بريكس لتلحق الركب الجديد فى الشراكات والتعاملات مع روسيا وغيرها من الدول الهامة فى مختلف أنحاء العالم.