■ كتب: محمد سرساوي عرفت الحضارة الإنسانية البريد بأشكال مختلفة منذ أقدم العصور، لأن الإنسان كائن اجتماعى يحتاج دائماً إلى التواصل مع الآخرين، ويبحث فى كل وقت عن هؤلاء الذين يبثهم همومه، ويحكى لهم عن أحواله، وتطلعاته، ولرغبته الملحة فى ألا يحول بعد المسافات دون تواصله مع الآخرين، استمر البريد يلعب أدواراً حيوية فى الحياة الإنسانية عبر الأزمنة المتعاقبة، وأصبح البريد جزءاً من عالم الإنسان، وأحد الملامح البارزة فى المجتمعات البشرية، وقد مر بمراحل متعددة، وتطورت وسائله، فمن نقل الرسائل على ظهور الدواب، إلى الحمام الزاجل المدرب، حتى ظهور البريد العابر للقارات على متن البواخر والسفن والطائرات الأسرع من الصوت، وفى يوم البريد العالمي الذى يواكب التاسع من أكتوبر سنوياً، نقدم هذا الملف الذى تتنوع موضوعاته، حيث نتتبع رحلة البريد عبر زيارة متحفه العريق فى القاهرة، ونتعرف على حضوره، وتجلياته فى عالم الأدب، كما نصحب قراءنا إلى جولة فى سوق الرسائل القديمة بوسط البلد، الذى أقيم على غرار سور «الأزبكية» لبيع الكتب المستعملة. ◄ أقدم «بوسته» في العالم واحدة من أهم وأعرق المؤسسات المصرية الخالصة حيث تسلمت ملكيتها بصورة نهائية فى العام 1865 لتكون أول مؤسسة بشكل واضح، 159 عامًا منذ ذلك التاريخ نقلت خلالها الهيئة القومية للبريد مليارات الخطابات، عبر «البوسطجية»، والخيول والبغال لتكون واحدة من أول ثلاث مؤسسات بريدية على مستوى العالم تمتلك سيارة بالمعنى الحديث تنقل لها الخطابات بين المدن البعيدة وبعضها. مشاوير طويلة وأميال بعيدة سارها عمال وسُعاة البريد لتوصيل الخطابات بين البيوت والبلاد والعباد، فى كل بيت أم تنظر عودة ابنها وزوجة على نار الانتظار لمجئ زوجها، وواحد انتظر كلية الطب وآخر جواب التعيين، كم مليار فرحة وزعها «البوسطجى»، وكم مليون نهاية ووداع حملتها حقيبته.. الشكل الحالى للبريد بدأ فى عهد الخديو إسماعيل، وبدأت مصر فى إصدار الطوابع البريدية، كثالث دولة فى العالم، إذ صدر أول طابع بريد مصري عام 1866، وتحول طابع البريد لأداة هامة لتوثيق الأحداث الهامة والتاريخية منذ ذلك الوقت، وفى مطلع يناير عام 1866، تم إصدار أول مجموعة مكونة من سبعة طوابع عادية لبوسته تمغاى تحمل نقوشا عثمانية وكانت فئاتها 10 و20 بارة و5 و2 و1 قرش وظهرت طوابع البريد الحكومية عام 1893 وكان يكتب داخلها كلمة أميرى التى تحولت عام 1907 إلى كلمة أميريب وظهرت طوابع البريد التذكارية أو طوابع المناسبات عام 1925 فى عهد الملك فؤاد. وقد بدأ تمصير الطابع بعد أن طبع فى مصر عام 1867 بمطبعة أبناسونب الحجرية بمدينة الإسكندرية بعد أن كان يطبع فى مدينة جنوه الإيطالية ثم صدرت الطبعة الثالثة عام 1872 بالمطبعة الأميرية ببولاق، وبدأ توثيق تاريخ مصر عبر 5 آلاف عام عندما سجلها طابع البريد المصرى على ورقته الصغيرة منذ بداية ظهوره. وبقى مقر هيئة البريد فى ميدان العتبة يمارس مهام توصيل الناس بالناس وحتى الآن حتى تحول إلى متحف عريق يليق بتاريخ هذه الهيئة، وتم تطوير المتحف باستخدام التقنيات الحديثة، والاستعانة بالذكاء الاصطناعى وتكنولوجيا