نشرت «أخبار الحوادث» في العدد رقم 1567 الصادر بتاريخ 7 أبريل 2022، قصة حياة «عم صالح»، تحت عنوان «ابنائي الأعزاء.. شكرًا»، تناولت فيه قصة حياة العجوز التي بدأت بكفاح مرير على لقمة العيش، من أجله ومن أجل أبنائه، وعن سنوات الغربة التي قضاها ليؤمن لهم مستقبلهم، وما كان حصاد تعبه إلا جحود ونكران، حتى أنهم ألقوه في الشارع، وتنكروا منه، وعاش ما يقرب من عامين في الشارع، يفترش الطرقات، ويستعطف الناس ليطعم جوفه، حتى رأوه من هم أحن عليه من أبنائه، وعاش قرابة ال 4 سنوات في دار «معانا لإنقاذ إنسان»، بعدما احتوته وتكفلت برعايته، وقتها حاولت الدار التواصل مع ابنائه، لكن ما زادهم الأمر إلا جحودًا ونكرانًا، وظل على هذا الأمر دون أن يراهم ودون أن يذهبوا لزيارته، حتى توفاه الله صباح يوم الاثنين الماضي، بعد صراع مع المرض، الغريب أن وفاته لم تحرك فيهم ساكنًا، لم يحضروا لاستلام جثمانه، ولا توديعه حتى بنظرة أخيرة، وما كان من الدار إلا دفن جثمانه في مقابرها، ليلقوا على قبره كلمة أخيرة، عند الله تجتمع الخصوم. تفاصيل أكثر في السطور التالية. قبل أكثر من ثلاث سنوات، وتحديدًا في أبريل 2022، كان اللقاء الأول مع عم صالح، العجوز الباكي، والذي على ما به من هم وحزن، إلا أن له ابتسامة ساحرة، كفيلة بأن تجعلك سعيدًا فقط لأنه ابتسم، لأن حينها ستشعر بالعجز مهما كانت الظروف، والتي لا تضاهي ما قاسه الرجل طيلة حياته حتى انتهى الأمر به إلى أن يعيش داخل دار رعاية ما تبقى له من عمر. قال في لقائي معه، حينها؛ إن الغربة أخذت منى أكثر مما أعطتنى، كنت مضطرا للسفر حتى أضمن لأولادى وضعًا ماديًا أفضل، عشت من أجلهم، وتعبت من أجلهم، وعندما وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبًا، عدت لأعيش بقية حياتى بجوارهم، لم يفكر أحد في، ولم يتعبوا من أجلى، جميعهم اتفقوا على طردى من البيت، والحجة أنهم أصبحوا لا يطيقوننى، خاصة وأنهم، على حد قولهم اعتادوا على غيابى بحكم سفرى، واعتادوا على عملى لأصرف عليهم، ولم يعتادوا على أن أعيش معهم دون أنه أنفق عليهم، ودون أن يفكروا للحظة أن سفرى هذا كان من أجلهم، وأنه لم يبق لى من مال يكفي حاجتى، بعد أن أنفقت كل ما أملك عليهم لتربيتهم ورعايتهم، وكانت ثمرة حصادى أن يطردوننى من بيتى. كان يسكن العجوز في بيته في منطقة الشرابية بالقاهرة عندما كان شابا، تزوج في شقته قبل أكثر من 20 عامًا، وطوال تلك السنوات - التي كان يصفها بالعجاف - يسافر ويعود، وفي مرات كان يأخذ أسرته حيث يعمل، واستقروا هناك سنوات كثيرة. قرار العودة قال لي وقت أن التقيت به؛ أن الغربة لم تكن عائقا في تربيتى لأولادى، لأنهم أغلب الوقت كانوا معى هناك، أخذتهم لأهون عليهم ويهونون علي، واستطعت وزوجتى تربية أولادى التربية