جوسيلين ميشيل ألميدا | ترجمة: أحمد عبد اللطيف يضم العدد الجديد من مجلة بانيبال فى نسختها الإسبانية كوكبة من القصص للكُتّاب المصريين: حسن عبد الموجود، جيلان الشمسى، شريف صالح، منصورة عز الدين، منتصر القفاش، مى التلمسانى، صفاء النجار وطارق إمام، وهم كُتّاب تظهر فى كتاباتهم مصر الأبعد عن «القوافل وزمن الرمال»، وهى الكناية المعروفة عن الشرق فى رواية بورخس (المستعارة من قصيدة «أوزيماندياس» ل بيرسى شيلى). ومثل بروثيوس، إله البحر المذكور بصفته، يكتسب فن القصة حياة جديدة مع أعمال هؤلاء الكُتّاب المصريين، بدايةً من القصة الحديثة ذات البعد العبثى والتهكمى والغريب -وقد كتبها أساتذة القصة الكبار مثل إدجار آلن بو، رامون خيمينيث دى لا سيرنا، أرييل دورفمان أو تونى موريسون- وحتى القصة القصيرة جدًا، التى فتح بها هؤلاء الكُتّاب أفقًا جديدًا للنوع القصصى. من بين التيمات التى تناولتها هذه الكتابة تبرز العلاقات العائلية داخل السياق الاجتماعى والتاريخى المصرى، والصراع بين العولمة والمؤسسات والبُنى التقليدية، وتجربة المرأة ونضالها، وأصداء العسكرة والتكنولوجيا. هذه القصص الخيالية والمؤرقة أحيانًا تدعو للتأمل حول الواقعية فى التفاصيل اليومية، وفى الوقت نفسه تعكس العمق الوجودى للحظة فى علاقتها بالذاكرة. يرسم كل من شريف صالح ومى التلمسانى ومنتصر القفاش خريطة للعواطف والتعلم والفراق بين أجيال الأجداد والآباء والأعمام، وأبطال قصصهم، هؤلاء الذين يواجهون حضور الماضى فى الحاضر ليستوعبوا الواقع بطريقة أفضل وكذلك لفهم أنفسهم. شريف صالح، وعمل صحفيًا بالكويت حيث عاش لعشرين عامًا قبل عودته إلى القاهرة، يشيّد دراما هذا اللقاء فى أجواء متنوعة، كما فى «قصر الأموتات» الغامض، إذ تخرج الأشباح لمقابلة السياح وتتصور معهم السيلفى ويتوسلون البطل؛ ومقهى جروبى السينمائى، حيث يلتقى سبعة رجال من أعمار مختلفة، وينتظرون المرأة نفسها؛ أو المحيط العائلى، عندما تأتى «الخالة اليابانية» و»تدور فى البيت مثل فراشة بملابسها الملونة، فتثير هنا وهناك موجة عطرة». ومى التلمسانى، الفائزة بميدالية الأكاديمية الفرنسية وأستاذة السينما والدراسات العربية بجامعة أوتاوا، تتناول أيضًا مسألة الهيراركية العائلية من وجهة نظر ابنة ترعى أباها المسن وهى تعرف أنه سيموت عاجلًا. «الآن لم تعد هناك مساحة لألعاب التبادل فلا شك أنه ذاهب للموت وأنى سأكون حية من بعده ولا أحد يمكنه أن يتوقع غير ذلك». يثير عجز الأب جولة فى ذاكرة التجارب العائلية، وكل ما يبقى دون أن يقال فى حزن داخل الصمت بين الأب والابنة: «إحدى لغاتنا». الذاكرة هنا هى العربة التى تجر شخصيات منتصر القفاش، مدرس اللغة العربية فى الجامعة الأمريكيةبالقاهرة، حين يتذكر أحداثًا لا تمحى فى فترة الانتقال من الطفولة للشباب، مثل وصول القبلة الأولى، أو أصول الأسطورة العائلية حول حصان الشطرنج الأبيض، ورغم تنقلاته «لم يصمد شىء التقطه جدى من الشارع كل هذه السنوات رغم أنه لم يكن يحرص على حفظ الحصان فى مكان آمن، تركه متاحًا لأبنائه ثم أحفاده بعد ذلك... ومهما كان المكان فإن جدى يردد سؤاله الشهير «إزاى وصلت لهنا». «(ص118). العبث والسخرية والسوريالية تتجلى فى قصص جيلان الشمسى ومنصورة عز الدين وصفاء النجار. تستخدم الشمسى، وتعمل مهندسة برمجة، العبث لتسرد التغير الواقع على مجموعة من المتخصصين المنبوذين وراء شاشات الكمبيوتر. صورة أينشتاين، وتظهر بشكل غريب، تستحيل حاوية لكل هؤلاء الذين يجدون صورتهم فى المكان الصغير، برسالة مثل «نحن هنا لأننا ننظر لما خلف الأوراق» (77). إن لغز الظهور الغريب يدفعهم للاجتماع للبحث، فيتولد التضامن وتتناقل الخبرة. «أحيانا كنا ننقسم لمجموعات، كل مجموعة تمكث لمدة ساعة واحدة حتى لا يلحظ أحدهم تغيّب عدد كبير من الموظفين عن المكاتب فى وقت واحد.» (79). فى الوقت نفسه، تواصل