المعلومات؛ لكى يظهر بمظهر حضارى يليق بالبريد المصرى على سبيل المثال استخدام تقنية ال QR code لإتاحة مزيد من المعلومات عن المعروضات وطريقة برايل فى العرض المتحفى لمقتنيات المتخف لذوى الاحتياجات الخاصة من ضعاف البصر، ويضم المتحف 15 قاعة تحكى كل قاعة بين جدرانها تاريخ البريد. ◄ قاعة بريد القرن ال 19 تحتوى على مكتب موتسى بيك اول رئيس لمصلحة البريد ومجموعة من اختام البوسطة الأوروبية بالإضافة إلى مجموعات نادرة من وثائق شراء البوسطة الأوروبية وتأسيس مصلحة البريد المصرى فى عهد الخديو إسماعيل. ◄ الصناديق البريدية وتحتوى على أقدم صندوق بوسطة مصرى بالإضافة إلى مجموعة من صناديق البريد منها صناديق بريد ميكانيكية وصناديق خشبية وصناديق اخرى بميزان ومجموعة من البورتريهات الاصلية لمحمد على باشا والخديو إسماعيل والملك فؤاد والملك فاروق. ◄ قاعة رجل البريد وتشتمل على مجموعات مختلفة من حقائب بريدية ومحافظ وطوابع واختام قديمة وحديثة التى كان يستخدمها رجل البريد وكذلك يوجد نماذج عديدة لمكاتب البريد القديمة فى بعض المحافظات المختلفة.. وقاعة تصنيفات الطوابع، وتضم مجموعة كبيرة من طوابع البريد التذكارية والحكومية والجوية والعادية المختلفة والبريد المستعجل وكذلك تضم فترينات طوابع الملك فؤاد فى الفترة من عام 1924 حتى عام 1927. ◄ قاعة المواصلات تعتبر هى أكبر قاعات المتحف وتحتوى نماذج لبعض وسائل نقل الرسائل مثل الجمال وعربيات النقل ويوجد أيضاً بواخر وقطارات وطائرات بالإضافة إلى تمثال نصفى للملك فؤاد وتليفريك يعود إلى عام 1914 وكذلك بعض التابلوهات واللوحات مكونة من طوابع على شكل أسماء الملك فؤاد وفاروق الأول. ◄ قاعة مطبوعات مصلحة البريد وتحتوى على مجموعة كبيرة من النماذج مثل المظاريف والاذونات الحكومية والاكليشهات والزنكات وكروت المعيدات التى كانت الهيئة تقوم بطباعتها للغير من الشركات والعملاء الراغبين فى الحصول على هذه الخدمات.. وقبيل افتتاح هذا المتحف أهدت وزارة السياحة والآثار إلى وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات مركبة أثرية لنقل المواد البريدية موديل عام 1870، والتى كانت ضمن مقتنيات متحف المركبات الملكية لتنضم إلى مقتنيات متحف البريد المصرى على سبيل الإعارة.. والتى عملت سنوات طويلة كسيارة نقل المواد البريدية الأثرية، شاسيه رقم 182/2، كانت من ضمن العربات التى يتم استخدامها فى استقبال البريد من محطات القطار ونقلها للمدن الصغيرة، وقد كانت مثل هذه العربات متواجدة فى إنجلترا عام 1880، حيث كانت مخصصة لنقل الأمتعة والبريد الخاص بالملك فى القرن العشرين، وهى على شكل صندوق كبير مصنوع من الخشب، مغلق له باب خلفى بضلفتين وكرسى أمامى مرتفع للسائق مصنوع من الخشب. ◄ اقرأ أيضًا | البريد ينفي أي شراكة مع «باي سكاي» للحصول على رخصة بنك رقمي ◄ «جمع الطوابع» هواية تقاوم الانقراض جمع الطوابع البريدية، هواية يعتقد البعض أنها اندثرت، إلا أن عشاقها لا يزالون يسعون لاقتناء المزيد من الطوابع، ويحرصون على غرس هذا العشق فى الأجيال الجديدة، وقد اعتدنا أن نسمع عن هذه الهواية فى الأفلام