التي كنا نتمنياها، وأصبح الولدان شبابًا وشقيقتهما عروسة، حتى بلغت منهم الغربة كل مبلغ، وأصبحوا لا يقدرون على الاستمرار، فقرروا العودة واتفقوا جميعا على ذلك. أذكر أنه عقّب على هذا القرار تعقيبًا وقفت كثيرًا عنده، عندما قال لي: «قرار العودة كان أکثر قرار خاطئ اتخذته في حياتي»، وعندما سألته مستفهمًا، استطرد يقول: «ليس لشيء سوى لأنني في الغربة كنت متحكما في زمام الأمور، وكلمتي مجابة إلى أقصى درجة، والمال بصحبتي، وأنا من يتولى كيفية صرفه وكيفية ادخاره، وبالتالي كانوا جميعا تحت «طوعي، وأنا المتولي شؤون العائلة، وهذا دور رب الأسرة الحقيقي، والذي كنت أقوم به على أكمل وجه». واستكمل حديثه حينها قائلا: «لكن بعد العودة، أصبحت هذه المسؤوليات ليست من اختصاصي، لأنني لم أكن أعمل، صحيح أنني كنت أصرف عليهم من مدخراتي المالية أثناء عملي في الخارج، لكن هذا كان وضعًا طبيعيًا، والإشكالية فيه أنني لم أعي أن تلك الفلوس مهما بلغت سيأتي الوقت الذي ستنفد فيه، وهذا ما حدث». واختتم جملته قائلا: «كل ذلك كان بالنسبة لي أمرًا طبيعيًا خصوصًا بعد أن صرفت كل ما معي على أولادي، لكن لم يكن من الطبيعي أن يصل بي الأمر وأكون مشردًا افترش الطرقات». طردوا أبيهم الأمر من هذه الزاوية له بعد آخر، أولاد يعيشون مع أبيهم في الغربة سنوات طوال من عمرهم، تربوا في كنفه وعاشوا تحت ظله، كيف لهم أن يجحدوا فضله عليهم، كيف لهم أن يتنكروا له، بعد ما قام به «عم صالح» لهم طيلة عمره. كان سبب جحودهم ونكرانهم له، مع أنه ليس هناك أي سبب على الإطلاق يستحق عليه «عم صالح» أن يجد منهم هذه القسوة، أن جلوسه في البيت، باستمرار، كان كثيرًا ما يسبب لهم المشكلات، لأنهم لم يعتادوا منه على ذلك، واعتادوا على أنه ينفق عليهم، ويعطيهم ما يحتاجون له، وهو الأمر الذي لم يبق متوفرًا بعد عودتهم من الغربة، لذلك ضاقوا منه ذرعًا، ورأوا أنه لا حاجة لهم به، ومن الممكن أن يستغنوا عنه، أو بالأحرى، يطردونه، وقد كان. كان يقول: «كان فيه بنا مشاكل، دا شيء طبيعي، وهو فيه بيت يخلو من المشاكل، لكن مشاكلنا مكانتش توصل إلى إنهم يطردوني من البيت بهذه الطريقة، هو أنا علشان قعدت في البيت ومبقتش بشتغل خلاص كدا مبقاش ليا لازمة، دا شيء طبيعي بحكم السن، كبرت ومبقتش قادر على الشغل، ومبقتش قادر على إني أعمل اللي كنت بعمله، أنا عشت سنين في الغربة وكافحت وشوفت أيام صعبة، لما أكبر في السن مش المفروض ارتاح، مش المفروض يريحوني، دلوقتي هما كبار وكل واحد فيهم بقى شغال في حتة، مش أولى بيهم إنهم يعوضوني عن سنين عمرى اللي ضاعت عليهم، مش كان أولى بيهم إنهم يتكفلوا بيا». حكى عم صالح، أنه بعد أن اتخذ قرار العودة، وعادوا جميعًا إلى مصر، أول شيء حاول أن يفعله، هو أن يزوج ابنه، وبالفعل