يكاد حسنى حسن أن يكون معروفا للقراء، برغم أنه يواظب على الكتابة منذ عشرات السنين، فحسنى (المولود فى طنطا 1962) كتب القصة القصيرة والرواية والمقال والدراسة النقدية، وبرغم أنه لم ينتج سوى 6 كتب، فإنه قد نال جائزة فى عام 1996 عن روايته «اسم آخر للظل»، وفى عام 2000 نال جائزة أخرى عن روايته «المسرنمون»، كما نالت قصته «سيدى مرزوق» جائزة صالون إحسان عبد القدوس عام 2020. فى مجموعته القصصية «يتامى الأبدية» (الهيئة المصرية العامة للكتابة) يبدأ الكتاب بقصة «الشاعر منتحلا» وفيها يمضى البطل فى تأمل حياته، والطريق الذى اختاره لنفسه أو اختارته له الأقدار، فهو يتذكر اثنين من الأدباء العالميين الأول هو تولستوى (1828- 1910م) والثانى قسطنطين كفافيس (1863- 1933م) فتولستوى كان سيدا أرستقراطيا من ملاك الأراضى فى روسيا، وانتهى به الأمر مشردا ومات وحيدا لأنه ترك البيت وهام على وجهه وهو فى سن الثامنة والثمانين، أما كفافيس فهو الشاعر اليونانى الذى ولد وعاش ومات فى الإسكندرية، وكان علامة على المدينة الكوزموبوليتانية، ثم إنه كان معروفا بلقب الشاعر الشيخ كما ورد ذكره فى رواية «رباعية الاسكندرية» (1957- 1960) للورانس داريل (1912-1990) الذى أهداه الكاتب قصة بعنوان «الضفة الأخرى لليل». إن الراوى لا يذكر كفافيس باسمه فى قصة الشاعر منتحلا، ولكن يشير إليه، والسؤال هو ماذا أراد البطل فى هذه القصة؟ هل أراد أن يترك البيت ويهيم على وجهه مثلما فعل تولستوي؟ أم أراد أن يتجاوز الأعراف ولا يرتبط بأسرة، بل يمارس حياته على النحو الذى يرغبه ويشتهيه، كما فعل كفافيس؟ يبدو أن البطل هنا كان يحلم بهذا الخرق للناموس الاجتماعي، كما فكر أيضا فى الهروب من عالمه. أما القصة الأخيرة فى المجموعة فهى التى يحمل الكتاب عنوانها «يتامى الأبدية» هى قصة لا تختلف الحكاية فيها عن القصة الأولى، ولكن خطابها الروائى يختلف، إن البطل كاتب، وهو حائر، يحاسب نفسه ويحلم ربما بحلمين متناقضين أحدهما شرير والآخر طيب، فى النهاية هو شخص جبان ومرتبك، إنه «مجبول على الخوف من الآخرين والفزع من العالم» وهو حينما يتقابل مع صديقه يصرح له قائلا: «أقايض حياتى بحكاية أرويها بديلا عنها» فقد كانت له أحلام فى مجالين: السياسة والكتابة، فى السياسة كان يحلم بالثورة المستمدة من فكر كل من لينين وتروتسكي، وستالين أيضا، أما فى الكتابة فحلمه غائم مشوش. إن قصة «يتامى الأبدية» هى رد للأعجاز على الصدور، هى حكاية لجانب من الحياة الباطنية للبطل الذى قابلناه فى القصة الأولى. أما سائر قصص المجموعة فتقع فى فضاءين هما مدينة الإسكندرية، والمملكة المغربية، فالشخصية الرئيسية فى كل القصص رجل يعمل فى وظيفة مرموقة قضى شطرا من سنوات خدمته فى الإسكندرية وشطرا آخر فى المملكة المغربية، وهو فى الحالتين يقع فى الحب، أو يصطدم بحب قديم منسي، ويعذبه هذا الحب الحاضر، كما يعذبه من جديد ذلك الحب القديم المنسي، لكنه فى كل الحالات رجل مأزوم لأن