القديمة، وكانت مرتبطة دائمًا بالطبقة الأرستقراطية، مما جعل البعض يظن أنها لم تعد موجودة فى عصرنا الحالي، لكن عشاق جمع الطوابع لا يزالون ينشطون فى جميع أنحاء العالم، وبينهم عدد كبير فى الوطن العربي، خاصة فى مصر، وللتعرف على تفاصيل وأصول هذه الهواية، تواصلت الأخبار مع أحد هواة جمع طوابع البريد، وهو المهندس عمر عبد الرزاق، الذى ورث شغفه بجمع الطوابع البريدية عن والده. ويرى المهندس عمر عبد الرازق أن هواية جمع الطوابع البريدية من أكثر الهوايات انتشارًا عبر التاريخ، فهى تثقيفية وتجعل هواة جمعها يهتمون بالتاريخ الخاص بالدولة، أو الإقليم المرتبط بالطوابع التى يقتنونها، وانطلقت هذه الهواية مع إصدار أول طابع بريدى فى بريطانيا عام 1840، والذى حمل صورة الملكة «فيكتوريا»، وعُرف باسم «بينى بلاك» بلونه الأسود، وقيمته بنس واحد. وأضاف عبد الرازق: مع مرور الوقت، زادت شعبية هذه الهواية بفضل التجار الذين بدأوا فى إصدار كتيبات و»ألبومات» للطوابع، ما زاد من انتشارها، لإنها هواية تملؤها المعرفة والثقافة، وقد جذبت العديد من الشخصيات البارزة مثل الأمير «رينيه» الثالث من موناكو، والرئيس الأمريكى الراحل «فرانكلين روزفلت» والملكة «إليزابيث» والملك الراحل «فاروق» وأكد أن الوقت الذى يمضيه الهواة مع طوابعهم، بين «الألبومات»، و»الكتالوجات» مستخدمين العدسة المكبرة لاستكشاف تفاصيل الطوابع، وجمالها، يمر بسرعة مذهلة، وعلى الرغم من الاعتقاد بأن هذه الهواية قد اندثرت. وأوضح «عمر» أن أول طابع بريدى صدر فى بريطانيا عام 1840، واستمر استخدام الطوابع بعدها فى دول مثل البرازيل، والولايات المتحدة، وفرنسا، وبلجيكا، هناك طابع نادر جداً بقيمة سنت واحد من مستعمرة جويانا البريطانية يعود لعام 1856 ومحفوظ الآن فى نيويورك. وتتنوع الطوابع بين التذكارية التى تصدر بمناسبات مهمة مثل: حفر قناة السويس، وافتتاح القناة الجديدة، وتلك التى تحتفل بالأحداث التاريخية الأخرى. ويشير عاشق الطوابع إلى نوعين من الطوابع: المصمغة، وغير المصمغة، ولكل منهما قيمته الخاصة، مع التأكيد على أهمية الطوابع التى تحمل صور الشخصيات الشهيرة، وفى النهاية، تظل الطوابع الأكثر قيمة هى تلك التى لم تُستخدم أبدًا ◄ «البوسطجي» في الوجدان الشعبي يرى الناس ساعى البريد أقرب إلى أبطال القصص الشعبية، أو الخارقين مثل «سوبرمان»، و»باتمان»، و»رفعت إسماعيل» و»أدهم صبري»، إنهم يخوضون المغامرات، ويحملون أسرار الرسائل الغامضة، فمهمتهم تسليم الخطاب إلى يد المرسل إليه، لذلك تجد «البوسطجي»محبوبا عند الأطفال، وحين تسأل أحدهم «ماذا تريد أن تكون عندما تكبر؟» يجيبك «ظابط شرطة»، أو «طبيب» أو «ساعى بريد»، ربما جذبهم الاسم حينما يقرأونه بالإنجليزية «postman»، أو يبهرهم زيه ذو اللون الكحلى الذى يشبه ملابس الشرطة، تحدثنا مع عدد من الناس عن ذكرياتهم مع ساعي البريد. فتحدثنا مع نفيسة «ربة منزل-67 عاما» التى وصفت عم «حسن» «بوسطجي» بلدتهم، بإنه أحد أفراد الأسرة، وتتذكر شقيقها الذى سافر إلى العراق، صارت هى وأسرتها فى حالة قلق بعدما اندلعت حرب الخليج فى مطلع التسعينات، حيث أصبحت رسائله