صورة آينشتاين فى التكاثر بالمكتب حتى تبلغ الرئيس، وتحدث نتائج مفاجئة. تستحضر منصورة عز الدين، وهى كاتبة حاصلة على جوائز ونشرت مجموعتين قصصيتين وأربع روايات، قصة ألن بو المؤرقة «وليم ويلسن» من خلال قصتها «قلعة الشمس». يسرد بطل عز الدين بضمير المتكلم حياة رجل يستحوذ عليه هدف عمل تصميم لقلعة يرسمها بشكل مهووس، حد أن جيرانه «اعتادوا منه على غريب الكلام والأفعال»(91). إن الهوس بإنجاز التصميم يجعل الرجل يختفى ليشغل البطل مكانه، ليكرر كذلك رسوماته حتى أن «قرر الجميع أنى فقدت عقلى» (93). مع ذلك، فى دوران سوريالى، يبدأ الجيران فى تأكيد أنهم رأوا قلعة فى ضواحى البلدة. تتبنى عز الدين أليجوريا معقدة للخلق وإلى أى مدى يتغير الفنان ومحيطه. يستحوذ سحر الغياب فى قصة المترجمة والكاتبة صفاء النجار، وهى قصة بطلتها درويشة زاهدة ترعى حفيدها بعد وفاة ابنتها. ورغم أن بقية أبنائها يلومونها على ورعها الدينى: «يا ماما لا يصح أن تضعى يديك على قلبك وأنت تصلين»(106)، وإعجاب الحكيم الشيخ حسين، تواظب الحية على عقيدتها كتظاهرة للفردانية. «كل ما يحيط بها يفسد رؤاها وأحلامها» (106). تتوسل النجار القدرة الرؤيوية للبطلة كعربة سردية، وتمزج الحدود بين الواقع والفانتازيا حين تتمتع البطلة برؤية تشاهد فيها ابنتها الميتة تعلن خبر تراجيديا، مثل الابنة الشبح ل بيلفود. «ويبدأ التشعب» حتى ترى مجموعة من النساء تخرج قلبها وتعود لترى ابنتها وحفيدتها ربما للمرة الأخيرة (108). يفتح حسن عبد الموجود وطارق إمام أفقًا جديدًا للقصة القصيرة جدًا، ليقرب كل منهما القراء إلى نسيج الحياة اليومية كما يقربهم إلى خبايا الخيال. قصص عيد الموجود، ونشر روايتين وعدة مجموعات قصصية، قصص خيالية وإنسانية بعمق، تجول فى الطفولة، ومن وجهة نظر رجل ناضج يفك شفرة لحظات غامضة، حين لا يحدثونه عن شخصيات تاريخية، مثل الملك فاروق، أو خيالية، مثل السجينين اللذين يتظاهران بلعب الشطرنج. فى قصته حول الجار حنا، الذى «يحلم لأهله ولأصدقائه ونحن جيرانه، تتجلى لعبة المنظور هذه. وذات يوم، تسلم حنا للطفل أموالًا من أبيه. النهاية تصل، للمفارقة، إلى سؤال: «أغلقت الباب وأنا أفكر فى تصرف أبى، لماذا لا يسلمنى المال بنفسه أبدًا ويفضل أن يرسله لى مع الغرباء؟». الرهان المجدد عند طارق إمام يدفع القصة القصيرة جدًا إلى أرض الشعر، حيث تستحيل الكرة الأرضية بطلًا. رؤيته رؤية كلية، وفى الوقت نفسه تخص الحياة الأرضية، بداية من تأمله حول القمر وحتى العالم الذى يسير بالمقلوب، ما يعنى أننا كنا نسير فوق السماء وننظر للشوارع من أعلى؛ أو المدينة التى «تجعل الجميع شركاء فى المغادرة، إخوة فى دمها المزدحم». بعض قصص إمام تذكرنا بقصائد رمون جوميث دى لا سيرنا القصيرة، لتهكمها اللاذع، خاصة فى قسم «هايكو المدينة»، حيث تكتسب ملحوظاته نظرة المتسكع الشعرية والمنفلتة: «بعض الكلاب تحرس أحلام أصحابها، مقيدة بالسلاسل، تعقر المستيقظين». الحركة من خلال فضاء المدينة يميّز نظرة إمام الشعرية، حتى فى القصيدة المهداة إلى الشاعر المصرى أحمد يمانى. «لأن الكلمة تحركت، غادرت مكانها مثل راكبة أنزلها السائق من باص». إن نظرة الكُتّاب الذين يجمعهم هذا العدد تكشف لنا مصر المعاصرة والديناميكية، إذ تعيش تحولًا بدوره يطرح أسئلة عن الذاكرة -الفردية والجمعية- ليكشف شيئًا عن المستقبل فى العجيبة التى تختفى بشكل شبه تلقائى بسبب التدخل البشرى، بكلمات إمام، «الأرضُ ترى السماء حبلَ غسيلٍ ضخم ينقط عليها، كلما سقطت منه قطرةُ نور، كسحتها يدٌ إلى البالوعة». وسواء عبر أينشتاين، أو القلاع التى تنادينا، أو ذكريات الطفولة، أو الشغف المتورع، هذا الضوء يشرق من قصص هؤلاء الكُتّاب. الجدير بالذكر، ان غلاف المجلة تحمل لوحة للرسام المصري المعروف عادل السيوي، وفي المجلة مقالة عن السيوي، كتبها الناقد العراقي فاروق يوسف.