وفقه الله واشترى له شقة سكنية وأسكنه فيها مع زوجته، لكن بعد أن استقل ابنه بنفسه، بدأ يبتعد عن أبيه شيئا فشيئا، وأصبح في حالة غير التي كان عليها، لا يسأل على أبيه ولو حتى تلفونيًا، ولا يأتي لزيارته. قال لي وقت أن التقيت به:» ابنى كان يستمع إلى زوجته، في كل ما تقول، وينفذه، وكان كثيرا ما يحرض إخوته على ، وكانت تساعدهم على ذلك أمهم، ومن هنا بدأ الشقاق بينهم». لم يكن هذا الشقاق اعتياديًا في تلك الأسرة، يفسره عم صالح قائلا: «لم أر منهم أي جحود من قبل، لكن بعد زواج ابني الكبير، بدأ الجحود يعرف الطريق إلى قلب ابني، وإلى إخوته، حتى أنهم مرات كانوا لا يساعدونني في إطعامي، ويتركوني وحيدًا طوال اليوم، ولا يصرفون علي بعد أن أعطيتهم وصرفت عليهم كل ما أملك، وعندما أمرض كانوا لا يذهبون بي إلى الطبيب، وكأنهم كانوا يريدون موتي». على حديثه، كان البكاء يراوده وعيناه تمسك في مقلتيها دمعة، ترفض أن تسيل على خده، كان يبدو من مظهره أنه متماسك، أو هكذا هيأ لي، لكن بعد أن استطرد في شرح معاناته، فقد السيطرة على دموعه، وظهرت جلية واضحة، لكن قبل أن يأخذ البكاء منه كل مأخذ، مسحها سريعًا بخجل. وكنا في شهر رمضان حينها، وقال: «بسمع دايمًا إن رمضان بيقربنا، لكن للأسف، ولادي بيبعدوني». جحود أشياء من هذا القبيل كان يحكيها، لكن على حكيه، هذا لم يكن يتطرق أبدًا إلى التفاصيل، ربما لأنه كان ينتوي نسيانها، أو ربما لأنها مؤلمة عندما يغوص أكثر فيها، أو حتى في التفكير فيها. عندما التقيناه، حكى تلك الأيام الخوالي، لكن كان السؤال الذي على أن أساله، وسألته له؛ هو فيه حد منهم سأل عليك طوال هذه الفترة؟، لكنه أجاب بالنفي، واستطرد وكأنه يعرف أنى أدفعه دفعًا إلى الخوض في تفاصيل حكايته، قائلا: «ولا حد فيهم فكر يسأل عليا، أنا طردوني من البيت وقعدت في الشارع سنتين، وبعد كده ولاد الحلال جابوني الدار هنا، وعايش فيها من حوالي 6 شهور، ولا حد فيهم عبرني، أنا مش عايزهم، أنا مرتاح كده، كفاية بقى التعب اللي شفته معاهم، الله يسامحهم على اللي عملوه فيا، أنا مش بدعي عليهم والله، أنا بتمنى وبدعى ربنا إن أولادهم ميعملوش فيهم اللي عملوه فيا. هذا الكلام الذي حكاه عم صالح، كان قبل أكثر من 3 سنوات، في ابريل 2022، وقتها كان قد قضى أكثر من عامين ونصف على طرده من البيت، وحكي وقتها على أن أولاده عندما طردوه، كانت حياتهم المادية مستقرة، وكل واحد فيهم يملك من المال ما يكفيه ويفيض، وأذكر أنني عندما سألته عن إمكانية الرجوع لهم، قال لي جملة صادمة: «أنا الموت أقرب لي منهم». وفعلا صدق، لأن الموت كان الأقرب له، ومات دون أن يودعوه. رحيل الاثنين الماضي، أعلنت دار «معانا لإنقاذ إنسان» عن رحيل عم صالح، بعد 4 سنوات كاملة قضاها داخل الدار، كان