قليلة، مع كل رسالة تأتى كانوا يشعرون بحالة فزع خوفا من أن تكون حاملة خبر موته، فيطلبون من «عم حسن» قراءة الرسالة لكى يتجنبوا الصدمة. وتبتسم «نفيسة» وهى تقول: وبشكل تدريجى بدأ «عم حسن» يتابع أخبار شقيقها بشغف، كأنه صار فردا من أسرتها. فى إحدى المرات، رأت «عم حسن» قادما من بعيد، يقود دراجته فرحا، وحين وصل إلى البيت، رفع يده حاملا الرسالة، قائلا «أخوكى جاى يوم الخميس يا نفيسة» فدخل الساعى معها برفقة أخواتها إلى غرفة نوم والدتها ليبلغوها أن إحساسها كان صحيحا، فإن ابنها بخير وسيعود سليما. وتقول «شيماء» المعيدة بكلية الآداب: لم أر ساعى البريد، وهو يسلم جميع الجوابات إلى عمو حمدى (صاحب المحل أمام منزلهم)، وعمو حمدى كان ينتظر بابا، وهو قادم يعطى الجواب أو ينادى علينا ( لا يوجد جرس فى ذلك الوقت فكان إذا أراد أحدا؛ ينادى يا «شيماء» على اسم الطفلة الكبيرة). عمو حمدى حريص على إعطاء الرسالة فى يد والدى خاصة المتعلقة بالمدرسة «عشان أكيد أنا عملت عملة فى المدرسة». مؤخرا كنت ذاهبة إلى مشوار، ورأيت صندوق البريد أمام أحد المنازل فشعرت أن أصحاب هذا البيت أغنياء مثلما نشاهدهم فى «التليفزيون»، وليس لديهم «عمو حمدى» بل صندوق بريد. ويوضح هانى مدرس اللغة الإنجليزية علاقته بالبوسطجي، فحين يراه يتذكر أغنية «مراسيل» لإيهاب توفيق فى عقله، كان يشعر إنه شخص مخيف حين يفحص الرسائل داخل صندوق البريد، ويعرف أسرار الناس الغامضة، وذلك تأثرا بمشاهدته فيلم «البوسطجي»، لكنه بعد سنوات تحول إلى «بابا نويل» حين انشأ صندوق بريد أمام باب منزله. أما داليا المترجمة فى إحدى الشركات الخاصة، فتقول: حين أسمع اسم ساعى البريد أتذكر والدى -يرحمه الله-، وهو يكتب على جواباته بخط واضح « شكراً للسيد ساعى البريد«، وتقول: أتذكر «البوسطجي» حين أكون فى منزل جدتي، وحيث كنت أنزل «السبت» لأنها كانت تقيم فى الدور الخامس والأخير، فيحضر الساعى الجواب من خالى فى السعودية ونقرأه، أكون سعيدة حين يرسل خالى سلام كثير من خلال الخطاب. ◄ سوق للرسائل القديمة على الرصيف.. أسرار وحكايات وذكريات للبيع حين تتوجه إلى منطقة سينما «ديانا» بوسط البلد، تجد نفسك داخل سوق عجيب تبدو فكرته مثيرة حيث يبيعون كل شئ على منضدة صغيرة أو «فرشة»: ساعات قديمة، أشرطة «كاسيت»، و»فيديو»، «ألبومات» صور، كتب مستعملة، ومجلات قديمة، وهنا قفز سؤال إلى ذهني، كيف وصلت كل تلك الأشياء المتنوعة إلى أيدى هؤلاء الباعة، فسألت أحدهم ويدعى عم توفيق، فأجاب بإنهم يبعون بقايا ذكريات متعلقة برسائل قد تركها أصحابها لأنهم وجدوا صعوبة فى الاحتفاظ بها، وبعضهم هاجر إلى بلاد أخري، فى حين باع اخرون منازلهم الممتلئة بتلك المقتنيات، فلم يعد لها مكان فى بيوتهم الجديدة، وكثير منهم يرى هذه الرسائل مجرد «كراكيب».. وقد توقفنا أمام الأمكنة التى تبيع الرسائل القديمة، تفحصناها، واخذنا نتأمل الطوابع، الأظرف، اسم المرسل، والمرسل إليه، والكلمات المكتوبة فى الرسالة ذات ورق أصفر، تشعر إنك انتقلت إلى زمن آخر، سألت «إيهاب» أحد باعة الرسائل عن سبب اهتمام الناس بشرائها، أجاب أن الزبائن منقسمون إلى