التناقض بين الإرادة والفعل يسبب له عذابا وقلقا لا يريم. وتبدأ القصص السكندرية، أى التى تكون الإسكندرية فضاءها المكانى بقصة «55 أغسطس» حيث يفتقد الراوى أمه التى توفيت وهو غريب فى عمله البعيد، ولكنه أيضا يظل نفورا أو منفرا لمن جاءت تطلب الوَنَس فى الكازينو تجاه بحر الاسكندرية فيصدمها بحديثه عن أمه وأبيه. فى قصة «نهار سكندري» نرى حكاية تفتقد لبناء قصصى محكم، لكنها تنم عن السمة البارزة فى هذه القصص وهى الثقافة، فبطل القصص كلها، وقد قلنا إنه شخصية واحدة، غير محدد الاسم، هو رجل مثقف، يحب الموسيقى والرواية وأفلام السينما، وهو يستمد من ثقافته الأدبية والموسيقية ليغذى حياته بدماء القلق والارتياب أكثر مما يغذيها بالراحة والرضا والسكون، إنه يتذكر روايتين استعارهما من صديقه، الأولى رواية «جوجول» الأنفس الميتة» والثانية رواية لمؤلف اسمه «قسطنطين جيورجيو» وكما قلت لا ينسج الكاتب هنا بناء قصصيا، بل تداعيات يجلبها المرور فى المكان، والمكان هنا هو شارع النبى دانيال المعروف بثرائه، ومتعة السير فيه، وخاصة لمن يحبون شراء الكتب القديمة. أما قصة «الغزاة» فقد أهداها الكاتب إلى كفافيس، إنها قصة عن الفيلسوفة السكندرية «هيجباتيا» أو «هيباتيا» (توفيت 415 م) هى تداعيات فى ذهن الراوى بمناسبة وجوده فى الاسكندرية، والمعنى هو العذاب الذى يتلقاه المفكر، قديما كان أو معاصرا. كما خصص الكاتب قصة ل«هيباتيا» خصص قصة «على رصيف محطة قطار نائية» للحظات الأخيرة من حياة تولستوي، وفى القصة تداخل فى الأزمنة بين زمن الراوى وزمن تولستوى وزمن بطلته «أنا كارنينا» ولكن الرابط بينهم جميعا هو إرادة التخلص من الحياة، بعد أن أصبح العيش عذابا، فليكن الموت راحة، ولكن الراوى لا يموت ولا ييأس، بل بقى فى العذاب المقيم. أما قصة «أمانة يا بحر» فالمنظور السردى فيها يختلف لأنها تروى من زاوية نظر البطلة وهى تسترجع علاقتها بزميلها القديم، ويكون كازينو الشاطبى هو المثير الذى تتداعى الذكريات حينما يظهر أمامها وهى تسير بسيارتها الجديدة. فى المجموعة الثانية من القصص والتى نقترح تسميتها ب«المتتالية المغربية» يظهر البطل نفسه، بعد أن انتقل للعمل فى الرباط، ووقع فى حب امرأة متزوجة أو وقعت هى فى حبه. وتبدأ هذه المجموعة من القصص بقصة «باب الرواح» وتنتهى بقصة «تردد النهر» والنهر هنا هو نهر «أبى الرقراق» ويلفت النظر فى هذه القصص أن الكاتب استطاع أن يأخذ القارئ فى رحلة هادئة فى ربوع المغرب فى الرباط وفاس وطنجة، ليس هذا فقط بل إنه قد استطاع أن يربط بين موطنه الأصلى فى طنطا وبين المغاربة من الأمازيغ الذى عاشوا فى مصر واتخذوها موطنا منذ أيام غزو الطائفة العبيدية من الشيعة المعروفين باسم الفاطميين، فنرى الراوى فى قصة «أندلس لشام» فى حواره من صديقيه المغربيين، وحينما يمرون بأماكن الكتاميين، فى منطقة الريف، حيث الجبال والغابات يتذكر الراوى ويحكى لمحاوريه: «فى قلب الدلتا عندنا، على مشارف مدينة طنطا، توجد قرية كبيرة اشتهرت بصناعة الأثاث، اسمها «كتامة الغاب» عندما كنت طفلا، كثيرا ما تساءلت عن أصل التسمية؟ لماذا الغاب ونحن لا غابات لدينا... بحكم عملى عرفت أن الخلفاء الفاطميين كانوا قد وهبوا إقطاع هذه المناطق لأمراء الجند «الكتاميين» الذين جاءوا بهم من هنا. وهكذا يبدو الكاتب من ناحية كالمستشرق الذى يجول فى أرض المغرب بعراقتها وسحرها فيندهش وينقل للقارئ دهشته، لكننا يجب أن نستدرك ونقول إن الكاتب هنا لم يكن مستشرقا فاللغة واحدة والتاريخ مشترك متداخل كما وضح من قصة الكتاميين. إن «القصة» فى المجموعة المغربية هى أحداث متباينة للبطلين الراوى ومحبوبته، وسوف تنتهى بالفراق كما هو متوقع. فإذا كان الراوى فى الاسكندرية يحكى عن بيته وزوجه وعدد من صديقاته من الزمن الماضي، فإنه هنا لم ينشغل سوى بمعشوقة واحدة، سببت له العذاب وهى نفسها كانت معذبة لأنها امرأة متزوجة، والمفارقة أن زوجها كأنما كان يعرف بعلاقتها بزميلها فى العمل ولكنه يتجاهل ولا يواجه، لأنه هو نفسه صاحب مغامرات جنسية متنوعة وامرأته تعرف بها أيضا، لكن الراوى لا يجعل مرمى الخطاب الروائى هو هذه الخيانات، بل العذاب الذى يلقاه الرجل والمرأة، فى حياتهما التى سيعودان إليها بعد انقضاء مدة التلاقى والحب المشتعل مؤقتا. بالرغم من أن الكاتب حسنى حسن لم ينوع كثيرا فى قصصه، فالبطل واحد وهو شخص بلا اسم، وقد نقول إنه يشبه الكاتب نفسه كثيرا، إلا أن هذه المجموعة القصصية تدل دلالة واضحة على قدرة الكاتب على الحكي، وعلى نسج نص سردى يرتكز كثيرا على التحليل النفسي، وعلى تنويع الزمن داخل القصة، فالسرد ينتقل فى نعومة وسلاسة من الماضى إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى الماضي. لقد كان طول الجملة أحيانا ما يصبح عبئا ومعطلا لانسياب السرد وتدفقه، فالكاتب أحيانا يستسلم ويضع فى الجملة الواحدة فائضا من الصفات، كما فى قصة «أسفل شلال «ألم ينذر نفسه لنسيان رحيم، بالٍ، ومعتكر؟» و أيضا «ألم ينذر نفسه لاستسلام رواقي، مهيب، ورخيص؟»، ومع ذلك فإن ثراء اللغة بالمصطلحات الثقافية السياسية والفلسفية والموسيقية قد أغنت الخطاب الروائي، وخاصة التناص مع الروائيين العالميين من ميلان كونديرا إلى نجيب محفوظ مرورا بهنرى ميللر، كما استطاع الكاتب أن يغنى السرد أيضا بتأملات وجودية، أشاعت فى النص روح القلق والتوتر، فصنعت خطابا سرديا مقبولا من مادة حكائية قماشتها محدودة. ونستطيع أن نقول إن حسنى حسن تأثر قليلا بأسلوب «إدوار الخراط» (1926- 2015) فهو فى قصة «تردد النهر» يقول على لسان الراوى « فى الفراش بدا متجلدا، ومتخشبا، على نحو ما، هل كان ذلك ما ظل يحلم به وينشده طوال تلك الشهور، وعبر كل تلك الليالى الطويلة المسهّدة، التى بات فيها وحده، خاويا إلا من وحدته، يشتهى ضمة جسدها اللين المحبوك؟» فقد صنع الكاتب تحولا أسلوبيا فيه عرامة البلاغة، ومن هنا كانت أدبية «يتامى الأبدية» وقبولها عملا قصصيا يستحق القراءة.