فيها جزءًا من الدار وليس فقط مجرد نزيل، يحكي المهندس محمود وحيد، رئيس مجلس أمناء دار «معانا لإنقاذ إنسان»، في حديثه ل»أخبار الحوادث»، عن هذه السنوات قائلا: «عم صالح - الله يرحمه - يوم ما عرفنا قصته مكناش مصدقين تفاصيلها، ده راجل رجع من الغربة معاه فلوس وحالته المادية كويسة جدًا، صرف على ولاده لحد ما جهزهم وجوزهم كلهم، لدرجة إن واحد من ولاده عايش في «مدينتي» دلوقتي، لكن على الرغم من دا كله، مكنوش عايزين يصرفوا عليه في آخر أيامه، مع إنه كان كبر في السن وكمان كان مصاب بمرض الشلل الرعاش، حاول كتير إن يقعد تحت بيته لكنهم مكانوش قابلين الوضع دا، وحتى إنه راح على بيت بنته، وافتكر إنها هتبقى أحن عليه من ولاده، لكنها قفلت في وشه الباب، ورفضت تستقبله، ولما قعد تحت بيتها، ألقت عليه مية الغسيل، ودا مكانش كلام قاله صالح بس، دا كمان كان كلام جيرانه، لما روحنا وشوفناه، وسألنا عليه، عرفنا كل التفاصيل دي، وعرفنا كمام إن له ابن اسمه «سيد»، سبق وضربه لما رفض يطلع من البيت، وإنه كان عايش شوية في الشرابية وشوية في المرج، وقضى حوالي سنتين في الشارع محدش عايز يستقبله، وكانوا شايفين إنه مبقاش بيجيب فلوس، فبقى مالوش لازمة، وعشان كدا طردوه الطردة دي ورموه في الشارع». وأضاف: «إحنا جالنا بلاغ بحالته، وإنه في المرج، وفعلا روحنا جبناه عشان يعيش معانا في الدار، من حوالي 4 سنين، وأول ما جبناه يعيش معانا تواصلنا مع ولاده، عشان نحاول نحل الخلاف بينهم، ومهما كان هما أولى بيه وهو أولى بيهم، لكن ابنه محمد وبنته مروة، قفلوا السكة في وشنا، وقالوا إنهم مش عايزينه، لأنه كان قاسي عليهم، وكان وحش معاهم، وفي مرة جه واحد من ولاده الدار، وقعد مع عم صالح يدوب 3 دقايق، وكان عايز يخده لما المواقع كتبت عنه، وطلع في التلفزيون مع الإعلامي عمرو الليثي، لكن ساعتها عم صالح رفض، وخاف منهم، وقالهم نصًا «انتوا هترموني تاني لو جيت معاكم أنا هنا عايش في بيتي وضامن إنهم مش هيطردوني منه زي ما انتم عملتوا معايا». واختتم «وحيد» حديثه قائلا: «من وقتها محدش فيهم سأل عليه ولا حد فيهم كلف نفسه ويجي يبص على أبوهم، حتى لما تعب في أيامه الأخيرة بلغناهم، لكنهم لا حس ولا خبر، وكأنه مش أبوهم مثلا، وللأسف في الأيام الأخيرة له كان نفسه يشوفهم، لكن ربنا لم يرد لهم أنه يسامحهم قبل ان يموت، ومات فعلا، ولما توصلنا معاهم عشان يستلموا جثمانه، محدش فيهم اتحرك، وعشان إكرام الميت دفنه، دفناه في مقابر المؤسسة في أكتوبر، بعد ما عاش معانا 4 سنين كاملة كان واحد مننا، وعمرنا ما شوفنا منه حاجة وحشة، ربنا يرحمه ويصبرنا على فراقه ويسامحهم على اللي عملوه في أبوهم». اقرأ أيضا: محافظ الجيزة يزور مؤسسة «معانا لإنقاذ إنسان» ودار «أنقياء القلب» لرعاية ذوي الهمم