عدة أقسام.. الأول يقتنى الرسالة الممتلئة بالطوابع وخاصة الأجنبية منها، وكذلك الأختمام البريدية، اما النوع الثانى فيفضل الرسائل الصادرة من جهة معينة مثل الشركات الكبري، أو الهيئات الحكومية التى تنتمى إلى فترة الخمسينات، والستينات، والسبعينات من القرن الماضي، ويميل إلى قراءة رسائل المواطنين العاديين وخاصة البسطاء للتعرف على تفاصيل الحياة الاجتماعية فى مصر ذلك الوقت، كيف كانت وكيف تغيرت؟». والتقينا ب «سعد خالد» أحد المفتونين بجمع الرسائل القديمة، فسألناه عن سر شغفه بشراء هذا النوع من الرسائل، فأجاب: أحب اقتناء رسائل كتبها شخص واحد، لأننى أجد نفسى داخل حكاية أشبه بالروايات أو الأفلام، أعرف عن طريق كلماته تفاصيل بسيطة عن حياته الشخصية، بعد قراءتها تشعر بأنك وجدت أفقا جديدة لعالم الخيال، تتخيل حياته الكاملة، كيف كان شكله، ماذا كان يعمل كأنك تنسج قصة جديدة من خلال أجزاء صغيرة من حياته الحقيقية. فقررنا بدورنا شراء مجموعة من الرسائل، ومن بينها «كروت بريدية للتهنئة بمناسبة الأعياد، والمناسبات، التى حلت محل الرسائل الجاهزة، وهى ترسل بشكل فورى فى خلال ثوان، عن طريق تطبيق «الواتس اب» ووسائل الاتصال الاجتماعى. ◄ «نقولا» وشقيقاته وقد اقتنينا مجموعة من الرسائل ومنها: خطابات مرسلة إلى مواطن اسمه «نقولا» تنتمى إلى فترة الخمسينات، والستينات من القرن الماضي، وكان «نقولا» يعيش فى منطقة «شبرا»، وتنوعت الجهات الصادرة عنها هذه الرسائل فهناك: رسالة من الكنيسة تتضمن أجوبة عن أسئلة طرحها «نقولا»، ورسالة من مواطن اسمه «توفيق» بتاريخ 15 أغسطس 1959، يبلغه فيها إنه سوف يخلى المحل المستأجر من «نقولا» فى نهاية الشهر، وايضا وجدنا رسائل مواساة فى وفاة شقيقته «كوكب»، وهي: رسالة من أولاد عمته تعكس الترابط الأسرى والعائلى والتضامن العائلي، قد كتبت بلغة فصيحة خلت من الركاكة وجاء فى جانب منها: «أولاد عمتى...» استلمنا جوابكم، وقرأنا فيه الخبر المؤلم بوفاة ابنة عمتنا الغالية المرحومة «كوكب»، وقد فوجئنا بهذا النبأ وتأسفنا فى غاية الأسف تألمنا كثيرا لهذا النبأ، المزعج، لأنها كانت رحمة الله محبة ذات أخلاق رضية، تمنينا أن نكون معكم لنشاطركم الأسى ونشترك معكم لأن فقدها خسارة للجميع ونطلب من الله عز وجل أن يلهم الجميع الصبر والعزاء، ونتمنى لابنة عمتنا المرحومة أن يسكنها الله فى جناته...امضاء ليلى وخليل....ملاحظة: خليل يشترك معى بتقديم التعازى الحارة، وصار له »11» شهر مريض، لكن الآن منذ نصف سنة لا يستطيع أن يخرج من البيت أبدا، ولا أن يمشى وحده وصحته فى تأخر مستمر»، وتعد تفاصيل حياة «نقولا» الشخصية مادة خاما للإبداع الأدبي، حيث تطرح أسئلة عديدة - داخل عقلك - حول هذه الشخصية مثل: من هو نقولا؟، من شقيقاته، خاصة «كوكب»؛ فاسمها محاط بهالة من الغموض، وشخصيتها تثير مخيلتك لمعرفة كيف كان شكلها. ◄ حوالة ب «5 جنيهات» ل«إمام» أما مجموعة الرسائل الثانية فتخص مواطنا يدعى «إمام» من أبناء القاهرة، يعمل مهندس تكييف، وكان يقيم فى فندق «ماجيستيك» بجوار سينما الصداقة بشارع سعد زغول، وصلت إليه رسائل بتاريخ شهر «سبتمبر» عام 1969، ومنها رسالة من والده اللواء «حمام»، الذى يقطن فى شارع «فطين» بشبرا مصر جاء فى مطلعها: حضرة المحترم ابننا العزيز... نهديك تحياتنا، وأشواقنا وندعو الله مراعاتك فى غيبتك، أن تكون فى أتم الصحة، وأحسن حال، مرسول لكم بداخل خطابنا هذا حواله بريدية قيمتها «5 جنيهات مصرية»، نرجو عند وصول خطابنا هذا أن ترسل إلينا الرد فورا للإطمئنان عليكم، وعلى أحوالكم، ونعلمكم أننا قد علمنا أن للشركة استراحة خاصة بالموظفين، فلماذا تتحمل أنت مصاريف نفقات الإقامة فى «اللوكاندة» مع أن الاستراحة المخصصة للشركة تغنيك عن هذا فرد «إمام» على والده بعد يومين من وصول خطابه، موضحا إنه تسلم الحوالة وأن الشركة لا تملك استراحة فى أسوان. ◄ «إمام» وصديقه «جورج» كما استقبل «إمام» رسالة من صديقه «جورج» يحكى فيها حكاية طريفة حدثت له: أخى العزيز «إمام» أفندى.. بعد غياب طويل نكتب لك هذا الجواب نحن نأسف كثيرا لتأخرنا فى الرد عليك لظروف طارئة مثل مرض والدتي، وقد نصحنا الدكتور بالراحة التامة وعدم «النرفزة»، وحكاية أخرى سوف تضحك عليها، أنت عارف سليم الراجل الطويل اللى عنده كلب بتاع الصيد الكبير، المهم كنت مرة واقف معاه بعدين بقوله من ضمن الكلام إنه إذا حب يسافر يوم أو يومين مثلا وحب يسيب الكلب فيجيبوا عندنا، وأنت عارف إن أنا بحب الحيوانات، ياخويا مكدبش خبر بعد مدة قابلته فى الشارع فقالى اسمع يا جورج أنا يوم الخميس الصبح مسافر إسكندرية وهاجى يوم الجمعة بالليل هسيب الكلب عندك، أنا انكسفت اقوله لا فوافقت لكن أيه مقولتش حاجة فى البيت، وبعدين يوم الخميس الصبح نزلت الشغل الساعة 7 أو 7.5، حضر «سليم»، ومعاه الكلب اللى زى الوحش، ودخلت بيه جوه بعد شوية الكلب حس نفسه لوحده، وان صاحبه سابه معانا لو تعرف أيه اللى عمله، وأن «ماما» فى موقف زى ده تقعد تشتم وتلعن، المهم قالت ل«برنا» سيبى الكلب وروحى اضربى تليفون لجورج «ابن الكلب» عشان يجى يستلم الكلب بتاع صاحبه، والكلب جوه بقى مهيج الدنيا يكسر يهوهو و«برنا» ماسكة سلسلة طوق الكلب بتهدى فيه بالفرنساوى حاكم عاملى خواجة فين وفين لما هدى واخد علينا لما كانت أعصاب برنا وماما خلاص هايتجننوا، واللا كان هيموتهم، حاكم ده مش زى «لاكى» الطيبة.. المهم تكون عرفت السبب، «ماما» نفسها قالت اكتب جواب لمحمد ده زمانه هيموت، وهيتحنط زيادة ما هو أساسا متحنط.. أخى محنط أفندى احكيلى عن نفسك عامل إيه فى شغلك، أما من ناحيتى زى منا، وأخيرا يا «محمد» الجميع فى طرفنا بخير، يرسلون سلاماتهم إليك جميعا.. كل رمضان وأنت طيب.. الإمضاء أخوك جورج.. فى رسائل إمام تشعر أنهم أفراد أسرته يوثقون تفاصيل حياتهم اليومية؛ عبر تلك الخطابات، كما نكتشف فى رسالة جورج إلى إمام مدى الترابط والانسجام بين الصديقين كما يعكس متانة النسيج الاجتماعى المصري، يحاول صاحب الرسائل أن يوثق حكاية الكلب، وتتحول الرسالة إلى مساحة تخزين لذكريات خوفا من النسيان، وحين تتأمل منزل جورج تشعر كأنه فيلم كوميدي: فشقيقته «بيرنا تتحدث مع الحيوانات باللغة الفرنسية، والبيت أساسا ملئ بالقطط التى وفد الكلب ضيفا عليها! والحقيقة أن الرسائل التى نجحنا فى اقتناءها تؤكد فى معظمها أن كتابها كان يكتبون بلغة سليمة من الأخطاء اللغوية والإملائية لأن بعضهم كانوا موظفين بسطاء لم ينالو قسطا مرموقا من التعليم. ◄ إبراهيم أصلان ◄ «موظف البرقيات» صار مبدعًا للحكايات يقدم الناقد د. هيثم الحاج عبر هذه السطور إطلالة متعمقة فى عالم الأديب الكبير الراحل إبراهيم أصلان حيث يرى أن اصلان كان شديد الاعتزاز بعمله الأصلى كموظف فى وزارة الاتصالات ومسئولا عن البرقيات، وهو ابن طنطا الذى انتقل إلى القاهرة بسبب هذه الوظيفة، وهى الوظيفة التى كان لها كبير الأثر على كتاباته خاصة فيما يتعلق بالقصة القصيرة، الفن الذى لا يحتمل أى زيادات تعبيرية، وينحو نحو الوصول إلى هدفه بأقصر الطرق، وأقل عدد ممكن من الكلمات، وربما يكون ذلك تأثرا بواحدة من آليات عمل البرقيات التى تتم المحاسبة عليها من واقع عدد كلماتها، وهو الأمر الذى جعل أصلان يعلم تماما قيمة الكلمة الواحدة ومدى أثرها داخل نصها وسياقها. فى واحدة من أهم أعمال إبراهيم أصلان تأتى وردية ليل المنشورة فى طبعتها الأولى عن دار شرقيات بالقاهرة عام 1992، والتى تحتوى على خمس عشرة قصة قصيرة، لا يتجاوز طول الواحدة منها الصفحتين أو الصفحات الثلاث على أقصى تقدير، حيث تعمل القصة القصيرة لديه عمل البرقية التى تتجه إلى متلق يستطيع الوقوف على التفاصيل الدقيقة للمشاهد من دون عناء أو إطالة، لتكون هذه المشاهد الليلية مدخلا للوقوف على حياة كاملة تبدأ من ذهاب سليمان إلى عمله بعد العشاء مرورا على السينما فى شارع 26 يوليو ووصولا إلى مكتب التلغراف الذى يبدأ معه حياة عامرة بتفاصيلها الخاصة، التى تتراص جنبا إلى جنب مع الشخصيات الليلية التى تحكى تاريخا كاملا ملخصا فى كلمة أو صورة، وهو الأمر الذى يعضد كون الحياة فى الليل خالية من الزيادات بما يسمح للعائش فيها برؤية تفاصيلها الأصلية الدقيقة والتركيز عليها. تقوم مجموعة وردية ليل إذن على عناصر ثلاثة أساسية هى موظف التلغراف، وأصحاب البرقيات سواء كانوا مرسلين أو مستقبلين، والبرقيات نفسها التى تمثل عنصرا تعبيريا اختزاليا، وتبدو العلاقة بين العناصر الثلاثة قائما على التماس الإنسانى الذى ينطلق من مركزية وجود شخصية البطل سليمان، الذى يحكى من وجهة نظره ليتجسد موظف البرقيات لا بوصفه مجرد ناقل للرسائل بين المرسلين والمستقبلين لها، لكن كذلك بوصفه عنصر التماس الأهم بين الجوانب المختلفة من العالم. بين موظف يؤدى وظيفته الليلية للمرة الأخيرة حيث يحال إلى المعاش ويصر على تأدية وظيفته على الوجه الأكمل للمرة الأخيرة، وآخر يتسلم منه درجه الخاص ليبدأ فى تسلم مهمته اليومية، وثالث – وهو بطل قصصنا سليمان – يترقى فى وظيفته، تبدو صورة موظف البرقية، عدسة مكبرة على تفاصيل دقيقة بعضها صار من الماضى وبعضها سوف يرحل حالا، يتعامل مع حيوات كاملة تحتوى على الانتظار والهجر، الرحيل والقدوم، السجن والحرية، فى القريب وعلى المستوى الأكثر بعدا، ليظهر المستقبلون فى الوقت ذاته شخصيات مكتملة البناء وإن لم يظهر منها سوى تعبير واحد أو مشهد قصير، فيما يتوافق مع ذلك الاختزال الذى يلف العالم كله داخل الوردية الليلية.